إرادة الانتصار

إرادة الانتصار.. والتفوق النفسي.. والقوة المعنوية .. ويتوجها الإيمان عوامل حاسمة في الانتصار ..وعدة مذهلة حمت أمتكم عندما أحدقت بها النكبات.
أتظنون حال الأمة الآن شر من حالها يوم تدافع المغول فمحوا حاضرة الدنيا بغداد من على وجه الأرض.. أم أنها أضعف منها يوم أتت جيوش الصليبيين الى الشام وقد صارت دولا كثيرة.. واستولى كل أمير على بضع قرى فجعل نفسه ملكا عليها.. ودخل الصليبيون القدس فذبحوا فيها ستين ألف مسلم جرت الأزقة بدمائهم.. أم أن روح الأمة أضعف من روحها يوم اجتمعت كلمة أوربة على احتلال بلاد العرب والمسلمين وما زالوا بالأمة حتى دمروا لها رمز وحدتها المعنوية وألغوا الخلافة على يد عملائهم… فأصاب المسلمون ذهول مرعب ووجوم طويل.. أم أن مذابح اليوم أقل بشاعة من مذابح محاكم التفتيش في الأندلس التي أزهقت أرواح مئات الألوف من الناس.. وارتكبت من المخازي.. ما يشين وجه البشرية إلى يوم الدين.

ورغم كل ذلك صمد المسلمون وما تستطيع قوة أن تلغيهم.. وما تستطيع دول الأرض كلها أن تمنع انبثاق نور الله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.. وذلك مشروط بأن يبقى الإيمان معانقاً أرواح الأمة والإسلام مبتدأها ومنتهاها.. والوعي بسنن الله في خلقه رصيدها ومبتغاها.. (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)

قد تمر بالأمة أهوال لا يستطيع فيها الناس شيئا ولكن إرادة الانتصار.. إرادة الثبات.. إرادة التمكن والاستشهاد تبقى حية في نفوسهم وكلما أخمدت .. اتقدت في القلوب واشتدت نارها.. وليس هناك محل لأي خور في النفوس أوضعف في العزائم أوجبن في القلوب فالطريق لابد فيه من الاستمرار

والتاريخ سجل مذهل لقوانين الانتصار
هل سمعتم بالمغول؟ .. هل سمعتم بهولاكو الذي كانت الدول ترتجف عندما تسمع اسمه.. هل سمعتم بالجحافل الجرارة التي كانت تبث الرعب إذا ذكر مجرد اسمها.. فخذوا العبرة منه والدروس
بعد أربع سنوات فقط من سقوط بغداد أي عام ستمائة وستين هجرية.. وما زالت الأمة تعيش رعبها من المغول.. قدم صندغون المرعب أحد قواد هولاكو.. فحاصر الموصل وكان فيها الملك الصالح ركن الدين إسماعيل بن بدر الدين لؤلؤ.. وكان من عادة المغول أن يقتربوا من المدن مع فرق عسكرية خاصة تضرب بالطبول بطريقة مخيفة من أجل تحطيم نفسيات الناس قبل الوصول إليهم.. وكان في المدينة مندوب عن هولاكو فُرض عليها فرضا.. وكان يعينه على التجسس على المسلمين بعض النصارى ……. وكذلك بعض الخونة [المسلمين] الذين استطاع المغول شراءهم بالمال..

وكان الملك الصالح يترصدهم ولا يغفل عنهم ويراقبهم.. وعلم أن مراسلة قد حصلت بين المتآمرين داخل المدينة وبين القائد المغولي صندغون.. وتلفت حوله يبحث عن نجدة.. كانت دول المسلمين الكثيرة يومها مثل البلاد العربية اليوم لا حول لها ولا طول.. ولم يجد أمامه إلا الملك الظاهر بيبرس.. فذهب إليه لاستدعاء النجدات.. واتفقت الكلمة على أن يبعث الملك الظاهر بيبرس بنجدة تحت قيادة سنقر الرومي لتلتقي مع قوات شمس الدين البرلي والي حلب.. وعاد الملك الصالح بصعوبة بالغة إلى مدينته.. وقد بدأت طلائع المغول تحاصرها.. والأقوات فيها تنفذ شيئا فشيئا.. والناس في رعب حقيقي فلا هم يستطيعون هربا ويعلمون أن قدوم المغول معناه الذبح.. وما كان يخفف عنهم رغم نقص الأرزاق والأقوات والعدة والذخيرة والرجال إلا تلك المعنويات العالية المدهشة لقائدهم الملك الصالح.. وآمالهم بوصول النجدات من إخوانهم.. وعلم المغول بالنجدات فاتصلوا بالصليبيين في بلاد الشام فحركوا قواتهم في طريق قوات سنقر الرومي المبعوث من قبل الظاهر بيبرس فاضطر لمناوشتهم ولم تعد قوات صاحب حلب كافية لوحدها للذهاب للنجدة.. فانه بات الآن يخشى على حلب نفسها بعد تحركات الصليبيين.. ورغم ذلك أرسل ما استطاع من قوات خرجت إليها جحافل المغول فدمرتها قبل وصولها وتركوا بعض الأسرى يفرون إلى الموصل ليزيدوا من ضعف المعنويات وطال الحصار وهلع الناس.. وانهالت منجنيقات المغول على حصون الموصل تدكها دكا.. وحاول المغول اقتحام المدينة مرات عديدة.. ولكن عزيمة المقاتلين صدتهم مرارا.. وازدادت الأمور سوءا..

وبعد ستة أشهر من الحصار لم يبق في المدينة زاد ولا طعام ولا مال وانتشر الوباء والجوع.. وكان الملك الصالح يعلم غدر المغول ولم يبق في اليد حيلة.. ولم تصل النجدات.. وبقيت عزيمته القوية تشد الناس كلهم.. ولكن هل يتحملون ما يتحمله.. وفي النهاية لم يجد مفراً من قبول عرض المغول.. لقد طلبوا منه تسليم المدينة وإلا فسيتابعون الحصار ويذبحون الجميع.. وقبل الملك شريطة أن لا يمسوا فيها أحدا ولا يسفكوا دم أحد ويعطوا الأمان للجميع.. ولم يقبل المغول.. لقد خافوا أن يذهب الصالح بعد رفع الحصار لإحضار الإمدادات.. وطلبوا منه رهينة.. أتعلمون من أخذوا؟ فلذة كبده ولده علاء المُلك الذي لم يتجاوز السادسة من عمره.. ورضي الصالح رغم المخاطر.. فحياة الناس أغلى من حياته وحياة عائلته كلها.. ثم طلب المغول أن يأتي الملك الصالح نفسه إليهم وأتى.. ليقسم له صندغون بأغلظ الأيمان أنه لن يمس أحدا من سكان المدينة.. وفتحت المدينة وقد خرج الناس إلى الأمان فإذا بسيوف المغول تسل وإذا بالجماجم تتكدس والدماء تجري في الأزقة والهمجية المغولية لا توفر شيخا ولا امرأة ولا طفلا.. إبادة جماعية مثلما يفعل المجرمون في كل زمان.. لاذمة ولاعهد ولا ميثاق … …. وهدمت الأسوار.. ولم يفر الملك الصالح.. دخل مثخناً بالجراح إلى خيمة صندغون يسأله عن العهود والمواثيق والأيمان.. ونطق الطاغوت بما في قلبه من أنه أراد أن يجعلها عبرة للمسلمين حتى لا يجرؤوا على القتال أبدا.. والتفت صندغون إلى الملك الصالح قائلاً ومستغرباً: أليس هناك أمر أشد أهمية من المدينة يخصك لتسأل عنه؟.. يبدو أن هزيمتك المرة أنستك أشياء كثيرة.. وكادت الدموع تطفر من عيون الصالح وهو يقول: لم أنس أبدا ولدي أيها الوحوش.. ولكن مدينتي وجنودي وأمتي أعز علي من كل شيء.. وقهقه صندغون برعب وفتح باب الخيمة ليرى الصالح مشهدا مخيفا.. فلذة كبده وقد شطرها المغول بالطول شطرين صلب الشق الأيمن منها على ضفة النهر اليمنى وصلب الشق الآخر عند الضفة اليسرى
ولم تنزل للصالح دمعة.. وثبت باستعلاء في الموقف الذي تنهار به جبابرة الرجال
وقف يقول لصندغون: إني لا آبه الآن لابني وقد ذبحتم كل أطفال المسلمين.. والأيام بيننا.. لقد انتصرت بسيفك وستدحرك عزيمة أمثالي ومعنوياتهم.. وأرسل صندغون الملكَ الصالحَ إلى هولاكو الذي كان غاضبا جداً.. وناقماً على الصالح.. وكذلك زوجة هولاكو كانت غاضبة جدا .. فقد كنت على دين الصليبيين وضابط الارتباط بينهم وبين المغول
في المعسكر أمر هولاكو أن يدهن جسم الصالح بسمن الأغنام ثم لفوه باللبن وأحكموه في الجبال وألقوا به في شمس الصيف القائظة فاستحال السمن بعد أيام إلى ديدان أخذت تتكاثر وهي تلتهم جسم الرجل الذي اختار مجابهة الوباء
وبقي كذلك شهرا كاملا حتى فاضت روحه.. رحمه الله

قصة المغول شاهد قديم على قوله تعالى “إن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم الا ولا ذمة”.. أي لا يراعون عهدا ولا ميثاقا
العالم اليوم يتفرج بمكر ويقلق بنفاق وينتظر أن ننتهي حتى يهيمن على كل شيء ..ويشيح بوجهه مسرورا في أعماقه ودماء شعبنا تسيل مثل الشلالات ليل نهار .. والسجون تكتظ بعشرات الألوف من الأحرار
ورغم كل ذلك.. فان عزائمنا أقوى وان عقيدة الإيمان لتبعث فينا من القوة والعزيمة ما لا يعرفه الخبثاء والمتآمرون علينا.. وإنهم ليمكرون بنا ويمكر الله والله خير الماكرين.. وستأتي اللحظات التي يدب فيها النفير للأمة كلها .. وتنكس الرايات الدخيلة .. وستبقى نيتنا دائما البذل لله والجهاد والاستشهاد.. ولن نسمح للوهن أن يطغى وسنستقبل الموت أعزة باسمين إذا قدم

أخي يا قوة عظمى تهز الكون صرختك
عجيب أن ترى وجلا وثوب الخوف يلبسك
أأنت الموت تخشاه وأنت الموت جنتك
رغم كل ما يحيط بنا فقد قررنا أن نبقى، وأن نتابع طريق الحرية والنصر ، فإما عيش السعداء وإما موت الشهداء، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

أحمد معاذ الخطيب

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف تذكرة, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.