رسالة من بلاد الغربة

هذه رسالة عفوية من أخ يطلب العلم في بلاد الغرب (الأستاذ أنس) أطلق فيها لمداد قلمه العنان ليحمل بعض مافي صدره إلى إخوانه نصيحة وموعظة وذكرى فجزاه الله كل خير .

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وحده لا شريك له الملك يحي ويميت وهو على كل شيء قدير، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة القدوة محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان وسلم.
إخوتي الأحبة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قد بدأ الفصل الثاني الجديد منذ أسبوع، واستقراري بالمدينة الجديدة بات ممتازا ً بفضل الله، كان الإنجاز في الفصل الأول على مستوى العمل المخبري أكبر منه على مستوى الامتحانات النظرية ، فالعوائق التي كانت في الفصل الأول من لغة علمية جديدة تماما ً وبحث عن سكن وتأقلم في المدينة الجديدة وفهم لنظام الدراسة هنا، كل ذلك حال دون نتائج كثيرة على مستوى الامتحانات النظرية ولكن الأمور بنظري جيدة جداً والحمد لله، والفرصة للإقلاع والتعويض بالفصل القادم كبيرة إن شاء الله.
أكتب لكم هذه المرة وأنا خائف فالشعور الذي ينتابني غريب وقد مضى علي عام من السفر والغربة، مضت كأنها طرفة عين وما كنت أتخيلها تمضي، وما أدري كم كان فيها من الإخلاص وكم كان فيها من النية الصالحة …..أستغفر الله وأتوب إليه، ولما أسأل بعض الشباب عن مدة وجودهم هنا فيقولوا لي خمسة أو ستة أعوام أُذْهل وأسأل الله المعونة والرحمة، أما عندما أسمع من بعض الرجال أرقاماً كعشرين وثلاثين عاماً فعندها أستعيذ بالله وأسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.
على كل هاهي قد مضت السنة كلمح البصر وبالنهاية كانت كل الأرقام السابقة عند المقيمين هنا كذلك، وسينقضي العمر كذلك (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها)
لذا وجبت المحاسبة وتصحيح المسار كل حين، وكثرة المحاسبة تعكس اليقظة ونعوذ بالله من الغفلة، أما الهمة بعد المحاسبة للتغيير فهي أمر ليس باليسير، كما أن الحاجة للتجرد والصبر والمجاهدة كبيرة، ولن يُعْلَم الطريق الأجدى والعمل الأفضل إلا بالعلم والاطلاع وإصلاح الحال مع الله وطلب التوفيق منه.
لماذا كل هذا الكلام ؟ ولم تلك العبارات وهذه التذكرة؟
أحبابي لقد تفرق الشباب في أرض الله الواسعة وفق سنة الله وتحت ضغط الظروف الصعبة وطلباً للرزق الكريم وسعياً وراء المعرفة والخبرة، فكان سفر قلتهم قصيراً وسفر أكثرهم طويلاً، وفي بلاد الغربة ينهمك المرء في العمل أو الدراسة وبعيداً عن الذكرى تضيع معالم الطريق وتُنْسى الأهداف وتنمحي العهود، وبثقافة الحياة المادية والمصلحة الشخصية وبقلة القدوات والعينات القاطرة لا المقطورة ومع مضي الوقت يتحول الأشخاص وتنقلب رؤيتهم ومفهومهم للحياة دون أن يشعروا، فينضم لقائمة المسافرين المفقودين فرد جديد.
واسمحوا لي أحبابي أن أسأل نفسي وأسألكم في الشام وخارجها بعض الأسئلة الهامة متى كانت آخر مرة جلست فيها مع نفسك جلسة هادئة صافية فأمسكت بورقة وقلم وكتبت أهدافك التي كنت ترجو تحقيقها في العام المنصرم فحاسبت نفسك أحققتها أم لا ؟ وهل كانت هذه الأهداف كلها ترمي للمصلحة الشخصية المباشرة أم كان فيها ما يصب تحت نشر الخير والبذل للآخرين؟ هل كانت أهداف البناء كلها تحت خطة لزيادة الدخل وتحسين الظروف المادية (علما أن ذلك مطلوب شرعاً لكن ليس لدرجة أن ينسى المرء نصيبه من الآخرة وأن ينسى واجباته تجاه مجتمعه) فقط أم كان هناك ما فيه بناء على الصعيد الإيماني والأخلاقي والاجتماعي والثقافي مما يعود بالنفع على الصعيد الشخصي والاجتماعي؟ وهل كان بعد ذلك تصويب للأهداف ودراسة للمعوقات؟ وهل تبع ذلك خطة للعام القادم وخطة للمحاسبة خلاله؟ هل استشار أحدنا إخوانه وأهل الخبرة من حوله أم بقيت هذه الأمور مخفية وتحت طي الكتمان بحجة الخصوصية، والله أعلم بما فيها من مخالفات استشعرت النفس قبح ظهورها فآثرت كتمانها بحجج واهية؟ وهل نحن على مستوى من الترتيب والتنسيق لنضع تلك الأوراق وهذه الدراسة في مكان أمين نستطيع العودة إليه كل فترة لنراجع أمرنا أم أنها ستضيع وترمي بها الأيام في أماكن مجهولة؟ وما هي قدرة الثبات على هذه الخطة وما هو أسلوب ترجمتها وإسقاطها على الحياة (وهل راعت أساساً الظروف الواقعية الموضوعية أم كانت نوعاً من حماسة وفورة بعيدة عن الواقع) أم أنها ستكون مسيرة ماتت بعد أول خطوة فبقيت ذكرى جميلة حبيسة للأوراق ومؤطرة بالأفكار لا حرية لها ولا فاعلية، لا في الصباح قبل الذهاب للعمل ولا في المساء ولا في الأوقات الضائعة ( في المواصلات مثلا) ولا في أوقات العطل ولا حتى في الدعاء؟ وعند الوحدة والخلاء هل راقبنا الله في هذه الخطة فقمنا بها حق قيامنا أم أننا اعتدنا دوماً وجود الأخوة إلى جانبنا ليذكّرونا ويشدّونا ويحملونا فما عدنا قادرين على السير وحدنا فضلاً عن شد آخرين؟
أسئلة كثيرة وجوابها ليس بسهل ، لكن فترة الشباب فرصة ووضع الأمة خطير فكان العمل واجب والصبر أوجب.
إخوتي في الله إنني لأستغفر الله كثيراً من تقصيري وأسأله أن يغفر لي خطيئتي، وأستعيذ به من أن أحدثكم بشيء ثم لا يكون لي منه نصيب وافر.
هذه الأسئلة واجب الجواب عنها، فهي ترسم ملامح للعمل، والمحاسبة تقي الانجراف مع تيار الظروف، الذي سيرمي بك حتماً خارج أهدافك إن لم تبق يقظاً ممسكاً بالدفة لتعدل المسار وتبقى على الطريق، والسؤال يوم القيامة أكثر تفصيلاً وتفصيلاً، واليوم عودة وتصحيح وتدارك، أما عندها فلا شيء من ذلك إلا جزاءاً ورضاً من الرحمن أو سخطاً نسأل الله العافية.
نصيحة من القلب بعد عام من غربة مرير، وبعد سبل فرقت كثيراً من الأخوة وبهم تسير، وبعد نظرة لحال تعيشه الأمة خطير، وبعد شوق لكم كبير كبير، وشوق للبلد عارم وفير، وبعد ذكرى ليوم الحساب الأخير …..وخوف من رب بكل شيء بصير وعلى كل شيء قدير.
حماكم الله ورعاكم وزادكم علما ً وعملا ً ورزقا ً حلالاً وجمع بيننا على خير في الدنيا والآخرة وجزاكم الله خيراً والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

6 / ربيع الأول /1428
25 / آذار /2007

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف مقالات القراء, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.