من طبائع الاستبداد للكواكبي - الاستبداد والعلم

عبد الرحمن الكواكبي
الاستبداد والعلم

ما أشبه المستبد في نسبته إِلى رعيته بالوصي الخائن القوي, يتصرف في أموال الأيتام وأنفسهم كما يهوى ما داموا ضِعافاً قاصرين, فكما أنه ليس من صالح الوصي [الفاسد] أن يبلغ الأيتام رشدهم, كذلك ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم.
لا يخفى على المستبد, مهما كان غبياً, أن لا استعباد ولا اعتساف إِلاَّ ما دامت الرعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه عماء, فلو كان المستبد طيراً لكان خفاشاً يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل, ولو كان وحشاً لكان ابن آوى يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل, ولكنه هو الإنسان يصيد عالِمَهُ جاهِلُهُ.
العلم قبسة من نور الله وقد خلق الله النور كشافاً مبصراً, ولاَّداً للحرارة والقوة, وجعل العلم مثله وضَّاحاً للخير فضَّاحاً للشر, يولِّد في النفوس حرارة وفي الرؤوس شهامة, العلم نور والظلم ظلام ومن طبيعة النور تبديد الظلام, والمتأمل في حالة كل رئيس ومرؤوس يرى كل سلطة الرئاسة تقوى وتضعف بنسبة نقصان علم المرؤوس وزيادته.
المستبد لا يخشى علوم اللغة, تلك العلوم التي بعضها يقوِّم اللسان وأكثرها هزل وهذيان يضيع به الزمان, نعم لا يخاف علم اللغة إذا لم يكمن وراء اللسان حكمة حماس تعقد الأولوية, أَو سحر بيان يحل عقد الجيوش, لأنه يعرف أن الزمان ضنين بأن تلد الأمهات كثيراً من أمثال الكميت وحسان أَو مونتيسكيو وشيللار.
وكذلك لا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد المختصة ما بين الإنسان وربه, لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة, وإنما يتلهى بها المتهوسون للعلم حتى إذا ضاع فيها عمرهم, وامتلأتها أدمغتهم, وأخذ منهم الغرور ما أخذ, فصاروا لا يرون علماً غير علمهم, فحينئذ يأمن المستبد منهم كما يؤمَن شر السكران إذا خمر. على أنه إذا نبغ منهم البعض ونالوا حرمة بين العوام لا يعدم المستبد وسيلة لاستخدامهم في تأييد أمره ومجاراة هواه في مقابلة أنه يضحك عليهم بشيء من التعظيم, ويسدُّ أفواههم بلقيمات من فتات مائدة الاستبداد؛ وكذلك لا يخاف من العلوم الصناعية محضاً لأن أهلها يكونون مسالمين صغار النفوس, صغار الهمم, يشتريهم المستبد بقليل من المال والإعزاز؛ ولا يخاف من الماديين لأن أكثرهم مبتلون بإيثار النفس, ولا من الرياضيين لأن غالبهم قصار النظر.
ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية, والفلسفة العقلية, وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع, والسياسة المدنية, والتاريخ المفصل, والخطابة الأدبية, ونحو ذلك من العلوم التي تكبِّر النفوس وتوسِّع العقول وتعرِّف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها وكيف الطلب, وكيف النوال, وكيف الحفظ. وأخوف ما يخاف المستبد من أصحاب هذه العلوم المندفعين منهم لتعليم الناس بالخطابة أَو الكتابة وهم المعبَّر عنهم في القرآن بالصالحين والمصلحين في نحو قوله تعالى: ,أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ- , وفي قوله: ,وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ-, وإن كان علماء الاستبداد يفسرون مادة الصلاح والإصلاح بكثرة التعبد, كما حوَّلوا معنى مادة الفساد والإفساد: من تخريب نظام الله إِلى التشويش على المستبدين.
والخلاصة أن المستبد يخاف من هؤلاء العلماء العاملين الراشدين المرشدين, لا من العلماء المنافقين أَو الذين حفر رؤوسَهم محفوظاتٌ كثيرة كأنها مكتبات مقفلة!
كما يبغض المستبد العلمَ لنتائجه يبغضه أيضاً لذاته, لأن للعلم سلطاناً, فلا بد للمستبد من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينيه على من هو أرقى منه علماً, ولذلك لا يحب المستبد أن يرى وجه عالم عاقل يفوق عليه فكراً, فإذا اضطر لمثل الطبيب والمهندس يختار الغبي المتصاغر المتملق. وعلى هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله ” فاز المتملقون” , وهذه طبيعة كل المتكبرين بل في غالب الناس, وعليها مبنى ثنائهم على كل من يكون مسكيناً خاملاً لا يُرجى لخيرٍ ولا لشر.
وينتج مما تقدم أن بين الاستبداد والعلم حرباً دائمة وطراداً مستمراً: يسعى العلماء في تنوير العقول ويجتهد المستبد في إطفاء نورها, والطرفان يتجاذبان العوام. ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا, وإذا خافوا استسلموا, كما أنَّهم هم الذين متى علموا قالوا ومتى قالوا فعلوا.
العوام هم قوَّة المستبد وقُوتُهُ, بهم عليهم يصول ويطول؛ يأسرهم, فيتهللون لشوكته؛ ويغصب أموالهم, فيحمدونه على إبقائه حياتهم؛ ويهينهم فيثنون على رفعته؛ ويغري بعضهم على بعض, فيفتخرون بسياسته؛ وإذا أسرف في أموالهم, يقولون كريماً؛ وإذا قتل منهم ولم يمثِّل, يعتبرونه رحيماً؛ ويسوقهم إِلى خطر الموت, فيطيعونه حذر التوبيخ؛ وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة.
والحاصل أن العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة, فإذا ارتفع الجهل وتنوَّر العقل زال الخوف, وأصبح الناس لا ينقادون طبعاً لغير منافعهم, كما قيل: العاقل لا يخدم غير نفسه, وعند ذلك لا بد للمستبد من الاعتزال أَو الاعتدال. وكم أجبرت الأمم, بترقيها, المستبد اللئيم على الترقي معها والانقلاب, رغم طبعه, إِلى وكيل أمين يهاب الحساب, ورئيس عادل يخشى الانتقام, وأب حليم يتلذذ بالتحابب. وحينئذ تنال الأمة حياة رضية هنيئة, حياة رخاء ونماء, حياة عزٍّ وسعادة؛ ويكون حظ الرئيس من ذلك رأس الحظوظ, بعد أن كان في دور الاستبداد أشقى العباد, لأنه كان على الدوام ملحوظاً بالبغضاء ومحاطاً بالأخطار, غير أمين على رياسته, بل وعلى حياته طرفة عين؛ ولأنه لا يرى قط أمامه من يسترشده فيما يجهل لأن الواقف بين يديه مهما كان عاقلاً متيناً, لا بد أن يهابه فيضطرب باله فيتشوش فكره ويختل رأيه فلا يهتدي إِلى الصواب, وإن اهتدى فلا يجسر على التصريح به قبل استطلاع رأي المستبد, فإن رآه متصلباً فيما يراه فلا يسعه إلاَّ تأييده رشداً كان أَو غيَّاً؛ كل مستشار غيره يدَّعي أنه غير هياب فهو كذاب؛ والقول الحق إن الصدق لا يدخل قصور الملوك؛ بناء عليه لا يستفيد المستبد قط من رأي غيره بل يعيش في ضلال وتردد وعذاب وخوف, وكفى بذلك انتقاماً منه على استعباده الناس وقد خلقهم ربهم أحراراً.
إن خوف المستبد من نقمة رعيته أكثر من خوفهم بأسه, لأن خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقه منهم؛ وخوفهم ناشئ عن جهل؛ وخوفه عن عجز حقيقي فيه, وخوفهم عن توهم التخاذل فقط؛ وخوفه على فقد حياته وسلطانه, وخوفهم على لقيمات من النبات على وطن يألفون غيره في أيام؛ وخوفه على كل شيء تحت سماء ملكه, وخوفهم على حياة تعيسة فقط.
كلما ازداد المستبد ظلماً واعتسافاً زاد خوفه من رعيته وحتى من حاشيته, وحتى من هواجسه وخيالاته. وأكثر ما تُخْتَم حياة المستبد بالجنون التام. قلت التام لأن المستبد لا يخلو من الحمق قط لنفوره من البحث عن الحقائق, وإذا صادف وجود مستبد غير أحمق فيسارعه الموت قهراً إذا لم يسارعه الجنون أَو العته؛ وقلت إنه يخاف من حاشيته لأن أكثر ما يبطش بالمستبدين حواشيهم لأن هؤلاء هم أشقى خلق الله حياة, يرتكبون كل جريمة وفظيعة لحساب المستبد الذي يجعلهم يمسون ويصبحون مخبولين مصروعين, يجهدون الفكر في استطلاع ما يريد منهم فعله بدون أن يطلب أَو يصرِّح. فكم ينقم عليهم ويهينهم لمجرد أنهم لا يعلمون الغيب, ومن ذا الذي يعلم الغيب, الأنبياء والأولياء؟ وماهؤلاء إِلاَّ أشقياء؛ أستغفرك اللهم! لا يعلم غيبَك نبيٌّ ولا وليٌّ, ولا يدَّعي ذلك إِلاَّ دجَّال, ولا يظن صدقه إِلاَّ المغفَّل, فإنَّك اللهم قلت وقولك الحق: ,عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا- وأفضل أنبيائك يقول: لو علمت الخير لاستكثرت منه.
من قواعد المؤرخين المدققين أن أحدهم إذا أراد الموازنة بين مستبدين, كنيرون وتيمور مثلاً, يكتفي أن يوازن درجة ما كانا عليه من التحذر والتحفظ, وإذا أراد المفاضلة بين عادلين, كأنوشروان وعمر الفاروق, يوازن بين مرتبتي أمنهما في قوميهما.
لما كانت أكثر الديانات مؤسَّسة على مبدأي الخير والشر كالنور والظلام والشمس وزحل, والعقل والشيطان, رأت بعض الأمم الغابرة أن أضرَّ شيء على الإنسان هو الجهل, وأضرَّ آثار الجهل هو الخوف, فعملت هيكلاً للخوف يُعبد اتقاء لشره.
قال أحد المحررين السياسيين: إني أرى قصر المستبد في كل زمان هو هيكل الخوف عينه: فالملك الجبار هو المعبود, وأعوانه هم الكهنة, ومكتبته هي المذبح المقدَّس, والأقلام هي السكاكين, وعبارات التعظيم هي الصلوات, والناس هم الأسرى الذين يقدِّمون قرابين الخوف؛ وهو أهم النواميس الطبيعية في الإنسان, والإنسان يقرب من الكمال في نسبة ابتعاده عن الخوف, ولا وسيلة لتخفيف الخوف أَو نفيه غير العلم بحقيقة المخيف منه, لينكشف للإنسان أن لا محل فيه للخوف منه, وهكذا إذا زاد علم أفراد الرعية بأن المستبد امرؤ عاجز مثلهم زال الخوف منه وتقاضوه حقوقهم.
ويقول أهل النظر إن خير ما يستدل به على درجة استبداد الحكومات هو تغاليهم في شنآن الملوك وفخامة القصور وعظمة الحفلات ومراسيم التشريفات وعلائم الأبهة [وكثرة المباهاة بالأفعال ، والمن على الأمة المسكينة ، وعدم قدرة الضعيف على استنقاذ حقه ، وتولية المناصب بميل النفس والمزاج ، وبالباطنية في إدارة الأمور ، وكثرة سرقات الحاشية وإدعاء أن كبيرهم لايعلم تنزيهاً له وتقديساً في عقول الصبيان], ونحو ذلك من التمويهات التي يسترهب بها الملوك رعاياهم عوضاً عن العقل والمفاداة, وهذه التمويهات يلجأ إليها المستبد كما يلجأ قليل العز للتكبر, وقليل العلم للتصوف, وقليل الصدق لليمين, وقليل المال لزينة اللباس.
ويقولون إنه كذلك يستدل على عراقة الأمة في الاستعباد أَو الحرية باستنطاق لغتها هل هي قليلة ألفاظ التعظيم كالعربية مثلاً, أم هي غنية في عبارات الخضوع كالفارسية وكتلك اللغة التي ليس فيها بين المتخاطبين أنا وأنت بل سيدي وعبدكم.
والخلاصة أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان, فكل إِدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم, وحصر الرعية في حالك الجهل. والعلماء الحكماء الذين ينبتون أحياناً في مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم في تنوير أفكار الناس, والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكِّلون بهم, فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره, وهذا سبب أن كل الأنبياء العظام, عليهم الصلاة والسلام, وأكثر العلماء الأعلام والأدباء النبلاء تقلَّبوا في البلاد وماتوا غرباء.
إن الإسلامية أول دين حضَّ على العلم, وكفى شاهداً أن أول كلمة أُنزلت من القرآن هي الأمر بالقراءة أمراً مكرراً, وأول مِنَّة أجلَّها الله وامتن بها على الإنسان هي أنه علَّمه بالقلم, علَّمه به ما لم يعلم. وقد فهم السلف الأول من مغزى هذا الأمر وهذا الامتنان وجوب تعلم القراءة والكتابة على كل مسلم, وبذلك عمت القراءة والكتابة في المسلمين أَو كادت تعم, وبذلك صار العلم في الأمة حرَّاً مباحاً للكل لا يختصُّ به رجال الدين أَو الأشراف كما كان في الأمم السابقة؛ وبذلك انتشر العلم في سائر الأمم أخذاً عن المسلمين! ولكن قاتل الله الاستبداد الذي استهان بالعلم حتى جعله سلعة يُعطى ويُمنح للأميين ولا يجرؤ أحد على الاعتراض؛ أجل, قاتل الله الاستبداد الذي رجع بالأمة إِلى الأمية فالتقى آخرها بأولها, ولا حول ولا قوة إِلاَّ بالله.
قال المدققون إن أخوف ما يخافه المستبدون الغربيون من العلم أن يعرف الناس حقيقة أن الحرية أفضل من الحياة, وأن يعرفوا النفس وعزها, والشرف وعظمته, والحقوق وكيف تُحفظ, والظلم وكيف يُرفع, والإنسانية وما هي وظائفها, والرحمة وما هي لذاتها.
أما المستبدُّون الشرقيون فأفئدته هواء ترتجف من صولة العلم, كأنَّ العلم نار وأجسامهم من بارود. المستبدون يخافون من العلم حتى من علم الناس كلمة (لا إله إِلاَّ الله) ولماذا كانت أفضل الذكر, ولماذا بني عليها الإسلام. بني الإسلام بل وكافة الأديان [الحق] على (لا إله إِلاَّ الله), ومعنى ذلك أنه لا يعبد حقاً سوى الصانع الأعظم؛ ومعنى العبادة الخضوع ومنها لفظة العبد, فيكون معنى لا إله إِلاَّ الله : ( لا يستحق الخضوعَ شيءٌ غيرُ الله). وما أفضل تكرار هذا المعنى على الذاكرة آناء الليل وأطراف النهار تحذراً من الوقوع في ورطة شيء من الخضوع لغير الله وحده. فهل, والحالة هذه, يناسب غرض المستبدين أن يعلم عبيدهم أن لا سيادة ولا عبودية في الإسلام ولا ولاية فيه ولا خضوع, إنما المؤمنون بعضهم أولياء بعض. كلاَّ لا يلائم ذلك غرضهم, وربما عدوا كلمة (لا إله إِلاَّ الله) شتماً لهم؛ ولهذا كان المستبدون ولا زالوا من أنصار الشرك وأعداء العلم.
إن العلم لا يناسب صغار المستبدين أيضاً كخَدَمة الأديان المتكبرين وكالآباء الجهلاء والأزواج الحمقاء وكرؤساء كل الجمعيات الضعيفة. والحاصل أنه ما انتشر نور العلم في أمة قط إِلاًّ وتكسَّرت فيها قيود الأسر, وساء مصير المستبدين من رؤساء سياسة أو رؤساء دين.
[رحم الله الإمام الشافعي إذ يقول:
إن أنا عشت لست أعدم قوتاً وإن أنا مِتُّ لستُ أعدم قَبرا
همتي همــــــة الملـوك ونفسي نفس حـر ترى المذلــة كُفرا ]

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كتب, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.