دعوة إلى المشروع الخاص - 2005-12-08

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً ، وأصلي وأسلم على نبي الرحمة محمد وعلى آله الأطهار وصحبه وكل أهل الحق في كل البلاد.

إخواننا الأحبة …. أخواتنا الغاليات ….. سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد : فشكر الله لكم جميعاً حسن أخوتكم الصادقة وطيب مشاركاتكم وجميل نصحكم ، ونرجو أن نبقى دائما على تواد في الله وتناصح وإخاء ، وهذه الكلمة الثانية في موقعنا الصغير وأسأل الله فيها الصواب والسداد.

إخوتي الكرام .. أخواتي الفاضلات :

إن المقدمات غير الصحيحة لا تثمر إلا عواقب وخيمة ، وسنن الله تعالى لا تحابي أحداً ، وعلى المؤمنين أن لايقعوا في فخاخ الجهل السنني، وعندما تقدمت جحافل التتار نحو بغداد لاحتلالها كان جيش الخلافة قد أصبح في غاية الهزال والذلة ولا يزيد تعداده عن عشرة آلاف كثيرون منهم يتسولون أرزاقهم على أبواب المساجد وفي الأسواق، واهتم الحكام بمكاسب الدنيا وأهملوا النظر في الشأن العام واشتد ظلم العمال واشتغلوا بنهب الناس (والملك قد يدوم مع الكفر ولا يدوم مع الظلم) كما يقول المؤرخ أبي الحسن الخزرجي.

لقد أدى الرعب الذي انتشر في العالم عقب سقوط بغداد إلى خوف الصيادين القاطنين على سواحل السويدِ! من الخروج إلى البحر للصيد! فما بالكم بمن عاش المذبحة الرهيبة!

لايوجد في قلوب المسلمين اليوم عموماً رعب من الغرب بل تحد وغضب وشعور مرير بالظلم، ولكن هذه الأمور قد تستخدم مرة ثانية لإهدار طاقة الأمة وإبقائها في دوامة الحيرة والضياع.

ليشق الخطباء حناجرهم في لعن أعدائنا، وليمتلئ الشارع بالهتافات، وليُصعد الإعلام سخطه واستنفاره فكل ذلك لايقفز فوق المقدمات الصحيحة، وأنا أزعم أن الأقدام الغازية لم تأت بسبب قوتها بل بسبب الظلم الذي عشعش في بلاد العرب والمسلمين فقتل الألوف المؤلفة وهجرها وشردها وسجنها وعطل الطاقات ونهب الشعوب وقتل الإبداع والمبادرة، وضيق على كل ذي نشاط وفعالية، ثم قام الظلم بكل صفاقة يتغنى بالبناء والنهضة والتطور ، بعد أن تفرجت الأمم الذبيحة برعب ولعقود على فلذات أكبادها يذبح الواحد منهم وراء الآخر ولا يجرؤ أحد على الكلام في بلاد الصمت الطويل، وإن سمح بشيء فهو من تتمات أصول اللعب والتدويخ والاستيعاب للشعوب المسكينة الغافلة.

لقد حاول البعض الخروج من هذه المتاهات المرعبة حقاً فوقع بعضهم في فكر تكفيري دموي (وهو مانرفضه تماماً) أراق حتى الآن من دماء المسلمين الأبرياء مالم يصبه من دماء المحتلين والغاصبين ؛ هذا عمل من قد يُظن ببعضهم الإخلاص فما بالك بمن هم ضحايا الاختراقات المخابراتية التي لم تعد خافية على متتبع للأمور ، والتي تتعمد كل يوم إعطاء المبرر لزيادة توحش الظالمين وزج الأمم والشعوب التي تجهل الإسلام ورائهم من خلال زرع الكراهية للإسلام وأهله في قلوب أبناء تلك الشعوب وتنفيرهم من الإسلام وأهله ، وبين يدي تلك الأجهزة المخابراتية أطراف ساذجة متقدة العاطفة سقيمة الإدراك تقوم بما عجزت عنه أصابع الحاقدين على الأمة خلال عقود.

ليس ما يصيب الأمة من نكبات اليوم هو أول بلاء أصابها خلال تاريخها ، وقد مر في أرضنا الغزاة والطامعون والمحتلون وخرجوا صاغرين وتعافت الأمة بعد سقم، ولكن ذلك كان لأسباب يجب استنطاق التاريخ وتجاربه لنقف عند سنن ضرورية في المعركة الطاحنة ومنها:

هناك أسباب للقوة ومفاتيح للنصر الدنيوي وهي شيء غير النجاة في الآخرة، ولابد أن ندركها ونجعلها بين أيدينا “بل لاتتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبِّبَاتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل …” كما يقول ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد 4/15.

2- عدم الوقوع في أخلاق الخصم: تقليد الأمة المسلمة لغيرها في العادات الفاسدة شيء مرفوض وذميم ولكن الأخطر منه بكثير التقليد في أصول الأمور، ولقد جاء في الصحيح عندما َقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: z”أَقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ فَقَالَ عُمَرُ أَلَا نَقْتُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْخَبِيثَ لِعَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ” (صحيح البخاري/ المناقب 3518) وجاء في شرح النووي على مسلم (البر والصلة، 2584) في فقه الحديث: “وفيه ترك بعض الأمور المختارة , والصبر على بعض المفاسد خوفا من أن تترتب على ذلك مفسدة أعظم منه , وكان صلى الله عليه وسلم يتألف الناس , ويصبر على جفاء الأعراب والمنافقين وغيرهم لتقوى شوكة المسلمين , وتتم دعوة الإسلام , ويتمكن الإيمان من قلوب المؤلفة , ويرغب غيرهم في الإسلام …” ومن أعظم المفاسد أن يذوب المسلم في كيان الخصم الفاسد وأخلاقه الحربية والسياسية فيصبح الدم هدفه ووسيلته والنسف والتفجير والاعتداء على البشر ديدنه ، فيسود صحائف الأمة كلها بقتل الناس بالجملة دون أن يعلم أن دماء الناس كلهم معصومة في الأصل وأن مايصيبنا من الظلم لا يكون دفعه بظلم أعظم وجهل أفضح نشوه به ديننا وننفر الناس عنه وصلاح النية هنا لا يلغي فساد العمل، وجنود الاحتلال البغيض لايتمترسون في مطعم للعمال وفرن تأتي إليه النساء ولا في دائرة حكومية موظفوها ومراجعوها من لحمنا ودمنا

3- لابد للأمة من مرجعية : وقد أصبح تهديم مرجعيات الأمة المسلمة واضحاً لا يخفى وعلى يد فريقين: فريق من الخصوم صادروا للأمة كل قرار ومنعوا عنها حتى أبسط الحقوق وفرضوا عليها حتى مرجعياتها الدينية بالقرار السياسي لا بالكفاءة ولا بالرضى، وفريق آخر من أبناء الأمة سبب أذى شديداً بضيق أفقه وحصره الإسلام فيما يرى فلا يُبقي لغيره نصيباً في صواب ولا يدعي هو الصواب ويزعم خطأ غيره بل يزعم الإيمان ويدعي كفر مخالفيه وبالتالي فقد شارك هذا الطرف في تدمير مرجعبات الأمة بما لايقل عما فعله أنكى الأعداء فيها ، وكأنه نسي قوله تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون، الآية 52) ، وسنعود لموضوع المرجعية في بحث قادم بإذن الله.

يحق لنا ان نسأل: كيف ولماذا؟ فإن التباكي الذي عودتنا عليه وسائل الإعلام حتى قتلت في النفوس كلمات كثيرة لكثرة مضغها له، كل ذلك لم يقدم للأمة ولا حتى رأس دبوس تعتمد عليه، وإذا كنا نرفض الفكر الدموي والتكفيري، وإذا كنا ضعفاء عاجزين فماذا نفعل وهل نترك الشلل والقلق والخمول يضرب جذوره فينا؟ اللهم لا!

انهارت الأمة عسكرياً وسياسياً في أوقات مختلفة ولكن لم يستطع أحد تدميرها حضاريا وأخلاقياً وإنسانياً، فقد بقيت تضخ الخير والإيمان والحضارة في جلسة علم، وموقف حق ومساعدة محتاج، ومؤسسة وقفية وسبيل ماء وتحقيق مسألة وإكرام جار وعابر سبيل وبر والدين وحنو على رحم وأخت وضعيف وصغير وبائس، وكرم فطري وإشفاق من معصية الله بنعمه، وبقيت الأمة تتنفس الإسلام روحاً اجتماعية وتسامحاً وتديناً فطرياً لاتعقيد فيه ولاتكفير، وبقيت فطرتها نقية النسب كريمة الأصول لاترضى الظلم ولكنها تسلك لدفعه بدل الشتم والصياح الذي عودنا البعض عليه في هذا الزمن الأعجف، والفكر التكفيري الذي ينتسب إليه آخرون، تسلك الصبر والعمل البطيء والإصرار العنيد، وتبث روحها في إتقان عملها وسلامة صدرها وابتداعها أساليب البحث عن البقاء لا في الجحور بل في ساحة مسجد وشموخ مئذنة وقدوة من عالم صالح يأبى النفاق، وفي مصلح هنا ومؤلف هناك وصانع وسباك وزارع وتاجر أمين وفلاح نشيط، وفي وشوشات مشربية خشبية عتيقة وعناق سيباط لآخر ودفء حارة وهمسات ساقية واستقامة شباب وعفة فتيات، وفي فوح زنبقة وأريج ليمونة شامية تهفو لنخلة في بغداد، وإباء لأهل المغرب قارفه حنين ترعة مصرية مع طيب أهل السودان ورقة أهل اليمن إلى النبع الأول في بطاح مكة معقد الخير والضياء.

ليكن لكل منا مشروعه الخاص الصغير ، ودعونا لاننتظر الأمور الخارقة لأن حركة التاريخ كما يقول مالك بن نبي رحمه الله إنما تصنعها آلاف الجهود الصغيرة التي لانلقي لها بالاً، وليكن مشروعنا الخاص الصغير في أي درب مباح فإن موعود الله تعالى حق (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة، 7-8)،
أحمد معاذ الخطيب الحسني

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كلمة الشهر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.