نساء بلا مساجد (رد على رسالة شابة مسلمة معاصرة)

نساء بلا مساجد عنوان لكتاب لم أتمه بعد، ولكنه اليوم جواب لرسالة أخت سألت بحيرة: هل المرأة في الإسلام مخلوق من الدرجة الثانية؟

لا أزعم امتلاك الحقيقة ولكني سأحاول قدر الإمكان البحث عنها وسيكون الجواب في النهاية.

الأخت التي سألت ليست من النائمين ولا المسيرين بل من أهل الصحوة في زمن التبلد والضياع، وهي كانت تسأل لتتلمس الطريق الصواب، لأن واحداً منا لن يعثر عليه بمفرده، والله تعالى يقول: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) (التوبة -71).


لنتأمل هذه الآية بعمق ثم نفكر في ضرورتها… وبعد ذلك فلننزلها في واقع الأمة الحالي أو الماضي، ثم لننظر في آثارها العملية … وربما يكون من الأفضل اختصار الجهد لأننا لن نجد لها أثراً!! إلا في زوايا هاربة من التاريخ.

يقول العلامة الشيخ محمد بهجة البيطار[1] في شرح الآية : (وصف الله تعالى بهذه الآية المؤمنين والمؤمنات بالولاية، وفرض عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأعطى حق هذه الولاية بشطريها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ للرجال والنساء على السواء، ويدخل في هذا إنكارهم على الخلفاء والملوك ورؤساء الجمهوريات والحكومات، فالذين هجروا هذه الفريضة هم خارجون عن هؤلاء المؤمنين المنعوتين بهذا الوصف …..  وللمرأة الحق كل الحق بأمر الرجل بالمعروف ، ونهيه عن المنكر ، وسلامة بيتها من جراثيم الفساد التي يحاول الرجل الشرير أن يلقح بها عياله وأطفاله … فعلى النساء أن يحذرن كل الحذر ، وأن يعلمن حق المرأة في إنكار المنكر…) [2] .

ماطرحته الأخت ليس جوابه سهلاً ولا ينتهي بمقال كما ظن بعض الأخوة، بل جوابه النظر في مئات السنين من الآفات والعاهات والعلل التي صبغت عقول الكثيرين حتى ضاع لا الإسلام فقط، بل شوهت الفطرة نفسها في بعض الأحيان.

قبل أن أنتقل إلى مناقشة رسالة الأخت سأتوقف عند هذه اللقطات الثلاث:

اللقطة الأولى: في أحد المساجد انفجر الإمام ساخطاً في وجه أخت فاضلة تدرس القرآن الكريم لمجموعة من الأطفال مابين الصف الخامس والسادس، ومعلناً أنه يجب احترام الدين والأخلاق! ويمنع لقاء الإناث والذكور ما فوق الصف الثاني الابتدائي [يجب محاسبة الإمام البخاري وابن تيمية وابن عساكر ومئات الأئمة الذين تلقوا العلم عن الشيخات] وقد حصل الأمر أمام الأطفال الذين غابوا بعدها لعدم قدرتهم على فهم الأمر ولأن أمثال يد الأم الحانية لا يمكن أن تعوضها عقول خشنة تقتلع الفطرة من أعماق القلوب.

اللقطة الثانية: قريبة لي أزورها مرة كل سنة في مقر عملها صلة للرحم فقالت: هل تعرف خطيب مسجد …..!! قلت: نعم ، فقالت عليك أن تخبره أنني أكرهه! لأنه لا يكاد يلقي موعظة لا يسب فيها النساء بألفاظ مقذعة، ويحملهن مسؤولية كل مصيبة تحصل في الأمة!

اللقطة الثالثة: أستاذ مسجد لديه حلقة طلاب بعضهم في مدارس مختلطة .. وخشية أن تفتح بعض الثغرات في ظن الأستاذ قام باتهام بعضهم عند أهاليهم بأنهم يصادقون بعض الفتيات في الطريق! ولما كان الأمر غير صحيح! زعم أنه سداً للذريعة ومنعاً لاستلطاف التلاميذ لبعض البنات اخترع تلك الحكاية!! أي أنه كذب وافترى، ومن المؤكد أن جهله لا يمكنه من إدراك ما سببه من تشوهات نفسية وأخلاقية.

الجسم الديني بمجمله حافل بأهل الفضل والإخلاص، ومن المؤكد أنه بمجموعه أرقى من تلك النماذج السابقة، ولكن هذا لا يعني النجاة من أيدي بعض من يساهم في صناعة وإدارة الفكر الديني، ممن وراءهم جيوش من المغفلين أو الماكرين، الذين يستمر على أيديهم التخلف والانحطاط، ويوجدون دائماً تشوهات جنينية مفزعة تبقى آثارها في المجتمعات مئات السنين، وما دمنا تعودنا الجبن والاختباء وعدم الصراحة فستبقى جراحنا تنزف ولا نعلم من أين تخترق أجسادنا السيوف.

هناك ثلاث مجموعات أساسية في المجتمع : ملتزمة ، وغير ملتزمة ، وحائرة.

الملتزمة فيها طيف واسع من أقصى درجات التنطع إلى أقصى درجات التساهل.

ولكن الالتزام يؤمن لها توازناً، ولديها منظومة تساعدها على الاستمرار.

المجموعة غير الملتزمة فيها أطياف واسعة بعضها متاخم للملتزمين المتساهلين ، وبعضها أقرب إلى إنكار الدين كله. وفي النهاية فكل المجموعات تمارس ضغطاً مقصوداً أو غير مقصود على المجموعة التي أسميها الحائرة والتي تنتسب الأخت إليها.

أساتذة الدعوة يقولون : تكلم مع ما يتفاعل معه الناس لا ما تتفاعل أنت معه، وابن القيم يقول: (الزاهد يدعو الناس إلى الله بترك الدنيا فتشق عليهم الإجابة، والعارف يدعوهم من دنياهم فتسهل عليهم الإجابة) … طريقة العارفين صارت ضيقة جداً وطريقة الزهاد هي الأساس في العمل حتى اليوم ، وهي غالب ما تعتمده المنظومة الأولى ، وإذا كان الإمام الجيلاني يقرر أنه: (لا يضحك في وجه الفاسق إلا العارف) فإن العارفين اليوم قلة والمنهج هو تجهم ويبوسة وصراخ ولا وجه طلقٌ يلقاك إلا بصدفة عجيبة.

العينة الحائرة عموماً قليلة العلم الشرعي ، ولكن فطرتها أقرب إلى الحق! وكلما وجدت منفذاً لفطرتها مؤيدة بالأدلة الشرعية سارع قسم من العينة المتعنتة إلى نسف طريقها وتدميره بشكل ماحق. (كان كتاب الباحث الأستاذ عبد الحليم أبو شقة رحمه الله : تحرير المرأة في عصر الرسالة، فتحاً وتوفيقاً من الله، ولكن زمر المتعصبين شاركت في إحراقه معنوياً بتزهيد الناس فيه رغم أنه لم يأت إلا بالنصوص الشرعية، وهو تلميذ للمحدث الألباني وقدم للكتاب الغزالي والقرضاوي، ولكن ذلك لم يشفع للكتاب وصاحبه).

المعضلة الموجودة خلاصتها مايلي: هناك منظومات تؤمن التوازن للإنسان والمجتمع، وتلك المنظمات قد تكون صحيحة أو غير صحيحة.

تتداخل المنظومة الشرعية مع منظومة الأعراف والعادات بل الأمزجة والتصورات الخاصة سلباً وإيجاباً وتصبح مع الوقت منظومة مهيمنة، وهي تدير وتقود المجتمعات، والبعض يشعر بالتوازن الشديد داخلها، ولكن المشكلة عندما لا يستطيع أحد ما أن يتقبل كل أجزاء تلك المنظومة إما لأنها متشابكة مع أمور غير مقنعة بالنسبة له أو لأنها نتاج أعراف وعادات وليست ملزمة شرعاً.

الذين تعطيهم المنظومة التوازن يشعرون بالخطر من تفككها فهم يحاولون القتال عنها (وهو أمر طبيعي جداً بل واجب لا بد منه لبقاء التوازن) ولكنهم لا يفطنون لأمرين: الأول: أنهم يحافظون على منظومتهم بالوقوف فوق أشلاء الآخرين ومهاجمتهم، والزج العاطفي والاستنفار في غير محله، أو بطرق إقناع سطحية تبني ازدواجية في النفوس (تماماً كما ذكرت الأخت في رسالتها عمن هم ضد الاختلاط ولكنهم يمارسونه عملياً في اتجاه واحد) .

الثاني: أنهم لا يقومون بأي نقد داخلي لمنظومتهم لاشتباكهم الدائم مع الآخر في الخارج، وهذا يؤدي إلى سرعة فناء المنظومة مهما ارتفعت وتيرة الاستنفار، لأنها تتآكل داخلياً بشكل غير قابل للتصديق (قام العديد من المتكلمين بمهاجمة أحد المسلسلات الهابطة، وحصل في العالم العربي مئات من حالات الطلاق والخصومات الزوجية بسبب المسلسل، ولكن لم يسأل أحد نفسه: لماذا هذا الخواء الداخلي لدينا حتى يحقق ذلك المسلسل التافه كل هذا الاختراق).

ليس كل ما في رسالة الأخت دقيقاًً، ولكنها بمجملها تدق جرس الإنذار، وهناك فراغ ينبغي أن يملأ بشكل دقيق وصحيح، وهناك منظومات اختلط فيها الغث بالسمين وهي تطرح نفسها للناس وكأنها خلاصة الدنيا، وهي لا تفطن لواقع الأمة وحالها ، ولا تنظر إلى الأمام بل تعانق المألوف ولو كانت فيه ألف علة، وهي تساهم في الحفاظ على العديد من الإيجابيات مرحلياً، ولكنها تقوض أكثرها على المدى البعيد.

لنأخذ حالة معروفة وهي صوت المرأة التي يحدثنا القرآن الكريم في آيات كثيرة أنها قالت وقيل لها، وعن عشرات الأحاديث في ذلك. كلها توارت وراء حالة فقهية خاصة قررت أن صوت المرأة عورة.

كان هناك اجتهاد ما للحفاظ على المرأة من التبذل والنفوس المريضة، وقدم ذلك الاجتهاد حلاً مرحلياً ضيقاً، ولكنه على المدى البعيد أوجد أمة مشلولة، نصفها لا يحسن الكلام السوي، بل يتكلم هامساً دون قدرة على المواجهة، وقد ينزل ليصبح محوره آفات اللسان من غيبة أو مكر وكذب ومباهاة ، وقد يهبط ليصبح فساداً مكتوماً تجلله العافية الظاهرة، وينبع منه الفساد المخيف.

المرأة المتدينة وجدت في مجالات عديدة اليوم، ولكن ما يتعلق منها بالبيان والإعلام الجاد والتثقيف الجماعي والتفقيه ما يزال ضامراً جداً.

أستاذنا العلامة الشيخ عبد الغني الدقر رحمه الله كلمنا كيف أن بعض المسلمين خلال التاريخ تعاملوا مع نسائهم وكأنهن إماء!  لم يكن الأمر واضحاً في البداية، ولكنه اليوم شديد الوضوح.

لا تكاد قضية أو مسلمة نظرية متفوقة تحظى ببعد واقعي تطبيقي، والتوازنات الدقيقة التي أرستها الشريعة قابلة للتشرذم في منعطفات كثيرة.

عند تعارض مفسدتين تقدم المفسدة الأقل، والفقيه من يعرف خير الخيرين وشر الشرين! فلنأخذ هذه القاعدة إلى التعليم.

التعليم في أغلب الأقطار الإسلامية تعليم مبتوت الصلة عن الأمة وهويتها، ومناهج الحديد والنار لم تقتحم وتهيمن على المعتقلات والسجون فقط ، بل أن مناهج التربية والتعليم والتغريب أصابها من القسر ما لايمكن وصفه.

هناك تغريب مخيف، ودرءاً لهذه المفسدة فإن الكثيرين في أعماق قلوبهم يتمنون لو أن المرأة لا يمكن لها من التعليم (درءاً للفساد)، ولكن الواقع يشير إلى أن المرأة الجاهلة أكثر عرضة لمكر المفسدين.

ذكرنا مراراً أن أي حكم أمر يتعلق بالأحكام الخمسة : الحرمة، الكراهة، الإباحة، الندب ، الوجوب.  مع وجود موقع أساسي في الأصل. وعمل المرأة في الأصل موقعه الإباحة، ولكنه يتحرك ضمن المحاور الباقية، ولكن! كما أنه لا يمكن لسيارة أن تمشي على غيار واحد من السرعة، فكذلك الحياة نفسها، وإشكالية بعض المنظومات أنها صادرت الحركة ولم تبق لعربة الإسلام إلا غياراً واحداً بالتأكيد لا يمكن الانتقال بواسطته في سائر الظروف.

وفي نفس الوقت فإن البتر هو أسهل عملية نقوم بها، لأن البديل هو جهد كبير تعودنا أن لانقوم به ، كما أن التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تزحف إلى المجتمعات لا يمكن مواجهتها بالبتر أو التغافل، ومثال ذلك عمل المرأة، فبغض النظر عن أن البعض يعتبر الأصل فيه هو المنع (والصواب أنه مباح بدليل الحديث الصحيح عن المرأة التي طلقت وخرجت تقطع نخلها فقال عليه الصلاة والسلام: دعها فلعلها أن تصدَّق أو تفعل معروفاً) … ولكن الأمر الآن صار يحتاج إلى إدراك مقاصدي أوسع، إذ غالباً نعالج الحالة من خلال البعد الفردي : أستطيع أن أكفي زوجتي وأختي فالعمل ممنوع! (هو في الأصل مباح) .. ولكن ماذا عن تطورات اقتصادية (سلبية ومرفوضة و…) ولكنها صارت واقعاً مؤلماً! ماذا أصنع تجاهها؟ وماذ عن الكثيرين ممن لم يعد لديهم قدرة على التغطية المالية لكافة أفراد الأسرة؟ وماذا عن كفاءات عالية جداً لا يمكن تعليبها ضمن قوالب قد تناسب زماناً دون زمان! هل أشارك في التعمية والتفقيه بضرورة المنع، أم أستبق الأمر وأحاول أن أتبين الضرورات القادمة ثم أتهيأ نفسياً وعملياً لها من خلال إعداد متوازن لمن سينزل إلى سوق العمل، بحيث يتصرف ويتحرك ضمن الحد الأدنى من الأضرار.

في العمل هل هناك ضوابط؟ لا شك في ذلك! ورأسها قوله تعالى:(فلا تخضعنَ بالقولِ فيطمعَ الذي في قلبهِ مرضٌ وقلن قولاً معروفاً) الأحزاب 32. ولكنها ليست باتجاه واحد! وفعلاً تحدثت الأخت عن مشكلة حادة ربما لا يشعر بها الأكثرون!

أغلب الشباب الملتزم يرحب جداً بالفتاة المثقفة المتدينة الاجتماعية اللبقة، ويدعم هذا المشروع الأنثوي الإسلامي! ولكنه يخنق هذا المشروع إذا صار في بيته! وقلة نادرة تشجع الزوجات على الاستمرار والريادة، لأن الثناء إنما على حالة نفسية نعيشها وليست منهجاً نفكر من خلاله.

ليس سراً أن الكثيرات يخمد كل عطاء لديهن بعد الزواج! حتى في المحاور الدعوية! ولكن بالمقابل فكثيرون من الدعاة أيضاً يتمزقون بعد الزواج بسبب ضحالة ثقافية ومعرفية هائلة (أحدهم غرر به بأن البنت حافظة للقرآن [مع العلم أن هذا مؤشر إيجابي وليس كافياً بحال]  وبعد الزواج اكتشف أنها بالكاد تقيم صلاتها) ، وأخ سجل عقده في المحكمة وخلال أشهر لم يلحظ أي بادرة عاطفية من قبل من هي زوجته، فسألها صراحة: هل تحبينني؟ فقالت ببرود مرعب: نعم ، ولكني أحب آنستي أكثر!

وذلك المتدين المغشوش اللطيف الذي وجد أن أسهل طريق لتفهم زوجته هي الضرب، فلم يقصر! وأمام أطفاله الخمسة! والداعية الذي يقف دائماً على أشلاء الغرب ثم كسر كرسي الخشب على أكتاف زوجته المسكينة.

آلاف الأمثلة يمكن أن تذكر وهي تعبر عن عدم وجود منهج بل انفعالات ذاتية وتصرفات مرة هي حصيلة ركام طويل من التخلف المعرفي، وليست الفتاة هي المظلومة في ذلك فقط، فهناك مئات آلاف الشباب الأطهار ممن تمرغ أنوفهم في التراب ويذلون وتستباح كراماتهم  وهم الحفاظ العلماء الأتقياء … لأنهم لا يحققون شروط المجتمع المنحرف من البطر والثروة والخيلاء.

هناك أمر ينبغي أيضاً أن نشير إليه بكل وضوح: التغذية الفقهية في أحيان كثيرة تكون مشوهة ، وعلى الإخوة والأخوات العاقلين أن يخرجوا من وطأتها لارد فعل تجاهها ولكن إعادة لها إلى التوازن (يقول الإمام الغزالي في الإحياء: أن المطلوب هو رد الأمور إلى الاعتدال وليس قمعها بالكلية) وعندما يأتي أخ ليخطب فتاة في مرحلة الدكتوراة ، فليس عيباً أن يسألها عما إذا كانت تتقن الطبخ! ولكن مخجل جداً أن يكون هذا آخر أفق تفكيره. والحق أن المجتمع ثم أجزاء من الجهاز الديني هي التي ترسخ غياراً واحداً من السرعة مما لا يمكن معه التحرك الصحيح.

إن لم يكن المثال السابق واضحاً فلننتقل إلى آخر لا بد من كشف الغطاء عنه للعودة إلى التوازن.

الضغط الجنسي الذي يعاني منه المجتمع لا بد من أن ينعكس في النظرة والعلاقة بين الرجل والمرأة، وحتى بعد الزواج فقد يكون هناك إلحاح ما يتعلق به! أين المشكلة؟ المشكلة عندما يُبرمج الإنسان ليصبح ذلك الأمر محوراً تستباح معه الكرامة الإنسانية! بسبب ضغط نفسي واجتماعي وتغذية دينية! نعم : تغذية دينية!

كيف يحصل الأمر؟ تتسرب بعض الأمور ببطء شديد إلى العقل الاجتماعي الباطن! وتصبح هي الموجه الداخلي.

(ذكر أحد الإخوة أنه لم يستطع أن يمس زوجته قبل مرور ستة أشهر على الزواج، بسبب حيائها، وآخرون قطعوا رأس القط، وأنهوا الأمر بالضرب المبرح من ليلة العرس).

المرأة المهدورة الكرامة تعيد سلسلة القهر في بناتها تجنيباً لهن الألم والمعاناة والإهانة، وهذه التهيئة هي عين الانحدار والغيبوبة الإنسانية، وحتى لاندخل في الجانب العميق من العلاقات الزوجية (والتي تحتاج إلى دراسة جادة لإزالة الاختلالات المخيفة التي تزداد حولها) فإننا نعود إلى أمر أبسط بكثير وهو الطعام.

شعوبنا مبرمجة خلال مئات السنين على اهتمام خاص يتعلق به، وكانت تحصل حالات طلاق من زيادة ملح أو نقص نكهة، وعندي عشرات القصص الموثقة في ذلك. الأم تعيد البرمجة للأولاد ذكوراً وإناثاً ليعيدوا ممارسة نفس الدور (ونستطيع قياس الأمور الأخرى كذلك) .. وغداء أو عشاء العمل الذي ابتكرته بعض الشعوب لا يمكن أن يعتبر عندنا إلا نوعاً من الإهانة (لقلة الكرم) وحتى النوع الواحد من الطعام الفاخر في وليمة لا يكفي للتعبير عن الضيافة الحقة، ومهما بذل الإنسان جهده فلا بد أن يكون هناك من يأكل من لحمه البشري، لأن اللحم المطبوخ لم يكن بالجودة الممتازة، أو أن القشطة من نوع ثانٍ ، ولم يكن هناك إلا صنف واحد من الفاكهة!! ولا بد لكل امرأة دعي أحدٌ إلى بيتها من أن تنفق وقتاً غير معقول في اليوم السابق والتالي لتتحدث بالهاتف إلى أمها أوأختها عن تفاصيل الطعام ووقت قدوم الضيوف وماذا أكل كل منهم مما هو من أتفه التوافه … وحقيقة أشعر بالشفقة الشديدة على بعض القريبات عندما أرى إحداهن تنفق الساعات الطوال في (حشو ورق العنب = اليبرق) مما يأخذ وقتاً طويلاً جداً ليأتي بعض الضيوف فيلتهمونه في لحظات، يبتسم بعدها صاحب البيت مزهواً بما قدم لضيوفه (عفواً بما قدمت الأم أو الزوجة المسكينة من نفيس وقتها).

أمور صغيرة ولكنها تبرمج حياة الإنسان، بحيث يصبح طبيباً أو مهندساً في الحياة لكنه طبق طعام في التفكير والاهتمامات. ولكن …

هناك نوع من الكسل والتقليد الخطير يتسرب إلى النساء أيضاً، وهو زهدهن في كثير من الواجبات الحياتية الأسرية، ليس بسبب نوع من الوعي ينقلن فيه أوقاتهن إلى ماهو أجدى، ولكن بسبب نوع من إدمان التخلف، ومن الطبيعي أن لا تستطيع امرأة في الغرب أن تطهو طعاماً فاخراً يشابه ما تقوم به نساؤنا، ولكنهن مشغولات بعمل مرهق وطويل، ولكن ماذا تصنع تلك العروس التي لا تتعلم ولا تعمل ولا حتى تطهو .. وليس لها شغل إلا بجدائلها والثرثرة مع أمها على الهاتف …

منظومتان كلتاهما تعانيان من خلل .. ولا بد من منظومة بديلة ..

لابد من أن نعيد ترتيب أولويات الحياة ، دون الضياع في متاهة مطبخ الشرق، ولا السقوط في آلية حياة الغرب.. ولا بد أن يكون هناك وعي وإدراك من الرجل والمرأة لكرامة كل منهما وما تقتضيه تلك الكرامة من سلوكيات.

ليس من الكرامة أن يدمر الرجل مستقبل زوجته العلمي بسبب شهوة بطنه، وليس من الكرامة للرجل أن تتصرف الزوجة المتعلمة وكأنها طبل أجوف الذي يفرغ الأسرة والبيت من كل حنو وخصوصية واهتمام (يراجع مقال الأستاذ رياض الأدهمي حول الموضوع).

قرأت مرة مقالة في مجلة اتحاد الطلبة المسلمين في جامعة لوس أنجلوس تتحدث عن الجحيم الذي يعانيه الشاب المسلم إذا أراد الزواج من فتاة عربية هناك، لأن أهلها أوهي يطلبون كل صلاحيات الفتاة الأميركية! (من الحرية الشخصية) وكل صلاحيات الفتاة العربية (من المنزل الفاخر والمجوهرات والمهر الذي يهد الجبال) … حتى أصبح الاقتران بأي جنسية أسهل وأصون للدين والنفس من اقتحام أسوار المتغطرسين البطرين.

الطعام ذكرناه نموذجاً ونستطيع القياس عليه في كل اتجاه، ونحن نسلم بكرامة المرأة المسلمة نظرياً، ولكن المجتمع عملياً مستبيح لكرامتها (وأجزاء من الجسم الديني تتحدث عن الموضوع بإنكار بالغ وعصبية وانغلاق وتبرير أجوف أو على حياء شديد)، وإذا لم نجد منظومة متوازنة، فيخشى من السقوط تحت المنظومة الغربية ببعدها السلبي فقط .

كانت التحديات التي تواجه المجتمع شبه معدومة والآن فإن وسائل الاتصال اقتحمت خيمة البدوي في الصحراء، وعلاجها ليس بالانزواء بل باكتشاف لقاح جديد ، يقي غوائل الأمراض ويسمح لنا أن ننساح في الأرض ونحيي ما أصابها من موات.

إن ماذكرته الأخت في رسالتها إنذار لما سيأتي، والحل ليس بالهرب أو التغافل بل بالاقتحام! ببناء منظومة صالحة، تستعيد مقاصد الشريعة وروحها دون أن تغرق في تخلف سابق ولا تغريب ماحق، منظومة فيها الحزم والتقوى والشجاعة في الموقف، دون التلفت إلى المتعصبين أو المفرطين، ودون ذل أو إهانة أو استباحة كرامة، منظومة تعيد اكتشاف الشريعة وإظهار جمالها بعدما خنقتها يد القمع التاريخي الطويل، واستباحتها جحافل الإعلام المدمر الماكر الخبيث.

منظومة هي الفطرة بعينها … ولو لم يعد يعمل لأجلها من الناس إلا القليل.

المرأة في الإسلام أيتها الأخت السائلة مخلوق من النوع الأول الممتاز وليست من الدرجة الثانية، ولكنها عملياً عند بعض الناس ليست مخلوقاً بالمرة بل شيء من الأشياء وعمله فيزيائي محض يتراوح بين المتعة والإغراء أو التكاثر والخدمة، أي أنه مجرد آلة للاستهلاك …

في بلد تسعون بالمائة من النساء اللواتي فيه تحت سن العشرين ينجبن أطفالاً من دون زواج شرعي ، طرحت أخت أسلمت لوحدها السؤال التالي: هل صحيح أن عمل المرأة هو التنظيف والطبخ وطاعة الزوج؟  فقلت: من أخبرك بهذا؟ فقالت أهل الرجل المسلم الذي أحببت أن أقترن به لأنجو من الجحيم!

هناك منهج شرعي متوازن تم الاعتداء عليه ونحت بعض أجزائه ، وزيادة بعض الأمور فيه، وهناك مناهج تائهة أخرجت البشر عن فطرتهم وطوحت بهم في متاهات الفردية والضياع ….

ومما لايكاد يفطن له إلا القليل، أنه لا بد ابتداءً من فكر جامع للرجل والمرأة ثم تتفرع بعده خصوصيات لكل منهما.

الغرب ألغى الفوارق تماماً ودغم الرجل بالمرأة بطريقة مزرية، ونحن جعلنا فصلاً شاملاً مطلقاً، حتى يوشك أن لا يكون هناك فكر يجمع المرأة والرجل إلا المعلوم من الدين بالضرورة من كليات الشريعة.

العينة الواحدة لا تعطي مؤشراً دقيقاً ، ولكن العينة الواسعة تشير إلى زيادة التفكك الأسري وزيادة حالات الطلاق ، ومصائب أخرى …

لم يكن قلبي يتسع للفرحة التي تغمرني عندما كنت أخطب الجمعة، وتأتي الأسر فيدخل الأب مع أولاده الشباب إلى مكان الرجال وتدخل الأم مع بناتها إلى مكان النساء، وفي النهاية يحصل إعادة ترتيب وبلورة وتفقيه بكثير من الأمور ، ويتواجد فكر إيماني يشمل الأسرة كلها … وفوجئت يوماً من جهة ..(تعرفون من هي ….) .. تطلب مني إغلاق المسجد في وجه النساء!! بعد أن دخلنا في صراع مرير مع بعض الجهلة حتى استطعنا إيجاد مكان للنساء، واعتذرت بحزم قائلاً: أنا لا أستطيع .. تستطيعون بما أوتيتم من قوة قهر أن تفعلوا … (وسكتوا عن الموضوع) .. ثم حصل تباين في وجهات النظر مع أخت كريمة (هي العالمة الفاضلة المربية حنان لحام) ففندت ما ظننته وقتها خطأ في طرحها من فوق المنبر (دون أن أذكر اسمها) .. وعتبت أختنا عليَّ عتباً شديداً! فقلت لها ليس الأمر شخصياً! بل فكرياً واحتراماً لها قمت بالاعتذار منها من فوق المنبر، وفوجئت بالجهة التي طلبت إغلاق المسجد في وجه النساء تستدعيني  لتقول لي بالحرف: تعتذر من امرأة!! لقد كنت عندنا مثل الجبل فأصبحت مثل الكمشة!! (أي الشيء الضئيل) .. وفي أعماقي شعرت بسعادة غامرة ورضا شديد، فقد أرحت ضميري، وأحسست أني لأول مرة وأمام الجميع أستطيع أن أتذوق قوله تعالى:

(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) (التوبة -71).

معذرة أختي السائلة فالاستبداد يتحالف دائماً مع التخلف الديني ليوجد مستنقعات آسنة يمتص بها روح الأمة ، ويكرس فيها كل أسباب التخلف والانحطاط ..

معذرة منك إذا كانت أغلب مساجدنا لا تدخلها النساء إما لضحالة ما يقدم فيها من زاد حتى للرجال ، وإما لأنه لا مكان لهن أصلاً  (وعندها فقد تظن بعض الأخوات أنهن من الدرجة الثانية ، ولكنه ليس ذنب الإسلام  )… وعليك أن تكوني ممن يشقون الطريق للأمة كي ينبلج الحق ولا تبقين وأخواتنا نساءً بلا مساجد في زمن الركود والانحطاط.

أحمد معاذ الخطيب الحسني

الأربعاء 13 شعبان 1429هـ/13 آب 2008 م


[1] - محمد بهجة البيطار (1311-1396هـ/ 1894-1976م) علامة، لغوي، بحاثة، محقق ، من كبار علماء الشام عصره، وله منهج قائم على اتباع الدليل من الكتاب والسنة مع لطف بالغ وصفاء نفس، وقد لقي عنتاً من المتعصبين، عضو مجمع اللغة العربية، ومن الرعيل الأول في جمعية التمدن الإسلامي.

[2] - مجلة جمعية التمدن الإسلامي، العدد الأول ، السنة الثالثة، 1356ربيع الأول ، هـ/1937م ، ص-5-6.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كلمة الشهر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.