فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة - في مواجهة فكر التكفير

دفعاً لفكر التكفير الذي انتشر بين قليلي العلم والفقه ، وبياناً لعويص المسائل التي احتار في إدراكها البعض ، فاستبدلوا ولو عن حسن نية بالسلامة مركباً وعراً ليس له مع الصواب نسب ولا مع الحق وشيجة ؛ نقدم لإخواننا وأخواتنا الفصل التاسع وماتلاه ؛ مما كتبه حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله حول موضوع التكفير وهو بحث نفيس ، وقد سماه :

فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة

الفصل التاسع: ما يتعلق به التكفير

قد فهمت من هذه التقسيمات أن النظر في التكفير يتعلق بأمور: أحدها: أن النص الشرعي الذي عدل [ به ] عن ظاهره ، هل يحتمل التأويل أم لا ؟ فإن احتمل ، فهل هو قريب أم بعيد ؟ ومعرفة ما يقبل التأويل ، وما لا يقبل التأويل ليس بالهين ، بل لا يستقل به إلا الماهر الحاذق في علم اللغة ، العارف بأصول اللغة ، ثم بعادة العرب في الاستعمال في استعاراتها وتجوزاتها ، ومنهاجها في ضروب الأمثال. الثاني: في النص المتروك أنه ثبت تواتراً أو آحاداً أو ثبت بالإجماع المجرد ، فإن ثبت تواتراً فهل على شرط التواتر أم لا ؟ إذ ربما يظن المستفيض متواتراً ، وحدَّ التواتر ما لا يمكن الشك فيه ، كالعلم بوجود الأنبياء ، ووجود البلاد المشهورة وغيرهما ، وأنه متواتر في الأعصار كلها عصراً بعد عصر إلى زمان النبوة ، فلا يتصور أن يكون قد نقص عدد التواتر في عصر من الأعصار ، وشرط التواتر أن لا يحتمل ذلك ، كما في القرآن ، أما في غير القرآن فيغمض مدرك ذلك جداً ، ولا يستقل بإدراكه إلا الباحثون عن كتب التواريخ ، وأحوال القرون الماضية ، وكتب الأحاديث ، وأحوال الرجال ، وأغراضهم في نقل المقالات إذ قد يوجد عدد التواتر في كل عصر ، ولا يحصل به العلم إذ كان يتصور أن يكون للجمع الكثير رابطة في التوافق ، لاسيما بعد وقوع التعصب بين أرباب المذاهب ، ولذلك ترى الروافض يدّعون النصَّ على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في الإمامة ، لتواتره عندهم ، وتواتَرَ عند خصومهم في أشياء كثيرةٍ خلافُ ما تواترَ عندهم ، لشدّةِ توافُق الروافض على إقامة أكاذيبهم واتّباعها. وأما ما يستند إلى الإجماع فدرك ذلك من أغمض الأشياء ، إذ شرطه أن يجتمع أهل الحل والعقد في صعيد واحد ، فيتفقوا على أمر واحد اتفاقاً بلفظ صريح ، ثم يستمروا عليه مرة عند قوم ، وإلى تمام انقراض العصر عند قوم ، أو يكاتبهم إمام في أقطار الأرض ، فيأخذ فتاويهم في زمان واحد ، بحيث تتفق أقوالهم اتفاقاً صريحاً ، حتى يمتنع الرجوع عنه ، والخلاف بعده ، ثم النظر في أن من خالف بعده هل يكفر ؟ لأن من الناس من قال: إذا جاز في ذلك الوقت أن يختلفوا فيحمل توافقهم على اتفاق ، ولا يمتنع على واحد منهم أن يرجع بعد ذلك وهذا غامض أيضاً. الثالث: النظر في أن صاحب المقال هل تواتر عنده الخبر ، أو هل بلغه الإجماع ؟ إذ كل من ولد بعدهم لا تكون الأمور عنده متواترة ، ولا مواضع الإجماع عنده متميزة عن مواضع الخلاف ، وإنما يدرك ذلك شيئاً فشيئاً ، وإنما يعرف ذلك من مطالعة الكتب المصنفة في الاختلاف وإجماع السلف ، ثم لا يحصل العلم في ذلك بمطالعة تصنيف ولا تصنيفين ، إذ لا يحصل الإجماع به ، وقد صنف أبو بكر الفارسي رحمه الله كتاباً في مسائل الإجماع ، وأنكر عليه كثيراً منه ، وخولف في بعض تلك المسائل ، فإذن من خالف الإجماع ولم يثبت عنده بعد [التواتر] فهو جاهل مخطئ ، وليس بمكذِّب ، فلا يمكن تكفيره ، والاشتغال بمعرفة التحقيق في هذا ليس بيسير. الرابع: النظر في دليله الباعث له على مخالفة الظاهر ، أهو على شرط البرهان أم لا ؟ ومعرفة شروط البرهان لا يمكن شرحها إلا في مجلَّدات ، وما ذكرنا في كتاب (القسطاس المستقيم) وكتاب (محك النظر) أنموذج منه ، وتكلُّ قريحة أكثر فقهاء الزمان عن فهم شروط البرهان على الاستيفاء ، ولابد من معرفة ذلك ، فإن البرهان إذا كان قاطعاً ، رخص في التأويل وإن كان بعيداً ، فإذا لم يكن قاطعاً لم يرخص إلا في تأويل قريب سابق إلى الفهم. الخامس: النظر في أن ذكر تلك المقالة هل يعظم ضررها في الدين أم لا ؟ فإن ما لا يعظم ضرره في الدين فالأمر فيه أسهل ، وإن كان القول شنيعاً وظاهر البطلان ، كقول الإمامية المنتظرة : إن الإمام مختف في سرداب ، وإنه ينتظر خروجه ، فإنه قول كاذب ظاهر البطلان شنيع جداً ، ولكن لا ضرر فيه على الدين ، إنما الضرر على الأحمق المعتقد لذلك ، إذ يخرج كل يوم من بلده لاستقبال الإمام حتى يدخل الليل فيرجع إلى بيته خاسئا ، وهذا مثال ، والمقصود [منه] أنه لا ينبغي أن يكفر بكل هذيان ، وإن كان ظاهر البطلان ، فإذا فهمت أن النظر في التكفير موقوف على جميع هذه المقالات التي لا يستقل بآحادها [إلا] المبرزون ، علمت أن المبادر إلى تكفير من يخالف الأشعري أو غيره ، جاهل مجازف ، وكيف يستقل الفقيه بمجرد الفقه بهذا الخطب العظيم ، وفي أي ربع من أرباع الفقه يصادف هذه العلوم ، فإذا رأيت الفقيه الذي بضاعته مجرد الفقه يخوض في التكفير والتضليل فأعرض عنه ، ولا تشغل به قلبك ولسانك ، فإن التحدي بالعلوم غريزة في الطبع ، لا يصبر عنها الجهال ، ولأجله كثر الخلاف بين الناس ، ولو سكت من لا يدري ، لقلّ الخلاف بين الخلق.

الفصل العاشر رد من كَفَّرَ بالتقليد

من أشد الناس غلواً وإسرافاً طائفة من المتكلمين كفَّروا عوام المسلمين ، وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتنا ، ولم يعرف الأدلة الشرعية بأدلتنا التي حررناها ، فهو كافر ، فهؤلاء ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده أولاً ، وجعلوا الجنة وقفاً على شرذمة يسيرة من المتكلمين ، ثم جهلوا ما تواتر من السنة ثانياً ، إذ ظهر لهم في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعصر الصحابة ، رضي الله عنهم ، حكمهم بإسلام طوائف من أجلاف العرب ، كانوا مشغولين بعبادة الوثن ، ولم يشتغلوا بعلم الدليل ، ولو اشتغلوا به لم يفهموه ، ومن ظن أن مدرك الإيمان الكلام ، والأدلة المجردة ، والتقسيمات المترتبة فقد بعد عن الإنصاف ، بل الإيمان نور يقذفه الله في قلوب عبيده عطية وهدية من عنده ، تارة ببينة من الباطل لا يمكنه التعبير عنها ، وتارة بسبب رؤيا في المنام ، وتارة بمشاهدة حال رجل متدين ، وسراية نوره إليه عند صحبته ومجالسته ، وتارة بقرينة حال ، فقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاحداً به منكراً ، فلما وقع بصره على طلعته البهية زادها الله شرفاً وكرامة فرآها يتلألأ منها أنوار النبوة قال : والله ما هذا بوجه كذاب وسأله أن يعرض عليه الإسلام ، فأسلم ، وجاء آخر إليه عليه السلام وقال : أنشدك الله آلله بعثك نبيَّاً ؟ فقال عليه السلام : \” إي وَاللهِ اللهُ بَعَثَنَي نَبِيَّاً \” فصدقه بيمينه وأسلم ، فهذا وأمثاله أكثر من أن يحصى ، ولم يشتغل أحد منهم بالكلام ، وتعلم الأدلة ، بل كان يبدو نور الإيمان أولاً بمثل هذه القرائن في قلوبهم لمعة بيضاء ، ثم لا تزال تزداد إشراقاً بمشاهدة تلك الأحوال العظيمة ، وتلاوة القرآن ، وبصحبة أرباب القلوب ، فليت شعري متى نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن الصحابة رضي الله عنهم ، إحضار أعرابي أسلم ، وقوله له: الدليل على أن العالم حادث أنه لا يخلو عن الأعراض ، وما لا يخلو عن الحوادث حادث ، وأن الله تعالى عالم بعلم ، وقادر بقدرة زائدة على الذات ، لا هي هو ولا هي غيره ، إلى غير ذلك من رسوم المتكلمين ، ولست أقول : لم تجر هذه الألفاظ ولم يجر أيضا ما معناه معنى هذه الألفاظ ، بل كان لا تنكشف ملحمة إلا عن جماعة من الأجلاف يسلمون تحت ظلال السيوف ، وجماعة من الأسارى يسلمون واحداً واحداً بعد طول الزمان ، أو على القرب ، وكانوا إذا نطقوا بكلمة الشهادة عُلِّموا الصلاة والزكاة ورُدّوا إلى صناعتهم من رعاية الغنم ، أوغيرها . نعم لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذِكْرُ أدلة المتكلمين أحدَ أسباب الإيمان في حق بعض الناس ، ولكن ليس ذلك بمقصورٍ عليه ، وهو أيضا نادرٌ ، بل الأنفع الكلام الجاري في معرض الوعظ كما يشتمل عليه القرآن ، فأما الكلام المحرر على رسم المتكلمين ، فإنه يشعر نفوس المستمعين بأنه فيه صنعة جدلٍ لِيَعجزَ عنه العامّيّ ، لا لكونه حقا في نفسه وربما يكون ذلك سببا لرسوخ العناد في قلبه ، ولذلك لا ترى مجلس مناظرة للمتكلمين ولا للفقهاء ينكشف عن واحد انتقل من اعتزال أو بدعة إلى غيره ، ولا عن مذهب الشافعي إلى مذهب أبي حنيفة ولا على العكس وتجري هذه الانتقالات بأسباب أخر حتى في القتال بالسيف ، ولذلك لم تجر عادة السلف بالدعوة بهذه المجادلات بل شددوا القول على من يخوض في الكلام ، ويشتغل بالبحث والسؤال ، وإذا تركنا المداهنة ومراقبة الجوانب صرّحنا بأن الخوض في الكلام حرامٌ لكثرة الآفة فيه إلا لأحد شخصين : رجل وقعت له شبهة ليست تزول عن قلبه بكلام قريب وعظيّ ، ولا بخبر نقليّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيجوز أن يكون القول المرتب الكلاميّ رافعا شبهته ، ودواءً له في مرضه ، فيُستعمَل معه ذلك ويحرِسُ عنه سمعُ الصحيح الذي ليس به ذلك المرض ، فإنه يوشك أن يحرّك في نفسه إشكالاً ، ويثير له شبهة تمرِّضُهُ ، وتستنزله عن اعتقاده المجزوم الصحيح . والثاني : شخص كامل العقل ، راسخ القدم في الدين ، ثابت الإيمان بأنوار اليقين ، يريد أن يحصِّل هذه الصنعة ليداوي بها مريضاً ، إذا وقعت له شبهة ، وليفحم بها مبتدعا إذا نبغ ، وليحرس به معتقده إذا قصد مبتدع إغواءه ، فتعلُّمُ ذلك بهذا العزم كان من فروض الكفايات ، وتعلُّمُ قدرَ ما يزيلُ [به] الشك ويدرأ الشبهة في حق المشكل فرضُ عينٍ إذا لم يمكن إعادة اعتقاده المجزوم بطريق آخر سواه ، والحق الصريح أن كل من اعتقد ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام ، واشتمل عليه القرآن اعتقاداً جزماً فهو مؤمن وإن لم يعرف أدلته ، بل الإيمان المستفاد من الدليل الكلامي ضعيف جداً مشرف على التزلزل بكل شبهة ، بل الإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع ، أو الحاصل بعد البلوغ بقرائن أحوال لا يمكن التعبير عنها ، وتمام تأكده بملازمة العبادة والذكر ، فإن من تمادت به العبادة إلى حقيقة التقوى ، وتطهير الباطن عن كدورات الدنيا ، وملازمة ذكر الله تعالى دائماً تجلت له أنوار المعرفة ، وصارت الأمور التي كان قد أخذها تقليداً عنه كالمعاينة والمشاهدة ، وذلك حقيقة المعرفة التي لا تحصل إلا بعد انحلال عقدة الاعتقادات ، وانشراح الصدر بنور الله تعالى (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام فهو على نور من ربه) [الزمر : 22 ] ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى شرح الصدر فقال : (نور يقذفه في قلب المؤمن ، فقيل : وما علامته ؟ قال : التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود) فبهذا يعلم أن المتكلم المقبل على الدنيا ، المتهالك عليها ، غير مدرك حقيقة المعرفة ، ولو أدركها لتجافى عن دار الغرور قطعاً.

الفصل الحادي عشر بيان حقيقة ما به الكفر

لعلك تقول : أنت تأخذ التكفير من التكذيب للنصوص الشرعية ، والشارع صلوات الله عليه هو الذي ضيَّق الرحمة على الخلق دون المتكلم ، إذ قال عليه السلام : ( يقول الله تعالى لآدم عليه السلام يوم القيامة : يا آدم ابعث من ذريتك بُعَثَ النار فيقول: يارب من كم ؟ فيقول : من كل ألف ، تسعمائة وتسع وتسعين ) وقال عليه الصلاة والسلام : (ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة ، الناجية منها واحدة ). الجواب : أن الحديث الأول صحيح ، ولكن ليس المعني به ، أنهم كفار يخلدون في النار ، بل إنهم يدخلون النار ، ويعرضون عليها ويتركون فيها بقدر معاصيهم ، والمعصوم من المعاصي لا يكون في الألف إلا واحداً وكذلك قال الله تعالى: (وإن منكم إلا واردها) ثم بعث النار عبارة عمن استوجب النار بذنوبه ، ويجوز أن يصرفوا عن طريق جهنم بالشفاعة ، كما وردت به الأخبار ، وتشهد له الأخبار الكثيرة الدالة على سعة رحمة الله تعالى ، وهي أكثر من أن تحصى ، فمنها ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فابتغيته ، فإذا هو في مشربة يصلي ، فرأيت على رأسه أنوارا ثلاثة ، فلما قضى صلاته قال : ( مُهَيِمٌ من هذه ؟ قلت أنا عائشة يا رسول الله ! قال : أرأيت الأنوار الثلاثة ؟ قلت : نعم يا رسول الله . قال : إنَّ آتٍ أتاني من ربي فبشرني أن الله تعالى يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب ولا عذاب ، ثم أتاني في النور الثاني آت من ربي فبشرني أن الله تعالى يدخل الجنة من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفا سبعين ألفا بغير حساب ولا عذاب ، ثم أتاني في النور الثالث آتٍ من ربي فبشرني أن الله تعالى يدخل من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفا المضاعفة سبعين ألفا بغير حساب ولا عذاب ، فقلت : يا رسول الله لا تبلغ أمتك هذا قال : يُكْمَلُون لَكُم من الأعراب ممَّن لا يصوم ولا يصلي )[ملاحظة : يحتاج الحديث إلى تحقيق] . فهذا وأمثاله من الأخبار الدالة على سعة رحمة الله تعالى كثيرٌ ، فهذا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ، وأنا أقول [ إن ] : إن الرحمة تشمل كثيراً من الأمم السالفة وإن كان أكثرهم يعرضون على النار ، إما عرضة خفيفة حتى في لحظة أو في ساعة ، وإما في مدة حتى يطلق عليهم بعث النار ، بل أقول : إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى أعني الذين هم في أقاصي الروم والترك ، ولم تبلغهم الدعوة ، فإنهم ثلاثة أصناف : صنف لم يبلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم أصلاً ، فهم معذورون ، وصنف بلغهم اسمه ونعته وما ظهر عليه من المعجزات وهم المجاورون لبلاد الإسلام والمخالطون لهم ، وهم الكفار الملحدون ، وصنف ثالث بين الدرجتين بلغهم اسم محمد صلى الله عليه وسلم ولم يبلغهم نعته وصفته ، بل سمعوا أيضاً منذ الصبا أن كذاباً ملبساً اسمه محمد ادعى النبوة ، كما سمع صبياننا أن كذاباً يقال له المقفع تحدى بالنبوة كاذباً ، فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول ، فإنهم مع أنهم لم يسمعوا اسمه سمعوا ضد أوصافه ، وهذا لا يحرك داعية النظر في الطلب. وأما الحديث الآخر : وهو قوله : (الناجية منها واحدة) فالرواية مختلفة فيه ، فقد روي الهالكة منها واحدة ولكن الأشهر تلك الرواية ، ومعنى الناجية هي التي لا تعرض على النار ، ولا تحتاج إلى الشفاعة ، بل الذي تتعلق به الزبانية لتجرَّه إلى النار فليس بناج على الإطلاق ، وإن انتزع بالشفاعة عن مخاليبهم ، وفي رواية كلها في الجنة ، إلا الزنادقة ، وهي فرقة ، ويمكن أن تكون الروايات كلها صحيحة ، فتكون الهالكة واحدة ، وهي التي تخلد في النار ، ويكون الهالك عبارة عمن وقع اليأس عن خلاصه ، لأن الهالك لا يرجى له بعد الهلاك خير ، وتكون الناجية واحدة ، وهي التي تدخل الجنة بغير حساب ولا شفاعة لأن ( من نوقش الحساب فقد عذب ) فليس بناجٍ إذاً ، ومن عُرِّض للشفاعة فقد عرض للمذلة فليس بناج [ أيضاً ] على الإطلاق ، وهذان طريقان وهما عبارة عن شر الخلق وخيره ، وباقي الفرق كلهم بين هاتين الدرجتين ، فمنهم من يعذب بالحساب فقط ، ومنهم من يقرب من النار ثم يصرف بالشفاعة ، ومنهم من يدخل النار ثم يخرج على قدر خطاياهم في عقائدهم وبدعتهم ، وعلى كثرة معاصيهم وقلتها ، فأما الهالكة المخلدة في النار من هذه الأمة فهي فرقة واحدة ، وهي التي كذبت وجوَّزت الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمصلحة. وأما من سائر الأمم : فمن كذَّبه بعدما قرع سمعه على التواتر خروجه وصفته ومعجزاته الخارقة للعادة ، كشق القمر ، وتسبيح الحصا ، ونبع الماء من بين أصابعه ، والقرآن المعجز الذي تحدَّى به أهل الفصاحة ، فعجزوا عنه ، فإذا قرع ذلك سمعه فأعرض عنه ، وتولى ، ولم ينظر فيه ، ولم يتأمل ، ولم يبادر إلى التصديق ، فهذا هو الجاحد الكاذب ، وهو الكافر ، ولا يدخل في هذا أكثر الروم والترك الذين بعدت بلادهم عن بلاد الإسلام ، بل أقول : من قرع سمعه هذا ، فلا بد أن تنبعث منه داعية الطلب ليستبين حقيقة الأمر إن كان من أهل الدين ، ولم يكن من الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، فإن لم تنبعث فيه هذه الداعية ، فذلك لركونه إلى الدنيا ، وخلوه عن الخوف وخطر أمر الدين ، وذلك كفر ، وإن انبعثت الداعية ، فقصًّر عن الطلب فهو أيضاً كفر ، بل ذو الإيمان بالله واليوم الآخر من أهل كل ملة لا يمكنه أن يفتر عن الطلب بعد ظهور المخايل بالأسباب الخارقة للعادة ، فإن اشتغل بالنظر والطلب ولم يقصِّر فأدركه الموت قبل تمام التحقيق فهو أيضاً مغفور له ، ثم له الرحمة الواسعة ، فاستوسع رحمة الله تعالى ، ولا تزن الأمور الإلهية بالموازين المختصرة الرسمية . واعلم أن الآخرة قريب من الدنيا : ( فما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) [لقمان : 28 ] فكما أن أكثر أهل الدنيا في نعمة وسلامة أو في حالة يغبطها ، إذ لو خير بينها وبين الإماتة والإعدام مثلاً لاختارها ، وإنما المعذب الذي يتمنى الموت نادر ، فكذلك المخلدون في النار بالإضافة إلى الناجين ، والمخرجين منها في الآخرة نادر ، فإن صفة الرحمة لا تتغير باختلاف أحوالنا ، وإنما الدنيا والآخرة عبارتان عن اختلاف أحوالك ، ولولا هذا لما كان لقوله عليه الصلاة والسلام معنى حيث قال : ( أوّلُ ما خطّ اللهُ في الكتاب الأوّلِ : أنا الله لا إله إلا أنا ، سبقت رحمتي غضبي ، فمن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فله الجنة ) . واعلم أن أهل البصائر قد انكشف لهم سبق الرحمة وشمولها بأسباب ومكاشفات سوى ما سمعوه من الأخبار والآثار ، ولكن ذكر ذلك يطول ، فأبشر برحمة الله وبالنجاة المطلقة إن جمعت بين الإيمان والعمل الصالح ، وبالهلاك المطلق إن خلوت عنهما جميعاً ، وإن كنت صاحب يقين في أصل التصديق ، وصاحب خطأ في بعض التأويلات ، أو صاحب شك فيهما ، أو صاحب خلط في الأعمال ، فلا تطمع في النجاة المطلقة . واعلم أنك بين أن تعذب مدة ثم تخلى ، وبين أن يشفَعَ فيك من تيقنْتَ صدقه في جميع ما جاء به أو غيره ، فاجتهد أن يغنيك الله بفضله عن شفاعة الشفعاء ، فإن الأمر في ذلك خطِرٌ.

الفصل الثاني عشر في أن مآخذ التكفير من الشرع

قد ظن بعض الناس أن مأخذ التكفير من العقل لا من الشرع ، وأن الجاهل بالله كافر ، والعارف به مؤمن ، فيقال له : الحكم بإباحة الدم ، والخلود في النار ، حكم شرعي ، لا معنى له قبل ورود الشرع ، وإن أراد به أن المفهوم من الشارع أن الجاهل بالله هو الكافر ، فهذا لا يمكن حصره فيه ، لأن الجاهل بالرسول وبالآخرة أيضاً كافر ، ثم إن خصص ذلك الجهل بذات الله تعالى أو بجحد وجوده أو وحدانيته ولم يطَّرده في الصفات ، فربما سوعد عليه ، وإن جعل المخطئ في الصفات أيضاً جاهلاً أو كافراً لزمه تكفير من نفى صفة البقاء ، وصفة القدم ، ومن نفى الكلام وصفاً زائداً على العلم ، ومن نفى السمع والبصر زائداً على العلم ، ومن نفى جواز الرؤية ، ومن أثبت الجهة ، وأثبت إرادة حادثة [ لا ] في ذاته ولا في محل ، وتكفير المخالفين فيه . وبالجملة يلزم التكفير في كل مسألة تتعلق بصفات الله تعالى ، وذلك حكم لا مستند له ، وإن خصص ببعض الصفات دون بعض لم يجد لذلك فصلاً ومردَّاً ، ولا وجه له إلا الضبط بالتكذيب ، ليعم المكذب بالرسول وبالمعاد ، ويخرج منه المؤوّل ، ثم لا يبعد أن يقع الشك والنظر في بعض المسائل ، من جملة التأويل أو التكذيب حتى يكون التأويل بعيداً ، ويقضى فيه بالظن ، وموجب الاجتهاد ، فقد عرفت أن هذه مسألة اجتهادية.

الفصل الثالث عشر في أن من الناس من يكفِّر من يكفِّر من الناس

من قال إنما أكفّر من يكفّرني من الفرق . ومن لا يكفّرني فلا . وهذا لا مأخذ له : فإن قال قائل : علي رضي الله عنه أولى بالإمامة إذا لم يكن كفراً ، فبأن يخطئ صاحبُهُ ويَظُنَّ أن المخالف له فيه كافر ، لا يصير كافراً ، وإنما هو خطأ في مسألة شرعية ، وكذلك الحنبليّ إذا لم يكفر بإثبات الجهة ، فلم يكفر بأن يغلط ، أو يظن أن نافي الجهة مكذِّبٌ ، وليس بمتأول ، وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : \” إذا قذف أحد المسلمين صاحبة بالكفر فقد باء به أحدهما \” معناه أن يكفّره مع معرفته بحاله ، فمن عرف مَنْ غيرَهُ أنه مصدق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يكفّره فيكون المكفِّرُ كافراً . فأما إن كفّره لظنه أنه مكذِّب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا غلَطٌ منه في حال شخص واحد إذ [ قد ] يظن به أنه كافر مكذب وليس كذلك ، وهذا لا يكون كفراً . فقد أفدناك بهذه الترديدات التنبيهَ على أعظم الفَورِ في هذه القاعدة ، وعلى القانون الذي أن يُتَّبَع فيه ، فاقنع به والسلام.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف المناهج. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.