انهيار مراكز الدراسات والأبحاث (بين رفرفات بوعزيزي .. وتحليق القرضاوي) ..

إهداء : إلى الرجل العظيم (سرهندي سورية، وغاندي الشرق الأوسط، ومانديلا العرب …)

والذي كلما غاب يوماً آخر ، كلما حُفرت في قلوبنا أخاديد أعمق …

إلى الذي علمنا أن الدين الحق وعمل الأنبياء هو حب وتسامح، وغيرة ووطنية، وعدل وحرية وكرامة، ودفاع عن المستضعفين في الأرض …


إلى القاضي الجليل هيثم المالح ابن الأحد والثمانين عاماً، والذي لا يغيب عن قلوبنا ولا صلواتنا ..

ما جرى في تونس ثم مصر  جعل الأنظمة الغربية قبل العربية، ترتعد حتى الأعماق، ومن أقام الأصنام صار أول المتبرئين منها، وربما كان للثورة الفرنسية دوي في أوربة، ولكن انتفاضة الشعب التونسي ثم المصري أعظم بما لا يقاس، وقد دخلتا التاريخ رغم أنوف الجميع.

كثيرة هي المواقف المؤثرة، ولكن من أعظمها تأثيراً في النفس موقف إمامنا العلامة القرضاوي بارك الله لنا في علمه وفضله وحياته، فقد وقف موقفاً غير مسبوق من عالم مسلم، عندما طالب شعب تونس العظيم وشعب مصر قلب العروبة والإسلام، بأن يكملا رحلتهما في تقويض بقية كل نظام فاسد، وأن لا يسمحا لأحد بالالتفاف على مطالب الناس المقهورة، التي انفجرت لكثرة الإذلال والنهب وتمريغ الكرامة ومصادرة القرار والتجويع.

لقد أذل الفراعنة الجدد أمة العرب كلها، وجعلوها في نظر شعوب الأرض أحط الأمم، إذ كان كل ما يفعلون هو تمريغ كرامة أممهم لصالح القوى العالمية، إضافة إلى نهب واسنئثار غير مسبوق!

موقف القرضاوي كان في حفظ  الصفاء الشرعي لكل حركة مباركة توقد مشاعل الحرية والحياة.

ومعلوم أن كل صنم له كهنة يحرقون له البخور، ويصدعون كل ما يضطرم في قلوب الناس من معاني الحرية والكرامة والعدل، مستخدمين الدين، ومتلاعبين بوجدان الناس البسطاء، عندما يوحون لهم أن الحرية شيء يعارض قدر الله… أما ما يحصل عليه الناس من مكتسبات، فيقوم الكهنة بقضمه تدريجياً ومسخه حتى يفنى!

يصبح الدين عبئاً على الحياة، ويفقد عمقه الإنساني، ويصبح مجرد أداة تسبيح وحمد وتمجيد لآلهة مزيفة، ووسيلة استعباد شعوب خانعة لا يمكن أن يقودها لحتفها شيء مثل دين أشبه بالسراب.

اشتغلت بعض المجامع الفقهية (السلطوية) بإصدار الفتاوى بتحريم الانتحار وإحراق النفس، وكأن هناك إنساناً ما في الأرض كلها لا يعلم أن قتل النفس حرام، ولقد شويت الشعوب المسلمة بالنار، ولم يتحرك أحد من الكهنة، لأن الأسياد أرادوا ذلك الشواء.

أما عندما التقت الإرادة الكونية مع الإرادة الشرعية ليحصل قدرالله عظيم، فهناك حصل استنفار علماء السلطة في كل آن.

(إذا هبت رياح التغيير من الشعب لن يستطيع أحد أن يوقفها أو يحارب الأقدار، لذا فسيروا يا أبناء مصر في هبتكم السلمية).

للدين دائماً شروط فنية، ومعان ومقاصد عميقة، وعندما يسيطر الضعف ينهمك الناس في الحرفية أو السطحية، وينسون المقصد العميق، والبعد الإنساني غير المسبوق، الذي لا يمكن لشيء أن يصنعه مثل تدين وجداني مرفرف وفاتن وأخاذ..

بوعزيزي خالف الشروط الفنية والتي نسلم بوجوب طاعتها حرفياً، وأحرق جسده الفاني وقتل نفساً هي أمانة بين يديه ليس له حق التصرف فيها.

أعاد القرضاوي التذكير بأن قتل النفس كبيرة من الكبائر، ونهى الناس عن ذلك.

لكن محمد بوعزيزي  أضرم النار في نفسه، لأن القهر الذي تعرض له أكبر من أن يحمله هذا الجسد الضعيف الفاني و(كان لابد أن يكون ماكان أمام هذا الشعب وهو يغلي في داخله.. انفجر هذا البركان وأحرق نفسه) .

شهيد الحرية لم يكن معترضاً على قدر الله وهو يشعل النار بنفسه -التي حرم الله قتلها- بل كان يشعل روحه من أجل أن يستدعي قدر الله الذي أتى سريعاً فطوى في أيام ما بنته الديكتاتورية القاتلة وأمها الفرنسية خلال عقود .. قتل النفس في الأصل جريمة شرعية وانسحاب جبان من قدر الله، ولكن استدعاء قدر الله ليس جريمة، بل شهادة وسمو وتحليق.

لم يكتف القرضاوي بإعطاء الصفاء والصفة الشرعية لما حصل في الأرض، بل أيقظ المعنى العميق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من ميت مسلم يقوم على جنازته أربعون رجلا كلهم يشفعون فيه إلا شفعهم الله فيه).

وقام القرضاوي بتفعيل البعد الغائب في الدين، وأعاد دوره الإنساني العميق، عندما سأل الله لبوعزيزي الرحمة والمغفرة، وطلب من المسلمين في الأرض أن يتجهوا إلى الله بطلب المغفرة لأخيهم العظيم. وإن الله ليستحي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفراً خائبتين. فكيف بالملايين التي أحيا بوعزيزي الكرامة في قلوبها.

هناك أمر نسي الخائفون من الانتحار أن يذكروه للناس، وهو ماجاء في صحيح مسلم عندما هاجرالطفيل بن عمرو، ومعه رجل من قومه إلى المدينة. فأصابه مرض جزع منه فقطع شرايينه، فنزف حتى مات، فرآه الطفيل ابن عمرو في منامه في هيئة حسنة، مغطياً يديه . فقال له : ما صنع بك ربك ؟ فقال : غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم . فقال : ما لي أراك مغطيا يديك ؟ قال: قيل لي : لن نصلح منك ما أفسدت . فقصها الطفيل على النبي المعلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” اللهم ! وليديه فاغفر ” .

اللهم عبدك بوعزيزي أمسى في ضيافتك، اللهم فأسبغ عليه من حلل رضوانك ورحمتك بعدد من أحيا الحرية والكرامة في قلوبهم.

- حلق القرضاوي بفقهه الإنساني عندما تكلم عمن سفح دمه رخيصاً من أجل الحرية: (كلهم شهداء إن شاء الله، لأنهم يدافعون عن الحق ويقاومون الظلم والطاغوت… هناك أكثر من مائة شهيد) .. ولم يدخل إمامنا في التفاصيل الفنية للشهيد بل من خلال بوابة أوسع، لأن النبي المعلم عليه الصلاة والسلام يقررفي الأحاديث الصحيحة أن الله غفر لرجل أزاح غصن شوك من الطريق، وفي رواية: أنه لم يعمل خيراً قط!  كما أن الله غفر لإمراة بغي سقت كلباً شربة ماء.

- بين القرضاوي أن المتظاهرين لم يؤذوا شرطياً واحداً (وهؤلاء الناشطون من أجل الحرية والكرامة لم يكونوا يطلقون النار على أحد) ..وإن المنهج السلمي في الحركة لإزالة الظلم هو المنهج الصحيح. وقد أفتى القرضاوي بتحريم إطلاق الرصاص على المتظاهرين وقال: (أي شرطي يطلق النار على متظاهر لم يبدر منه ما يستحق القتل مجرم وأثم)، وطالبهم بعدم الاستجابة لقادتهم: (ومن يقول إنه عبد المأمور أقول له أنت عبد لله والقتل حرام)، وفي المقابل حرم القرضاوي تحريما قاطعا الاعتداء على رجال الشرطة من قبل المتظاهرين، وقال: (هم منا ونحن منهم ودمائهم محرمة، ولعلهم يشكون مما نشكو، ولو أتيحت لهم الفرصة لانضموا إلى الجمهور)، مشدداً على حرمة المساس بالممتلكات العامة والخاصة.

-  ترحم القرضاوي على شهداء “يوم الغضب” الذين سقطوا ضحية، مؤكداً: (أن دمائهم لن تذهب سدى، ومن الممكن أن تتحول هذه الدماء إلى الشرارة التي تشعل النار)، وقال (فليحذر من يعيش في القصور بعيداً عن مطامح الناس من تلك الشرارة).

- رفض القرضاوي التفرقة التي رعاها الحكام، وأعاد التحام الأمة كلها مع بعضها: (كل تلك البلاد الإسلامية بلادي، وكل الشعوب أهلي).

هاهي الشعوب تسترد كرامتها وبقوة، ودون أن تستعين بأي غطاء سياسي دولي، وبشكل سلمي كامل يعطي الشعوب القوة الذاتية الهائلة والإنسانية البعيدة عن الاحتواء والتفريغ، وبوعي غير منظور، يحمله شباب وصبايا مثل أكمام الزهور، وكما كنس شعب تونس العظيم الفرعونية من بلاده، وكما يتوق شعب مصر العظيم للحرية، فقد أزاح العلامة القرضاوي بفقهه المتقدم مئات الأعوام من فقه سدنة السلاطين، عشاق الولائم وأذناب الفراعين والذين كانوا أكبر داعمين للظالمين، فأحد مصائب الأمة حقيقة هو تخديرها باسم الدين، وسلبها حريتها باسم الله، وتعبيدها للطواغيت باسم شريعة تئن مما صار يحمل على أكتافها من الموبقات وهي منه براء .. كمثل خرافة ولاية المتغلب، وطاعة ولي الأمر لمن لا ينتسب للأمة في شيء، بل إجبارها على الدعاء للحكام الظالمين في أخص خصوصياتها (كخطبة الجمعة) بينما تلعنهم الأمة في أعماق القلوب.

ًلقد حفظ القرضاوي بكلامه الواضح لأي حركة تقاوم الظلم صفاءها الشرعي، وحلق كما لم يحلق أحد مثله في هذا الزمان، ليعطي الدين بعده الإنساني المرفرف النبيل. ويجدد من بعض معانيه على مستوى التأصيل والتفعيل.

أئمتنا الكبار كانوا مدافعين عن خط الحرية في الأمة، فمات أبو حنيفة في السجن، وضُرب مالك لعدم اعترافه بشرعية الإكراه، وسجن أحمد وجُلد وحورب، كما تم جر الشافعي بالسلاسل من اليمن إلى بغداد.

أما الإمام زيد فقد نُكِّلَ به وبجثته المصلوبة تنكيلاً غير مسبوق، وبقي ذبح سعيد بن جبير شاهداً للحق إلى يوم الدين.

كما شقت الكنيسة في أميركا اللاتينية وكذلك في جنوب أفريقية خطاً إنسانياً رائعاً .. عندما انفصلت عن الخط الكنسي المرتبط بالقوى الدولية، وأعطت النضال ضد الظلم شرعية دينية .. وثار الرهبان البوذيون على الظلم في ميانمار بشكل غير مسبوق.

في تونس التقت هتافات الله أكبر .. مع صور غيفارا .. وأصحاب اللحى والمحجبات مع الصبايا اليساريات وناشطي الحراك المدني .. كلهم كان في موكب توحيدي من نوع خاص .. يعيد للأمة ما حرمت منه …

وفي مصر اندفعت الجموع المقهورة من كل الأطياف، لتعلن أن حبها لأوطانها أكبر من كيد الفراعين، وإذا بها تحمل رجال الجيش على الأعناق وتطوف بهم وهدير الرحيل للظالمين يدوي، بينما أرسل الحزب الحاكم مرتزقته لينهبوا ويسرقوا كي يشوهوا صورة الحركة الوطنية العظيمة، وبذلك أثبت الحزب الحاكم أنه مجموعة لصوص لا غير لا يهمها البلد في شيء.

في مصر العظيمة .. مصر أم التاريخ بل صانعة التاريخ ورمز كرامة العرب والمسلمين .. هدرت الأمة هديرها الذي يغيب عنه الحكام المساكين كلما سكروا بخمرة السلطة ونشوة الأمن ووهم السجون وغرور الدعم الخارجي. وتغيب عنه قوى الاستكبار العالمية.

سنوات تمر والشعوب تستجدي وتشحذ أبسط الحقوق، وغرور القوة يجعل الحكام عميان قلوب وأبصار، فيمعنون إذلالاً ونهباً وتحقيراً لشعوبهم وتغييراً في ثقافة الأمة وهويتها وتغريباً لها، وبذلها رخيصة في كل سبيل.

حركة تونس ومصر وما سيتلوها هي الرسالة التي لن يفهمها الأغبياء أبداً ..

مراكز الدراسات الغربية مذهولة، والدبلوماسية الأميركية الحمقاء والإنكليزية الماكرة والفرنسية الخبيثة التي تتصرف في بلادنا وكأنها كلأ مستباح، كلها في حالة صدمة.

الأنظمة الغربية تعطي توجيهاتها وملاحظاتها، وكأننا أيتام بحاجة إلى وصايتهم السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية. . ومجرم الحرب توني بلير صرح من القدس بخشيته من تأثير الحركة في مصر على (إسرائيل). كما خرجت الخارجية الأميركية بتصريحات متذبذبة، أما الإعلام الأوربي فقد تعامل بتحيز واضح، ويكفي مقارنة تغطيته لأحداث جورجيا وأوكرانيا وحتى إيران، مع تغطيته الحالية لأحداث تونس ومصر، لتعرف قيم الحرية والعدالة والديمقراطية التي يتاجر بها الغرب، ولعل كلام أوباما هو الخلاصة، عندما فهم منه الناس مايلي: مرحبا بالديمقراطية إذا لم تخالف مصالحنا.

مهما كانت النتائج فقد انكسر السد وقد تفلح بلدان وتخفق أخرى، ولا أعتقد أن ما يجري في مصر سوف يمر بسهولة، لأن النظام هناك دعامة أساسية في التوازنات الدولية، من أجل دعم إسرائيل ولأسباب أخرى.. وسقوطه سيغير خريطة التاريخ بشكل مذهل، ولكن مهما حصل فالفعل الإنساني الرائع للشعوب غير قابل للعكس ..

إن انهيار النظام المصري بداية انهيار النظام الاقليمي الدولي، ثم تداعي الدولة اللقيطة (إسرائيل) أما انهيار مصر نفسها فهو رغبة (إسرائيلية ) هائلة من مشروعها المخيف لتشظية المنطقة إلى كيانات طائفية بغيضة.

لم تعد قرارات الأمم متعلقة بتيار أو حركة أو نخبة ما، بل هي تيار حقيقي نابع من صميم آلام الأمم والشعوب.

الوعي الإسلامي تقدم جداً، وليس للإسلاميين مطالب خاصة على الإطلاق، ونفضل أن يصل الإيمان إلى أصحاب الكراسي على أن يصل أصحاب الإيمان إلى كراسي الحكم، كما يقول الندوي، وإن أي بلد يحمل الحرية والعدل لشعبه فهو بلد مسلم أصيل ولا تهمنا الشعارات.

إننا نشارك كل الناس في أي بلد في المطالب الإنسانية الأساسية وأهمها:

إلغاء أحكام الطوارئ واحترام القانون، ومنع هيمنة الحزب الواحد، وإطلاق الحريات العامة، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، واحترام كرامة الناس من خلال تكافؤ الفرص، ومنع النهب للأموال والاستئثار بمقدرات البلاد، إضافة إلى أمر صار مهما جدا: منع توريث الحكم وعدم السماح لأي حاكم بأن يجدد فترة حكمه أكثر من مرة مهما اعتبر نفسه من حكماء الزمان.

ليرحمك الله يا بوعزيزي فقد كانت عربة الخضار التي تقودها تدفع عربة أخرى تقود التاريخ.

وبارك الله بإمامنا العظيم العلامة يوسف القرضاوي، والذي لا يعلم الأكثرون أن آثار السياط قد حفرت أخاديدها في ظهره من التعذيب في سجون الظالمين وحتى اليوم وقد تجاوز الثمانين.

((وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ….)) ..صدق الله العظيم.

كتبه : أحمد معاذ الخطيب الحسني

خطيب جامع بني أمية الكبير سابقا

دمشق: 27 صفر الخير 1432هـ/ 1 شباط 2011م

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كلمة الشهر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.