أزمة حجاب خطيرة …ولكن في مدريد..هذه المرة!!

“عندما قدمت ابنتي أوراقها للعمل في واحدة من أهم الشركات العاملة في النطاق الدولي في مدريد ، قَبِل مدير المؤسسة كل أوراقها مجرد اطلاعه عليها عند وصولها اليه عن طريق الايميل وتعاقد معها تقريباً وغيابياً عن طريق الهاتف ، لكنه أصيب بصدمة مذهلة عندما أجرى معها المقابلة الأولى فرآها بحجابها ، ولدماثة في خلقه ونبلٍ في طريقته في التعامل مع موظفيه لم يعد أدراجه ولم يرجع في كلمته ، مضت الأيام في تلك الشركة بخير إلا أن اسم البنت صار على لسان المدير “بن لادن” ، لم يعد يناديها إلا ب”ابن لادن”! ، وقال إنه مجرد مزاح ، بعد فترة أصبح يتذمر ويشتكي من أن الزبائن بدأوا ينفرون من منظر حجابها ، ويرفضون التعامل معها ، ولم يمض العام الأول من العمل إلا وصاحبنا قد أعلن استسلامه لحُنقٍ وغضبٍ مكبوتين ذهبا بكل مالديه ومن نبل ودماثة أخلاق ، قال للبنت وبالحرف : ظننت أن صبري عليك سوف يقنعك بخلع الحجاب وتغيير سلوكك الشبيه بسلوك الراهبات ، أنا لم أكن أريد راهبة في شركتي !! أنت لاتستطيعين المشاركة في المعارض العالمية ، لاتستطيعين السفر معي إلى المؤتمرات ، أنت تتسببين لي بخسائر فادحة في الشركة!” .
كانت هذه السيدة تحكي لي قصة ابنتها وهي تشعر بأسى شديد ، وقد انتصرت ابنتها لكرامتها الجريحة وحجابها المهان وتركت العمل وجلست في الدار وهي التي تحمل أعلى الشهادات الممكن الحصول عليها في اختصاصها ، لكن ما أثار فضولي ودهشتي لم تكن هذه الحكاية التي لايكاد يمرّ يوم دون أن نسمع بمثيل لها في مدريد وفي طول أوربة وعرضها ، ماأثار ألمي وعقد لساني ما أعرفه وما أردفته السيدة : “مايجعلنا نصبر على ذلك كله أن الحال في بلادنا ليس بأفضل من هذه فيم يتعلق بالحجاب ، إن زوج أختي-كما قالت السيدة- رجل “يصلي الأوقات الخمسة في المسجد ويعرف ربه” ، وهو يعمل رئيس شركة دولية كذلك ، لكنه يشترط على كل سكرتارية تعمل في الشركة أن تكون شبيه ب”نانسي عجرم” ، وكان منذ سنوات يطالبهن بأن يكن مثل “نوال الزغبي ” ! ولكن الدنيا تغيرت ونوال الزغبي قد شاخت!!، فلماذا يحزننا مايجري في أوربة ، ونقيم الدنيا ونقعدها كلما فتحوا سيرة الحجاب ؟؟”.

قبل ساعات فقط من كتابة هذه السطور صدرت عن واحد من أهم مسؤولي حزب الشعب –الذي يدعي أنه محافظ- في مدريد ، تصريحات يعد فيها ناخبيه بأنه في حال فوز حزبه في الانتخابات العامة المقبلة في التاسع من آذار المقبل ، فإنه سيتخذ في مجال قضية الهجرة والمهاجرين سلسلة من الإجراآت “المناسبة” لمصلحة الشعب الاسباني ، والتي ستبدأ بمنع الحجاب منعاً باتا في المدارس على غرار ماحصل في فرنسة !، وليس في المدارس فحسب –كما قال- بل في كل مكان يتسبب فيه الحجاب بإحداث نوع من التهميش للمرأة بسبب هذا الغطاء الذي تضعه الفتيات المسلمات على رؤوسهن ، وسمى إجراآت أخرى يمكننا معها القول أن هتلر نفسه كان ليستحي من التصريح بها قبيل الانتخابات العامة بشهر واحد فقط !!.. خاصة أن حزب الشعب المحافظ هذا كان هو الذي خسر الانتخابات عقب تفجيرات الحادي عشر من آذار والتي نفذتها مجموعة من “المجانين المهووسين ” ضدّ آلاف الابرياء من أبناء مدريد ردا على دور “أثنار” في غزو العراق وقد كان رئيساً للوزراء في حينه في غزو العراق .
ماقصة هذا الحجاب الذي هو الشغل الشاغل لكل البشرية “المتمدنة ” ، “المتحضرة” ، صاحبة “حقوق الانسان والحيوان والنبات والميكروبات والجرائيم والجماد ” ؟! ماقصة هذا الحجاب الذي كنت قبل ثلاثين عاما أمنع من التزامه في بلدي الأصلي في مدرستي بضغط من الدولة والحزب الحاكم وفي الشارع بضغط من قوى المجتمع المدني التقدمية الثورية المتحضرة!! عندما كنا طالبات على مقاعد الدراسة … كنا “نحن المحجبات” نلزم بوضع شيء قبيح من قماش “الخيش ” على رؤوسنا ، تعجيزا ً وإكراها . وعندما كنت حديثة عهد بقدومي إلى اسبانيا مازلت أذكر ذلك اليوم الفظيع الذي صعدت فيه جارتي الاسبانية وكنت أسكن مدينة غرناطة يومها ، وصارت تطرق باب بيتي كالمجنونة ، وتصيح بأعلى صوتها :تعالي وانظري –حيث لم يكن عندنا جهاز تلفاز يومها- تعالي وانظري كيف يخلعون أغطية الرأس في مدينتك في الشوارع للنساء ويقتلون رمياً بالرصاص كل من لاترضى بخلعه !! ، مازلت أذكر أياما سوداء عشتها شخصيا في بلادي “الحبيبة” ، وأياما سوداء عشتها من خلال نشرات الأخبار عن بعد وعن قرب بسبب أزمات الحجاب المتكررة.. في تركية ، في دمشق [قبل أكثر من ربع قرن]، في مصر ، في تونس ، في مدريد ، في فرنسة ، في قناة الجزيرة بسبب “خديجة بن قنة” التي أصبحت علمًا من أعلام الكرة الأرضية بسبب التزامها الحجاب ، والآن ومن جديد أزمة حجاب خطيرة في مدريد ! لكنها جاءت بعد تعبئة الشعب الاسباني خلال سنوات طويلة عجاف ومن خلال عشرات من وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمقروءة ضد المهاجرين والمسلمين منهم بشكل خاص .
أغرب مافي هذه الحكاية أننا نُستَعمل ويُعاد استعمالُنا وكأننا موادٌ بلاستيكية أو ورقية لأهداف سياسية هنا وهناك ، وأطرف مافي الأمر أننا وعلى الرغم من كل هذه الأزمات المتكررة لم نتعلم الدرس ولم يعرف العالم العربي ولا الإسلامي ولا السفارات العربية والإسلامية ولا الحركات ولا المراكز الإسلامية في مختلف أنحاء أوربة الإعداد لمثل هذه الأزمات التي تنذر ببلاء لايعلم مداه إلا الله بسبب وجود الكثيرين من “الحمقى المهووسين بلغة العنف” من الذين لا يعرفون الصبر بالتي أحسن على مثل هذه المحن ، ولا يتركون أي مجال للتحاور والمجادلة مع هذا الآخر الذي هو أقل “قلة ذوق” منا نحن أنفسنا !.
“مريم” باحثة في العلاقات الدولية في جامعة الأوتونوما في مدريد ، “ساجدة” باحثة في علوم التربية في جامعة الكومبليتنسة في مدريد ، “سلاف” باحثة في العلوم السياسية ، “بارعة” طبيبة تختص في جراحة التجميل ، “زينة ” مختصة في علوم الاقتصاد ، “نهى ” صيدلانية تخرجت وهي تعمل في اختصاصها ، “هاجر” طبيبة أسنان تزاول مهنتها ، “لارا” دارسة في كلية العلوم الطبيعية ، “مها” مختصة في علوم الفيزياء ، “إيمان” تحضر الماستر في تطبيقات التصميم الالكتروني في الإعلام ، “مروة” تحمل درجة الدكتوراه في الدراسات الدولية ، “سلوى” تحمل درجة الدكتوراه في الترجمات المقارنة في إعجاز القرآن الكريم ، “سارة ” مختصة في الكيمياء ، و”تمارا” تدرس الطب في السنة النهائية …وكلهن محجبات في مدريد ، يذهبن ومئات مثلهن من الفتيات الاسبانيات المسلمات المولودات في مدريد وغير مدريد من أصول سورية ومغربية وجزائرية وفلسطينية ومصرية إلى الجامعات رافعات رؤوسهن بحجاباتهن ، يعانين الأمرين كلما دخلن وخرجن ، يصبرن ويحتملن الأذى من بعض الأساتذة ومن بعض الطلبة ومن الموظفين وحتى من بعض موظفي النظافة!! ، لكنهن يجدن ودائما الدعم المناسب من بعض الزملاء وبعض الأساتذة وبعض الموظفين ، ويصبرن ويصابرن ويرابطن ويمضين في هذا الطريق الذي مضت قبلهن ومثلهن فيه أجيال وأجيال بقيت شامخة بحجابها ، بقيت ثابتة على حجابها في بلادنا البعيدة أم في أوربة هذه التي يسكنونها وهي بلادهم ولايعرفون بلاداً سواها ، أوربة أرض الحريات والديمقراطيات وحقوق الإنسان التي هاجرنا إليها نحن آباؤهم طلباً للحرية ولشيء من الكرامة المفقودة في بلادنا ، وطلبا للحرية الدينية التي اضطهدنا بسببها في أرض الإسلام ، الأرض التي حكمتها ذات يوم أغوال تفرعنت وتسرطنت ولم تحسن –مسكينة- إلا محاربة حجاب النساء المسلمات !!، لكن تلك الأنظمة ولّت وانتهت وذهبت وأصبحت أحاديث ، وبقيت النساء المسلمات وبقي الحجاب ، وجاءت “مروة القاوقجي” ذات يوم إلى البرلمان التركي لتعلن من هناك للعالم : أنه مامن قوة في العالم يمكنها أن تقف في وجه امرأة تريد أن تعبر عن قناعتها وتريد أن تلقن هذا العالم درسا بأن المرأة العربية والمسلمة ليست مضطهدة إلى الدرجة التي تتخلى فيها عن مبادئها حتى لو وقف العالم كل العالم في وجهها ، وحتى لو …كان ذلك باسم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

الأستاذة: نوال السباعي - مدريد
نقلاً عن العرب القطرية:العدد 7280 - الأحد 18 مايو 2008 م ـ الموافق 12 جمادى الأولى 1429 هـ

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف ركن الدعوة. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.