المهندس نجاد برانكوفيتش

خطب مدلهم أسود , ليل كثيف قاتم يجثم على الأيام والأحداث , وفي صدر الأمة الإسلامية العاري تشخب الجروح دماً , وهناك جرحٌ مازال ينز , والقلب منه يئن رغم مرور بضع سنين , هل أبصرته؟ إنه شلال الدماء في البوسنة!

حدق بالجرح ملياً ففيه يعشش الموت وحوله تنتثر المأساة , لكن,حدق ثانيةً بعمق , ففي أغوار الموت هناك مَن يضيء مشاعل للحياة , هناك مَن يصنعها بصمت ويغذيها بإخلاص تاركاً بصماتٍ مسلمةً على جدار السنين , واضعاً لبنةً إبداعيةً إسلاميةً وبصمة تفوق لا تمحى على جبين الأمجاد , نعم , إن من أعظم المبدعين رجالٌ يجيدون الإعمار في جحيم الخراب , ومن رحم الموت يصنعون الحياة. ويبدو الشاهد في هذه القصة جلياً ، ولا يظننها أحدٌ ضرباً من خيالٍ وإن بدت كذلك , ففيها يتتأجج لهيب الحرص على الأمة ويتدفق الإيمان ويتقد العقل وتظهر عظمة الأيدي التي تقاوم وتبني ولا تعرف المستحيل.

تبدأ قصتنا من جسر نهر (درينا) القريب من قرية (فيتشوجراد) بالبوسنة , فهناك طفل صغير وقف يرقب صفحة النهر و الجسر يظللها بعينين دامعتين , كان يعلم أن مياهه اختلطت بدماء المسلمين سنين عديدة , لقد أخبروه وهو صغير أن اثنا عشر ألف مسلم ذبحوا في قرية (فوتشا) وألقيت جثثهم في النهر! لكنه يحس بالمرارة اليوم أكثر , فلقد فقد أباه! قتله الصرب في سراييفو حيث أُرسل إلى العاصمة في مهمة ولم يعد منها , فبقي الطفل وحيداً مع أمٍ وأخٍ شقيق كتب عليهم أن يصارعوا الحياة وحدهم , وتمر الأيام مسرعة ليغدو ذاك الطفل (نجاد برانكوفيتش) مهندساً من ألمع المهندسين , إنه يتخصص في بناء الجسور ويبرع في مجاله ويشارك وهو مازال مهندساً ناشئاً في بناء سبعة وثلاثين جسراً على التوالي مما أكسبه خبرة عريضةً في ذلك , لقد انتقل إلى سراييفو وحصل على منزل متواضعٍ مناسبٍ لعائلته الغضة بعدما أنجب ابنه (عدنان) إنه يحبه جداً , لكن الصغير يبكي وينتفض برعبٍ ويصرخ في أهله : “لماذا أنجبتموني لأعيش في هذا الجحيم؟” عن أي جحيمٍ تتحدث أيها الصغير؟ إنها الحرب التي اندلعت شرارتها فأرعبت الصغير و أذهلت الشيخ الكبير ؛ انفجارات وحرائق وقذائف تهز الأبنية وتخترق جدرانها ونوافذها فتقتل الأهل والجيران والأحباب, لكن تلك العبارة تطن في أذن نجاد وتزق نياط قلبه , لقد انفجر باكياً وهو يحتضن ابنه ويقول له : “إن الله معنا ولن يتخلى عنا!”.

نجادٌ جنديٌ اليوم في الجبهة مع كل أقرانه من الموظفين المدنيين الذين تحولوا إلى جنودٍ يدافعون عن سراييفو والبوسنة التي لم يكن لها جيش! وحين دمر الصرب خطوط السكة الحديد المؤدية إلى مدينة (موستار) , كان (نجاد) في مقدمة الذين طلب منهم ترميم تلك الجسور , غير أنه فوجئ ذات يوم بالجنرال (رشيد زورلاك) -قائد الإمدادات- يستدعيه ، ويصدر إليه الأمر بإعداد تصميمٍ لنفقٍ سريٍ تحت مدرج المطار يصل ما بين منطقتي (دوبرينا) في شمال سراييفو و (بوتميرا) الواقعة في منطقةٍ يسيطر عليها المسلمون وراء الخطوط الصربية. إن (سراييفو) تختنق , وما لم يتوافر منفذٌ يوصل المؤن والأغذية للمدينة فإنها لن تستطيع الاستمرار في المقاومة! لم ينم نجاد ليلته تلك ,كان صوت ابنه يطن في أذنيه حاثاً له , وطيف أبيه يشد على يده مؤيداً ، وجسر نهر(درينا) المصبوغ بدماء الأبرياء يلوح من يعيد وتلوح معه الفكرة , إن عليه أن يعاين الموقع بنفسه ليحدد مكان النفق , لكن المشكلة أن المطار والمدرج ضمناً يقعان تحت سيطرة القوات الصربية والدولية , والمنطقة مليئة بالأسلاك الشائكة والصرب يطلقون النار على كل من يحاول عبور المدرج ، و(نجاد) لا يتعين عليه قطع المسافة من (دوبرينا) إلى الجهة الأخرى والبالغة أربعمائة وخمسين متراً فقط , بل يجب أن يعود من حيث ذهب , مما يضاعف المغامرة! وأخيراً وجد الحل وعرضه على المهندس (باقر) ابن الرئيس (علي عزت بيكوفيتش) , لصلة ٍسابقةٍ معه , إنهم سيركضون بثياب الرياضة بين النقطتين كمن يقوم برياضة الصباح , ولقد فعلوها أربعاً وعشرين مرة , وفي كل مرةٍ كانوا يتعرضون لإطلاق النار! لكن الله كان يحرسهم ولم يتخل عنهم . خلال شهر كان قد انتهى من تصميم النفق وإعداد الدراسات اللازمة واقترح أن يتم الحفر من الجانبين في وقت واحد ليلتقي في نقطة معينة , وألا يكون النفق مستقيماً وإنما منحرفاً في شقٍ منه للتمويه على الصرب , لكن متخصصين آخرين شككوا في إمكانية نجاح الفكرة. استمع الرئيس (علي عزت) إلى كل الآراء وأخيراً أيد رأي المهندس نجاد , وفي الثاني عشر من كانون الثاني عام 1993صدر الأمر بالبدء في حفر النفق , كان الأمر حافلاً بالصعوبات , فالأمن والتخفي هي المشكلة الأولى , إخفاء الأتربة التي يستخرجونها من بطن الأرض والتي قدرت بثلاثة آلاف مترٍ مكعبٍ ونقص الإمكانات هو المشكلة الثانية , وكل ما توافر هو وسائل بدائية ، وإضافةً إلى ذلك مشكلات التنفس والتهوية والإضاءة , وإمكانية وقوع مفاجآت مثل ظهور المياه أو الاصطدام بالصخور , والعاملون معظمهم من كبار السن لأن الشبان الأقوياء كانوا على الجبهة , لكن المسألة كانت مسألة صمودٍ أو هزيمة! بل بقاءٍ أو فناء! كان عليهم أن يحفروا مسافةً بطول خمسمائة متر بين نقطتي الدخول والخروج , وأن يكون ذلك تحت سطح الأرض بثمانين سنتمترا ًو أن تنجز المهمة في أربعة أشهر ٍ, لكي يتم ذلك يجب الحفر في كل يوم خمسة أمتار ، وهذا يعني تواصل العمل طيلة أربعٍ وعشرين ساعةً وهو ما حدث بالفعل , قام به مائة وعشرون جندياً , ستون على كل جانب , ولم يكن ما جرى خارج النفق أقل إثارةً فقد هرب أحد الجنود الصرب الذين كانوا يعملون مع اللواء الميكانيكي البوسني وأخبر الصرب بخبر النفق , ولكن من رعاية الله أن العمل كان في أوله فاستطاعوا أن يعرفوا موضع الحفر دون وجهته , فما كان منهم إلا أن أمطروا نقطة البدء في (دوبرينا) بالقاذفات ، ولم يصيبوا الهدف لكفاءة التخفي في الجانب المسلم , وظهرت حسنة (نجاد) باقتراحه جعل النفق مائلاً عندما أحضر الصرب الجرافات التي ظلت تدق الأرض في النقطة الواصلة يشكلٍ مستقيم مع بداية النفق والواقعة تحت سيطرتهم في منطقة المدرج ولكن دون جدوى , ولفتة ٌطريفةٌ كريمةٌ أخرى من (نجاد) ظهرت في مخطط النفق , ذلك أنه كان بعرض مترٍ واحدٍ وارتفاع 160سم من (دوبرينا) و180سم من الناحية الأخرى من (بوتميرا) مما يسمح للشخص العادي بالمرور, لكنه عندما يريد الخروج من الطرف الثاني فلا بد أن ينحني قليلاً وحين سئل نجاد عن سبب ذلك قال ضاحكاً :”لكي يحني كل واحدٍ رأسه وهو داخلٌ إلى سراييفو”. اقتربت اللحظة الحاسمة في السادس والعشرين من تموز , يوم اللقاء المفترض للحفر , وعلا وجيب قلب نجاد وهو يستمع لدقات الحفر على الجانب الآخر ويتخيل الرئيس علي عزت في جنيف ، وانتظاره للخبر الذي سيحدد مصير المفاوضات , كان يتصل باستمرار ليستعلم النبأ , لكن اليوم المرتقب قد حل ولم يلتق الطرفان , من يحمل مثل قلب نجاد يدرك أي ألم يعتصره الآن , إنه يدخل في النفق يقف عند آخر نقطةٍ يتأملها و يفكر ثم يخرج , ثم يدخل ثانيةً , طيلة أربعة أيام مرت كالدهور صارع خيبة الأمل التي كادت تمزقه ، وأقلقه وقض مضجعه تعلق مصير المفاوضات-التي تعمد الرئيس علي عزت إطالتها في جنيف- بنجاح عمليته , لكنه في مساء اليوم الرابع لاح له الأمل مع قطعة السيخ التي اخترقت التراب من الجانب الآخر , إذاً لقد نجحوا!

طار (نجاد) على جناح البشرى ليزفها للرئيس , لقد اخترقوا بعون الله حصار سراييفو , واتخذ الرئيس علي عزت موقفاً متشدداً رافضاً التنازلات , الفرحة والدهشة تعم العاملين في النفق , فقد كان اللقاء في النقطة المحددة تماماً دون أن يحيد ولو سنتمتراً واحداً , وهو ما يعد معجزة هندسية في حفر يتم من اتجاهين , وبسرعة وهمة مدت القضبان الحديدية في النفق ومضت عليها العربات تحمل الذخيرة والمؤن والنجاة لسراييفو , تلك النجاة التي عبرت على جسد (مجيد عاريفوفيتش) أحد الحفارين الذي بدأ العمل بحماسة من (دوبرينا) وكله أمل برؤية زوجه وابنه الذي ولد بعيداً عنه في (بوتميرا) لكن قذيفةً صربية أوصلته إلى الجنان ، وأشعلت بروحه الطاهرة وجثته الممزقة , نار العزيمة والتصميم العنيد في (سراييفو) وبثت روح المقاومة والثبات في مئات الآلاف من المحاصرين والجياع! أ فتخفى على الناظر لبنةٌ مضيئةٌ كهذه اللبنة وآلاف غيرها مازال المبدعون المسلمون يعمرون بها صرح الحياة ، ويصنعونها بإخلاص مذهل وصمت عجيب

الكاتب : الأخت الفاضلة ريم نقلاً عن مجلة وا إسلاماه

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف مقالات القراء, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.