“الأقليات” في سوريا: حقائق وأوهام

بقلم: د. بشير زين العابدين / باحث سوري
26-9-2012

وقف الكيان السوري إثر انعتاقه من الحكم العثماني عام 1918 على مفترق طرق متعددة تراوحت بين: مشروع قومي يستند إلى تأسيس نواة مملكة عربية، ومشروع جمهوري يمارس سلطة مركزية من دمشق، وآخر فيدرالي تتوزع فيه السلطة مجموعة من الطوائف والإثنيات.

وفي غضون 28 سنة؛ انهارت مملكة فيصل بن الحسين، وفشل مشروع الدويلات الطائفية الذي تبنته سلطة الانتداب الفرنسي، وحصل الكيان الجمهوري على استقلاله عام 1946.

وعلى إثر التقهقر المتسارع لقوات بشار أسد أمام مد الثورة السورية الثانية؛ بدأت تعلو نبرة الكتابات الغربية التي تحذر من تأثير هيمنة التيارات الدينية على “الأقليات”، وخشية أبناء المجموعات: الإثنية والدينية والطائفية من فقدان الميزات التي تمتعت بها في ظل حافظ وبشار أسد.

ويمكن تتبع هذه النبرة في حديث “لوس أنجلوس تايمز” الأمريكية عن قلق أبناء هذه “الأقليات” مما يحدث في بلادهم، وإشارتها إلى وقوف أغلبهم على الحياد بينما: “يفضل آخرون دعم نظام بشار لأنهم يروه ضامنا لحقوق الأقليات”، إضافة إلى إثارة موقع “بي بي سي” الرسمي البريطاني موضوع تخوف المجتمع الدولي من إمكانية نشوب حرب أهلية بعد سقوط النظام، وتخوف “الأقليات” من أن مستقبلهم سيكون محفوفاً بالمخاطر إذا سقط بشار.

وتتناغم مع هذه الكتابات التصريحات الرسمية التي تعبر عن تخوف الحكومات الغربية على مصير “الأقليات”، وتحث زعماء المعارضة على زيادة تمثيلها ومنح أبنائها المزيد من “الضمانات”، إضافة إلى حديث بعض المصادر العسكرية الغربية عن وجود مخططات لحماية هذه “الأقليات” من ردود أفعال محتملة قد تقوم بها الأغلبية ضدهم في الفترة القادمة!

وفي المقابل يبدي العديد من المعارضين السوريين امتعاضهم من تكرر استخدام الغرب ورقة “الأقليات” لأغراض سياسية شبيهة بتلك التي تذرع بها الفرنسيون والإنجليز لفرض الوصاية والانتداب على بلدان المنطقة عام 1918، إذ إن الجانب الإنساني الذي تتذرع به هذه الدول في تخوفها على مصير “الأقليات” لا يظهر بصورة فعلية في التدخل لحمل النظام على وقف الجرائم المروعة التي يرتكبها ضد معارضيه.

تدفع هذه النبرة بالكثير من السياسيين السوريين -الذين يبحثون عن الاعتراف الدولي بهم- إلى المبالغة في نفي هذه التهم، وإصدار وثائق ومشاريع حول المرحلة الانتقالية تؤكد إمكانية وقوع عمليات انتقامية، وتدعو إلى الاستعانة بقوات صديقة لحماية “الأقليات”، مما يصور الغالبية من المجتمع السوري على أنها مجموعات مفككة متنازعة، تتعطش إلى رفع مظلة الحماية التي بسطها حكم البعث على الأقليات وذلك للشروع في حملة انتقامية تستهدف أحياء وقرى أبناء الطوائف.

ومن المؤسف أن العديد من السياسيين لا يدركون خطورة الانجرار وراء تلك التوجهات الغربية، التي ما فتئت تربط الحراك الثوري بعناصر خارجية متشددة من تنظيم القاعدة، وتخلط بين “التدين” و”التشدد” بهدف إظهار الآلاف من عناصر الجيش الحر في مختلف الكتائب على أنهم من المتطرفين الإسلاميين، وما تمثله هذه التوجهات من تأثير سلبي على صياغة مشاريع المرحلة الانتقالية بصورة ترسخ الخلل البنيوي وتوتر العلاقات المجتمعية التي شابت الكيان الجمهوري خلال العقود الخمسة الماضية.

ويدفعنا ذلك إلى: نفي الأسطورة التي تصور عهد البعث (1963-2012) على أنه الفترة الذهبية لأبناء “الأقليات” التي ستفقد امتيازاتها بسقوط النظام، والتأكيد على أن الاختلال السكاني والتوتر المجتمعي قد جاء كنتيجة حتمية للنزاعات الفئوية التي شنها البعث منذ انقلابه عام 1963، والتي تزامنت مع شن حملة تصفيات جماعية استهدفت القيادات المدنية والعسكرية: السنية، والدرزية، والإسماعيلية داخل مؤسستي الحزب والجيش، وأعقبتها مرحلة من التصفيات العشائرية داخل الطائفة العلوية استبعدت فيها عشائر الحدادين والخياطين وركزت السلطة بيد المتاورة.

وكان أول ضحايا هذا الصراع اللواء محمد عمران الذي أبعد عن البلاد بتهمة: “محاولة بناء كتلة طائفية علوية داخل الجيش ولكونه المسؤول الأول عن جو الارتياب الطائفي”، وتبعه أمين الحافظ الذي تحدث بصورة علنية عن قيام خصمه صلاح جديد بتشكيل: “تكتل طائفي من خلال تعيين أبناء عشيرته في قيادة الفرق الإستراتيجية حول دمشق، وخاصة في فرق الصاعقة والمدفعية والقوى الجوية”.

وعلى إثر إقصاء الحافظ عن الحكم؛ استهدف صلاح جديد أكثر من مائتي ضابط وسياسي من الدروز الذين شعروا بالمرارة من الترتيبات التي أعقبت انقلاب فبراير 1966، ومن أبرز الذين طالتهم عمليات التصفية والاضطهاد: حمد عبيد، وفهد الشاعر، وحمود الشوفي، ومنيف الرزاز، وسليم حاطوم الذي فر من البلاد، ثم قرر العودة إليها في اليوم السادس من حرب حزيران 1967 للمشاركة في الحرب، فاعتقله عناصر الأمن واقتادوه إلى دمشق حيث أكد حكم الإعدام عليه مع رفيقه بدر جمعة، ويقال بأن رئيس جهاز الاستخبارات عبد الكريم الجندي قام بتكسير أضلاعه قبل إطلاق النار عليه وهو نصف حي في الساعة الخامسة من صباح 26 حزيران 1967.

وما إن تمت تصفية الضباط الدروز حتى بدأت عملية تصفيات طائفية أخرى ذهب ضحيتها مجموعة من الضباط الإسماعيليين إثر هزيمة عام 1967، وعلى رأسهم: أحمد المير، وعبد الكريم الجندي الذي قتل في ظروف غامضة، وشقيقه خالد الجندي الذي حلت الوحدات العسكرية التابعة له في ذلك العام، إضافة إلى ابن عمهما سامي الجندي الذي اعتقل إثر عودته إلى سوريا عام 1969.

وبحلول عام 1970 بدأت عمليات فرز أخرى تحت إشراف حافظ أسد الذي برع في توظيف التناقضات الطائفية والعشائرية لترسيخ حكمه؛ حيث تعقبت أجهزته الأمنية اللواء محمد عمران واغتالته في بيروت عام 1972، ولم يكن رفقيه صلاح جديد أوفر حظاً من عمران، حيث اقتيد مخفوراً إلى سجن المزة وخرج منه عام 1993 جثة هامدة، بعد أن قضى 23 سنة في الاعتقال أمضاها مع مجموعة من أقدم مساجين العالم من مختلف الطوائف والإثنيات.

وبعد أن طالت عمليات التصفية والإقصاء رموز عشائر الكلبية والحدادين والخياطين من معارضيه؛ شرع حافظ في تشكيل وحدات عسكرية تقوم على أساس عشائري-طائفي؛ حيث تولى كل من: شقيقه رفعت أسد ومحمد نصيف ومحمد إبراهيم العلي مهمة تجنيد الآلاف من طائفة “المرشديين” في الحرس الجمهوري، وسرايا الدفاع، والفرق المدرعة الرابعة والتاسعة، في حين تولى جميل أسد ضم أعداد كبيرة من فرقة “الكلازية” إلى جمعية المرتضى التي تحول أعضاؤها فيما بعد إلى عناصر في عصابات “الشبيحة” بزعامة ابنه فراس.

فهل يصح اعتبار فترة حكم البعث في سوريا جنة “الأقليات” التي ينذر انقضاؤها بزوال امتيازاتها كما يدعي صحفيو اليسار البريطاني -وعلى رأسهم روبيرت فيسك- الذي تناسى معاناة الأكراد والنصارى كذلك في ظل حكم البعث وأخذ يخوف من مغبة وصول الإسلاميين للحكم.

ففي الآونة الأخيرة تتجاهل الصحافة الغربية ما كان يتمتع به أبناء “الأقليات” من مميزات في ظل حكم “الأغلبية” والمناصب السياسية والعسكرية التي وصلوا إليها في ظل الحكم النيابي (1946-1963)، وتتباكى على مصير هذه المجموعات السكانية في ظل حكم الأغلبية، مع إنكار مقلق لمعاناة الأكراد في ظل حكم البعث، الذي منعهم من بيع عقاراتهم وأراضيهم وفق المرسوم 49 الذي أصاب الحياة الاقتصادية في مناطق الجزيرة بالشلل.

كما حرم نظام البعث عشرات آلاف الأكراد السوريين من حقوقهم المدنية، كالحصول على الجنسية السورية، وتسجيل أبنائهم في المدارس، والتوظيف، والحصول على هوية أو جواز سفر، والتمتع بالرعاية الصحية، وقام بتسليمهم بدلاً من ذلك بطاقات لاجئين.

فهل جنة “الأقليات” التي يتباكى مستشارو الخارجية الأمريكية -مثل ولي نصر- على زوالها هي التي تحول مواطنيها إلى لاجئين؟

وهل أعمى إستراتيجيو الإدارة الأمريكية -وعلى رأسهم توم دينيلون- الخوف على تحريك المياه الراكدة في الجولان المحتلة للمحافظة على أمن “إسرائيل” عن إدراك ما أحدثته مليشيات “الشبيحة” وأجهزة أمنه العشائرية من تعديات وإساءات على سائر أبناء المجتمع السوري بكافة انتماءاته وأعراقه؟

لقد بلغ هاجس الإدارة الأمريكية في المحافظة على أمن “إسرائيل”، بوزير الدفاع الأميركي ليون بانيتا إلى الدعوة للإبقاء على البنية التحتية لجيش النظام وأجهزة استخباراته في المرحلة الانتقالية، وذلك ضمن مشروع “الأسدية دون أسد”، والذي يقتضي المحافظة على البنية التحتية للنظام بعد سقوط بشار وعدم تسليح الجيش الحر بدعوى تغلغل العناصر المتشددة في صفوفه.

ولتحقيق تلك المخططات فإن المشروع الغربي لسوريا الجديدة يتطلب تعزيز الخلل السكاني، وترسيخ الأمراض المجتمعية التي قامت الثورة ضدها، والمحافظة على هيمنة البنية العشائرية في صفوف المؤسسة العسكرية وأجهزة الأمن، ولا يتحقق ذلك إلا من وسم كتائب الجيش الحر بالتشدد وتخويف الأقليات من مصير مجهول في ظل هيمنة “التطرف الديني”.

ربما يتحدث رئيس المجلس الوطني السوري والناطق باسم المجلس كثيراً عن التسامح الذي يعتبر أحد أهم أسس الهوية السورية المعاصرة، لكن الوثائق الغربية تعج بالأمثلة التي يتغاضى المسؤولون الغربيون اليوم عنها لتمرير مشاريعهم في ظل قصور أداء المعارضة السياسية في البلاد، ومن ذلك ما ذكره القنصل البريطاني شون بتاريخ 27 إبريل 1945، تحت عنوان: مستقبل الطوائف في الجمهورية السورية بعد الاستقلال، والذي تحدث عن تسامح الأغلبية في المجتمع السوري مع “الأقليات” بقوله:

“المسلمين السنة يتعاملون بتسامح ظاهر مع الأقليات إلى درجة أن تمثيل النصارى في البرلمان السوري أكبر بكثير من حجمهم في المجتمع السوري، بل إن رئيس الوزراء (فارس الخوري) هو من النصارى البروتستانت، وكذلك فإن اثنان من الأعضاء الثلاثة في الوفد السوري بمؤتمر سان فرانسيسكو هم من النصارى”.

وإذا تذكرنا أن أول من بادر بإثارة هذه المخاوف هو رئيس أركان الجيش الإسرائيلي “بني غانتس” الذي أبدى قلقه على مصير: “أبناء الطائفة العلوية في سوريا” وأعلن أن بلاده: “تستعد لاستيعاب لاجئين علويين في الجولان”، فإنه يمكن معرفة مصدر الحملة الإعلامية الغربية ضد الجيش الحر في الإعلام الغربي، والذي يعكس في حقيقته الخوف من انتهاء مرحلة الاستقرار التي شهدتها المناطق الحدودية للكيان الصهيوني مع نظام حافظ وبشار.

أما المستفيد الآخر من هذه الحملة فهو مجموعة من أقطاب النظام الذين يحدثون أنفسهم بالقفز من سفينة بشار الغارقة، والمحافظة على مكتسباتهم من خلال تجاهل سياسة الفئوية التفتيتية المغلقة التي عملوا عليها خلال الفترة الماضية، والتخويف من يقظة الشعب السوري عبر استهداف مكونات الثورة السورية و”تخويف الأقليات”.

لقد كان التسامح ولا يزال من أهم صفات الأغلبية من أبناء المجتمع السوري، وأهم ما في هذه المسألة هو تذكير هذه العناصر بضرورة عدم استغفال الشعب السوري، واستخدام التضحيات التي قدمها كأوراق مساومة تمكنهم من تقاسم السلطة بعد سقوط بشار.

نقلاً عن : http://alasr.ws/articles/view/13482

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف مختلفة, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.