المسجد المهجور … والابن البار بوالديه

كنا في جده في بيت الوالده حفظها الله صباح يوم الجمعه … وعند الضحى سألت خالي: ما رأيك أن نذهب إلى مكة لنصلي الجمعه هناك؟ فقال: فكره طيبة … نشرب الشاي ونطلع، فقلت لا بل نذهب الآن .. قبل ما يفتح لنا الشيطان باب الكسل.. ولك علي أن أشتري لك شاياً عدنياً لم تتذوق مثله في الطريق! كي نلحق دخول الحرم قبل الزحمة .. فاليوم يوم جمعه .. وكل أهل مكه سيصلون هناك.
عندما كنا في الطريق السريع … لفت نظري قبل مكه بحوالي خمسة وأربعين كيلومتر أو تزيد قليلا في الناحية الأخرى من الطريق .. بيت أبيض من بيوت الله … مسجد متواضع جميل .. وقد لفت نظري لعدة أسباب: لونه أبيض رائع … و مئذنته جميلة و عالية نسبيا، مبني على أسفل سفح جبل أو على تل تقريبا .. مما يجعل الوصول إليه يبدو صعبا قليلا … خاصة على كبار السن .. وإن كان واضحاً أن من بنى المسجد بناه على هذه الصورة من أجل أن يظهر للناس من بعيد … أن في هذا المكان مسجد.

المسجد كان مهدماً .. أو بمعنى أصح .. كان عبارة عن ثلثي مسجد فقط … و الجزء الخلفي مهدوم تماما .. و لا يوجد أبواب أو حتى شبابيك .. وليس أكثر من مكان مهجور مرتفع عن الأرض، ولست أدري لم بقى منظر هذا المسجد في قلبي … وصورته لا تفارق خيالي! .. ربما لشموخه و وقوفه خلال السنين … الله أعلم

وصلنا مكه ولله الحمد … وأوقفنا السيارة خارجها نظراً لشدة الزحام وصلينا وسمعنا الخطبة، وبعد الصلاة .. ركبنا سيارتنا وأخذنا طريق العوده للمرة الثانية … ولست أدري … ظهرت صورة نفس المسجد في بالي، المسجد الأبيض المهجور و صرت أكلم نفسي … بعد قليل سيظهر لنا المسجد وصرت التفت لليمين وأنا أبحث عنه وأذكر أن بجانبه مبنى المعهد السعودي الياباني ويبعد عنه حوالي خمسمائة متر وكل من يمر بالخط السريع يستطيع أن يراه.وأخيراً لاح المسجد وأدمنت النظر إليه فلفت انتباهي شئ ما .. سيارة .. فورد زرقاء اللون تقف بجانبه، ثواني مرت وأنا أفكر .. مالذي يجعل سيارة تقف هنا ؟ ومن عساه يكون سائقها؟ وما مبتغاه؟ .. ثم اتخذت قراري سريعا فخففت السرعه وانعطفت إلى اليمين على الخط الترابي ناحية المسجد … ليقضي الله أمرا كان مفعولا … وسط ذهول خالي وهو يسألني خير إن شاء الله ؟؟؟خير صار شئ ؟؟؟ اتجهت لليمين حوالي خمسمئة متر .. ثم اليمين مرة أخرى … ثم داخل أسوار مزرعة قديمة … ثم توجهت للمسجد مباشرة … وخالي لايكف عن السؤال : خير .. مابك ؟ رد علي !! قلت: أبدا .. أريد أن أعرف قصة هذه السيارة الواقفة قرب المسجد! قال … مالنا ومال الناس؟ قلت: لن نخسر شيئاً وفي نفس الوقت نصلي العصر.. سكت الخال، ثم أوقفنا السيارة في الأسفل … وطلعنا حتى وصلنا المسجد … وإذا بصوت واضح … يرتل القرآن باكياً … ويقرأ من سورة الرحمن … وكان يقرأ هذه الآية بالذات :”كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ”
فكرت أن ننتظر في الخارج مستمعين لهذه القراءة .. لكن الفضول بلغ بي مبلغه لأرى ماذا يحدث داخل هذا المسجد … المهدوم ثلثة … والذي حتى الطير لا تمر فيه، دخلنا المسجد.. وإذا بشاب قد وضع سجادة صلاة على الأرض … في يده مصحف صغير يقرأ فيه … ولم يكن هناك أحدٌ غيره،دهشت ثم قلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته … التفت الشاب مدهوشاً ثم نظر إلينا وكأننا أفزعناه … مستغربا من حضورنا .. ثم قال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فسألته : هل صليت العصر؟قال… لا قلت: طيب هل أذنت؟ قال لا… كم الساعة؟ قلت : لقد دخل الوقت قبل قليل..
أذنت لصلاة العصر … ولما هممت بإقامة الصلاة .. وجدت الشاب ينظر ناحية القبلة ويبتسم!! ابتسامة غريبة ولكن ملؤها حنين وشوق!!! يبتسم لمن؟ ؟
وقفت لأكبر … فسمعت الشاب يقول جملة طيرت عقلي تماما، قال بالحرف الواحد : “أبشر … جماعة مرة واحدة”.
نظر لي خالي متعجبا … فتجاهلت ذلك … ثم كبرت للصلاة وعقلي مشغول بهذه الجملة : “أبشر جماعة مرة واحدة”
يكلم من ؟؟؟ .. ليس معنا أحد !!! .. أنا متأكد أن المسجد لم يكن فيه أحد.. لقد كان خالياً! هل يمكن أن أحداً دخله دون أن أراه!… هل هو مجنون … لا أعتقد أبداً … إذاً هو يكلم من !!!
صلى الشاب خلفي … و تفكيري منشغل به تماما… و بعد الصلاة … استدرت إلى الخلف .. ووجدت خالي متهيئاً للانصراف.. فقلت له .. أرجو أن تنتظرني في السيارة ودقيقة فقط ثم ألحقك؟؟ نظر لي … وكأنه خائف علي من هذا الشاب الغريب الذي يتوقف عند مسجد مهجور ويقرأ القرآن فيه ثم لا نعلم من يكلم … حين يقول:
” أبشر جماعة مرة واحدة”
أشرت إليه أني جالس قليلاً ونظرت للشاب الذي كان مازال مستغرقا في التسبيح … ثم سألته كيف حال الشيخ؟

فقال: بخير ولله الحمد
سألته: لم أتعرف عليك؟
قال: فلان بن فلان
قلت فرصة سعيدة يا أخي … ولكن سامحك الله .. أشغلتني عن الصلاة، سألني لماذا؟ قلت … وأنا أقيم الصلاة سمعتك تقول: “أبشر جماعة مرة واحدة” … ضحك … وقال ما الغريب فيها؟ قلت : ما فيها شيء ..ولكن أنت كنت تكلم من !!!
ابتسم … ونظر للأرض وسكت لحظات … وكأنه يفكر .. هل يخبرني أم لا؟ هل سيقول كلمات أعجب من الخيال وأقرب للمستحيل تجعلني أشك أنه مجنون، أم كلمات تهز القلوب،و تدمع الأعين أم سيكتفي بالسكوت!!!
قال بهدوء : لو قلت لك .. سوف تقول عني مجنون..

تأملته مليا … ثم .. ضممت ركبتي لصدري … حتى تكون الجلسة أكثر حميمية .. أكثر قربا .. أكثر صدقا .. وكأننا أصحاب من زمان و قلت : .. لا أعتقد انك مجنون … شكلك هادئ جدا … وصليت معنا ….

أطرق الشاب قليلاً ثم قال كلمة نزلت علي كالقنبلة .. جعلتني أفكر فعلا .. هل هذا الشخص مجنون !!
قال: كنت أكلم المسجد! قلت مدهوشاً: ماذا قلت؟؟
قال: كنت أكلم المسجد …
سألته حتى أحسم هذا النقاش مبكراً: … وهل رد عليك المسجد؟
تبسم.. ثم قال : أما قلت لك … ستقول عني أنني مجنون .. وهل الحجارة ترد .. هذه مجرد حجارة،فابتسمت… وقلت : كلامك مضبوط .. طالما أنها لا ترد … فلماذا تكلمها !!!
قال بهدوء أسرني: هل تنكر …. إن منها لما يهبط من خشية الله؟؟ سبحان الله … كيف أنكر وهذا مذكور في القرآن

قال : و قوله تعالى “وإن من شئ إلا يسبح بحمده ” …قلت : لا أفهم شيئاً!

نظر للأرض برهة وكأنه مازال يفكر هل يخبرني؟؟ هل أستحق أن أعلم؟؟ ثم قال دون أن يرفع عينيه: أنا إنسان أحب المساجد .. كلما رأيت مسجداً قديماً أو مهدماً أو مهجوراً .. أفكر فيه.
أفكر في الأيام وا لأوقات التي كان الناس يصلون فيه وأقول: .. لابد أن المسجد يحن ويشتاق لما كان فيه من الصلاة … تلقاه يحن لذكر الله، أحس … أحس أنه مشغوف بالتسبيح والتهليل .. يتمنى لو يأتي مؤمن إليه فيقرأ آية تهز جدرانه .. وتجعل كل حجر فيه يهيم بأيام المصلين فيه وأنفاس العابدين وأنات التائبين … وأفكر .. وأفكر .. ربما في وقت كل صلاة ستكون المئذنة مشتاقة … و تتمنى أن تدوي فيها… حي على الصلاة … أن تبعث الإيمان في كل من تصله نداوة التوحيد يتردد من جنباتها!!

أحس أن المسجد المهجور… يشعر أنه غريب بين المساجد .. يتمنى من يركع فيه ركعة .. ومن ينحني لله في سجدة .. أحس أن محرابه يكاد يتفطر من الحزن .. يتمنى من يردد فيه .. لا إله إلا الله .. ينتظر أي عابر سبيل يبعثها تحيي القلوب والأرواح … الله أكبر … ثم يقرأ بعدها :
” الحمد لله رب العالمين “فإذا بالأكوان كلها تحني رأسها إجلالاً وتعظيماً لاسم الله تعالى.
أقول في نفسي : والله لأطفئن شوقك .. والله لأعيدن فيك بعض أيامك … آتي إلى المسجد المهجور … وأصلي فيه ركعتين لله … واقرأ فيه جزءاً من القرآن…. لا تقل غريب فعلي .. لكني والله … أحب المساجد …

دمعت عيناي …ونظرت في الأرض مثله حتى لا يرى دموعي المنسكبة.

هزني كلامه .. ومن تدفق إيمانه .. من صدق توجهه .. من فعله المبارك.. دخل قلبي وحتى أعمق أعماقه جمال الإيمان وعظمة السجود وجلال التوحيد .. لقد أكرمني الله برؤية رجل تعلق قلبه بالمساجد..

لم يخرج من فمي أي كلام … واكتفيت بأن قلت له: الله يجزيك كل خير
بدأ خالي يدق لي بوق السيارة يستعجلني .. فقمت … وسلمت على عاشق المساجد … وبرجاء قلت له: … لا تنسني من صالح دعائك.

أردت الخروج من المسجد فقال وعيناه ما تزالان في الأرض : هل تدري .. بماذا أدعو دائماً عندما وأنا خارج من المسجد؟

نظرت إليه .. وأنا أفكر …. من كان هذا فعله .. كيف يكون دعاه …

وبدأ بصوته الرخيم يخبرني بدعاء لم أسمع مثله من قبل :
اللهم …. اللهم ….. اللهم
إن كنت تعلم أني آنست هذا المسجد بذكرك العظيم … وقرآنك الكريم … لوجهك يا رحيم .. فآنس وحشة أبي وأمي في قبريهما وأنت ارحم الراحمين
حينها تتابع الدمع من عيني .. ولم استحي من ظهور ذلك .. أي فتى هذا .. وأي بر بالوالدين هذا … ليتني كنت مثله .. بل ليت لي ولد مثله..

رحم الله أباه وأمه كيف ربوه .. ما هذه التربية .. وعلى أي شئ نربي نحن أبناءنا، هزني هذا الدعاء … اكتشفت أني مقصر للغاية مع والدي رحمهما الله .. كم من المقصرين بيننا مع والديهم سواء كانوا أحياء او أموات، أرى بعض الشباب حين تأتي صلاة الجنازة أو حين دفن الأب … أراهم يبكون بحرقة … يرفعون أكفهم بالدعاء بصوت باكٍ … يقطع نياط القلوب …

و أفكر .. هل هم بررة بوالديهم إلى هذه الدرجة .. أم أن هذا البكاء محاولة لتعويض ما فاتهم من برهم بوالديهم !!! .. أم أنهم الآن فقط .. شعروا بالمعنى الحقيقي … لكلمة أب .. أو كلمة أم..

هذه القصة حقيقية وقد أخذت من شريط دمعة من هنا ودمعة من هناك لـأستاذ إبراهيم المرواني ، وقد تم التصرف فيها من قبل الموقع وإعادة صياغتها بشكل أقرب إلى الفصحى .. وقد أرسلها لنا أحد الإخوة الكرام بارك الله فيه (الأخ وائل أبو اسماعيل)…
وقد ذكرتني هذه القصة بما جرى قبل سنوات خلال زيارة رمضانية إلى مدينة كولومبيا (ولاية ميسوري- الولايات المتحدة) ، ففي دعاء ختم القرآن في ليلة القدر قال إمامنا الليبي المهاجر بدينه في الدعاء : اللهم إنك تعلم أننا مقصرون بحق والدينا .. فانهار المسجد كله بالبكاء .. وأغلب من فيه غريب أو ومضطهد أو مهاجر بدينه في سبيل الله .
أخي الحبيب … أختي المباركة في بلاد الغربة : هل أثقل عليكم إذا طلبت من كل منكم أن يرسل عشر رسائل بالبريد الإلكتروني إلى إخوانه وأخواته المغتربين أو غير المغتربين .. كي يبقى حب الإيمان في دمنا وبر الوالدين من أعظم ما نملك … بارك الله بكم .
مشرف الموقع أخوكم : أحمد معاذ الخطيب الحسني

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف تذكرة, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.