الفكر التفكيكي ورفضه (ما أنا بطارد الذين آمنوا)

(الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) 1. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له ونشهد أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله ورسوله جاء بالهدى ودين الحق ليكون للعالمين نذيرا.
عباد الله (اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)2 ، أما بعد فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن من كلامه تعالى قوله حكاية عن قوم نوح: (ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجريَ إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون * ويا قومي من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون)3.
نمضي اليوم مع شيخ الأنبياء نوح عليه السلام في درس من دروس الدعوة القرآنية وهو رفض منطلقات وفكر التفكيك.
ما هو فكر التفكيك؟ البعض لشدة ولعه بهوىً يعيشه أو فكرة تملأ عليه حياته لا ينتبه إلى حقائق ما يعيشه الناس من منظومات إيمانية أو اجتماعية أو نفسية ؛ تشكل لهم منهجاً متوازناً يمدهم بعوامل الاستقرار والحيوية والثبات ، ولو كانت فيها بعض نقاط الضعف ، ويأتي من لا يقدم منظومة متوازنة بل طفرات لا تأخذ بالحسبان توازنات الناس فيقع في إشكالات كثيرة إن كان صادقاً فكيف إن لابست الأمر منعطفات نفسية لا تُعلم نهاياتها ، أو مطامع حياتية عاجلة.
ونوح عليه السلام ينبه قومه إلى حقيقة الدعوة الربانية (ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله) ، فالحرص على الدنيا والتطاحن العنيد لاكتساب المواقع فيها وحيازتها يفتح جبهات هائلة من المكابرة والعناد والتشبث ، أما عندما يتجرد الداعية عن فتاتها الذي ينبهر به عشاقها فإن كلامه وسعيه يأخذ بعداً آخر ، ولذا وجدنا في حياة الأمة المسلمة أن من وثقت الأمة بعقيدته وإخلاصه وتجرده لنصحها لقي منها القبول وحاز المرجعية رغم ما يكون (ربما) قد وقع فيه من أخطاء تفرضها الطبيعة البشرية ، وأما من شعرت الأمة (وللأمة مشاعر شديدة الحساسية جداً تُجاه هذه الأمور) ؛ من شعرت الأمة أن من وراء كلامه قصداً لا يتوافق مع منظومتها الاعتقادية والشعورية والاجتماعية فإنها تلفظه ولو كان في كلامه بعض الصواب.
خذوا مثالاً عن ذلك (قراءاتٍ معاصرة مخربة) ما ضمها كتاب واحد بل هي جيوش هجمة تغريبية طاحنة تحاول الزلزلة والتحطيم في وقت الحرب الشرسة على الإسلام ؛ تلك القراءات ساقطة عند الأمة ولو كان في بعض منها الصواب لسبب واحد: أن الأمة لا تثق بأصحابها ولا تحفظ لهم سابقةً في الدفاع عن الإسلام ولا تعرف لهم جهداً مشكوراً مجرداً سالفاً يذود عن الأمة.
إن قانون الدعوة الأول (إن أجري إلا على الله) إن لم يكن متحققاً بالكلية فسوف ينفر الناس من صاحب الدعوة كائناً ما كانت العبارات من الصواب التي تخرج من فمه ، فكيف إن كان الأمر لا قيد له ولا ضابط.
الفكر التفكيكي الذي يقلقل ولا يبني وضعت أسس نسفه في منطلقات الأنبياء عليهم السلام ، (وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون)5 ؛ أهل الإيمان وعقيدتهم ومنظومتهم الاجتماعية والفكرية والنفسية هي صاحبة السيادة والأولوية.
المشكلة أيها الأخوة في كيفية التعامل مع ما يخطر ببالنا أنه بحاجة إلى فهم جديد ؛ الفقيه المسلم … الداعية المسلم … المفكر المسلم الذي مبدأه : (إن أجري على الله) دون أن يكون الهدف إرضاء أمير ولا وزير ولا غني ولا فقير ولا جماعة ولا حزب ينظر إلى ما يطرأ في الأمة من مشكلات فيقرر أن الكتاب والسنة الصحيحة الثابتة هي الإطار الذي يتحرك من خلاله ؛ فإذا أتت ضرورات تزحزح حكماً من الأحكام الاجتهادية عما هو مستقر عليه ، نُظر فإن كان الكتاب والسنة يتسعان لرأي جديد أو قديم يُجَدَّدُ لا يخالف مقاصدهما ، لم يكن هناك غضاضة في تبنيه والتزامه ، ومثال ذلك : إلزامية الشورى فكثرة من فقهاء المسلمين يرون أن الشورى غير ملزمة للأمير ، ولكن إذا وجد الفقيه أن مقاصد الشريعة وتجارب التاريخ وعبر الأمم وما مرت به الأمة المسلمة من نكبات بينت بجلاء أن هذا الأمر سبَّبَ استبدادية في الرأي وتلاعباً بالشعوب وزجاً بالطاقات في غير موضعها فوصل إلى نتيجة تقول بإلزامية الشورى ؛ فهذا الأمر ظاهر الحكمة ، ولا يخرج عن الكتاب والسنة ، وقد نقل القاسمي عن الإمام الرازي أن من وجوه مشاورة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه أن المشاورة لا لأجل أنه محتاج إليهم ، ولكن لأجل أنه إذا شاورهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصح في تلك الواقعة فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها ، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات، وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد ؛ انتهى. فإذا كان هذا الحال مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكيف بمن دونه.
العلَّامة المودودي شديد التبني لفكرة عدم إلزامية الشورى فلما رأى ما سببته من كوارث في بعض الأحيان على الشعوب المسلمة أو الجماعات الإسلامية التي تريد أن تحارب الاستبداد وبنيتها الهيكلية قائمة على طريقة استبدادية ؛ لما رأى ذلك رجع عن رأيه إلى القول بإلزامية الشورى للأمير.
المهم أن هذا الأمر في سعة وتُتقصدُ فيه مصلحة المسلمين ، ولكن هناك أموراً أخرى لا يجوز تجاوزها ولا القفز عليها بحال من الأحوال ؛ خذوا مثالاً عن ذلك موضوع الربا الذي لم يأت في كل كتاب الله تحذير شديد مثلما أتى فيه (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون)6، والذي يأتي ويفتي الناس بحل الربا أو معاملاته فإنما يوقع الأمة في إشكال خطير أوله إخراجها من كنف الله ورحمته وعنايته (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم)7، وكما تحصل الخشية بالخوف على النفس من القتل والتخطف من الأرض تحصل الخشية من التدهور الاقتصادي والتخطف من عالم الأموال فيردنا الله إلى الاعتماد عليه الثقة بشريعته وما اختاره لنا سبحانه.
ثانياً: تربية النفسية الأنانية الضيقة التي لا تنظر إلا إلى المنفعة القريبة وتغفل عن العاقبة المريعة ، وحقيقةً فإن النظام الربوي هو أبشع ما ابتليت به البشرية في أطوارها الاقتصادية وكل الباحثين الاقتصاديين يعلمون أن النظام الربوي العالمي قد دمر الدول النامية لصالح الدول الصناعية ، بل إن هناك صناعةً مخيفةً اسمها صناعة الجوع وصناعة الكوارث الاقتصادية تمتلكها الدول الكبرى وتمتص دماء الشعوب المستضعفة التي باتت كالعبد الذليل تقبل الضغوط السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية بسبب أنها مربوطة بشكل محكم بشبكة عنكبوت اقتصادي مرعب هو الدول الصناعية الكبرى التي تتحكم بالعالم عن طريق النظام الربوي.
ثالثاً: قبول النظام الربوي يدمر الاحتياطي الاستراتيجي من الفطرة البشرية ويدمر البعد الإنساني فيها فالإسلام لا يرضى أن يكون مصاص دماء لأحد وكل أمة تقبل الربا فإنما تعلن انسحابها من التواصل الإنساني الذي يقوضه نظام الربا يما ينشؤه في النفوس من عشق المال والترف والاستغلال والأثرة والأنانية والجشع.
رابعاً: التنازل النفسي عن تحريم الربا يماثل تماماً أمة أعلنت الاستسلام المادي والمعنوي في وجه عدوها ؛ بدل حشد كل طاقاتها لمواجهته والخلاص منه ؛ لذا فالربا يبقى حراماً إلى يوم الدين ، ومهما اشتدت الظروف الاقتصادية ، ومهما حاصرت القوى الاستكبارية العالمية الشعوب الضعيفة فإن الربا يبقى في حس الإنسان المسلم حاكماً كان أو وزيراً أو مسؤولاً اقتصادياً أو مواطناً عادياً ؛ يبقى حراماً وإن تعامل معه وفيه ، وتسألون ما الفرق مادام الضغط قد أدى إلى القبول العملي بالتعامل! والفرق هائل … من أن يُحتل قلبك بحرام تفقد معه الصلة مع الله تعالى وتدمر مقومات الأمة المسلمة المادية والمعنوية وبين أن يكون الحرام الذي يلابسك إنما هو ضرورة قاهرة على صعيد أمة أو مؤسسة أو فرد ؛ وفي القلب نفور شديد منه ، والعلاقة معه كمثل قطرات ماء فوق شمع بارد لا تقدر على الامتزاج فيه أبداً مهما مكثت فوقه ، وهزة واحدة تزيلها. أترى لو أن عدواً خبيثاً مثل بني صهيون أو الصرب احتل دياركم وخرَّبَ مساجدكم واغتصب نساءكم وأيتم أطفالكم ؛ ثم قهركم بسلاحه وقوته ؛ أكنتم ترضون بذلك في أعماق قلوبكم أم أن جذوة المقاومة والرفض والبغض العارم والإعداد ليوم الخلاص تتقد وتتقد حتى إذا نادى المنادي أن يا خيلَ الله اركبي نفرتم جميعاً ؛ فامتزجت دماءكم سيلاً أحمر قانياً يغسل عاركم ولا يبالي بغالٍ ولا نفيس من أجل الخلاص ، وكذلك الاحتلال الاقتصادي للأمة المسلمة لا يجوز أن يذيقها طعم النوم أو السبات الحضاري ؛ لأن في أعماق النفس هدير إيماني لا يقبل بسوى شرع الله بديلاً ؛ حربه ليست في جزئيات صغيرة بل مع نظام عالمي أخطبوطي وجوده إثم من الأثام التي لا تستريح البشرية المنكودة إلا بإزالته.
وعندما يأتي من يتحدث عن ضرورات تحيط بالحياة ؛ قلنا له ما دامت شريعة الإسلام هي شريعة الله الحق فهي لا تغفل ضرورات الناس الفعلية ، وكلكم تعلمون القاعدة الشرعية الضرورات تبيح المحظورات التي تأتي أخت لها لتقول الضرورة تقدر بقدرها وما في تاريخ الفقه الإسلامي سد أبداً في وجه حاجة حقيقية للأمة ؛ أما الحاجات النفسية والأهواء الخاصة والأصابع الخفية لفكر رأسمالي أو ماركسي تغريبي أو تهويدي ، تفريغي أو تحطيمي، فليس مسموحاً لها بحال أن تأخذ مكاناً في رحاب الفقه الإسلامي ، ومقولات التجديد المزعوم إن كان القصد منها استنباط الأحكام الشرعية لمستجدات الأمور أو مراجعة بعض الاجتهادات التي تتغير بتغير الزمان والمكان والمجتمعات في ضوء الكتاب والسنة والصحيحة فهذا مما لا لبس فيه بل هو واجب شرعي تأثم الأمة إن لم يقم أحد به ؛ أما إن كان القصد هو الإتيان في كل يوم بما لا يُعقل ولا يُفهم فهو مرفوض وإن أتى به حملة الأسفار! كمن زعموا أن المرأة يجب أن تتحرر ، وقلنا: كلام عام يتحمل الخير والشر فقيدوه وخصصوه حتى نفهمه ؛ فقالوا: ما بين الفخذين عورة والفخذان ليسا بعورة ، و(إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ، إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)8.
ومن قالوا أن الفقه جَمُدَ وجَمَّدَ الأمة! قلنا لهم: لكل زمن أهله ومجتهدوه فأرونا آلات الاجتهاد عندكم فلفقوا لنا لا فقهاً أعوج أعرج فقط بل أتوا بسم قاءه تغريبيون خبثاء ؛ يريدون تحطيم كل ما وثقت به الأمة ، يريدون نسف أصول الشافعي ومقاصد الشاطبي وتحريرات ابن حجر وفقه النووي ومباحث الغزالي بل يريدون نسف الإسلام كله ؛ تحت شعار البحث والعلم والمعرفة والاجتهاد التي لا تعرف لها ضابطاً ولا رابطاً ؛ بل هي عموميات إن بحثت عن مدلولاتها التفصيلية وجدت النتيجة تخريباً وتحطيماً وتفريغاً للأمة.
والمشكلة أن هؤلاء يتذرعون بأعظم نعم الله ؛ بالعقل ، والعقل شيء نسبي ؛ فكل شخص له عقل فأي عقل هو الضابط؟ أهي عقول شيوعية أم وجودية رأسمالية أم صهيونية خبيثة تسلل تحت ألف غطاء وقناع لتحطم الأمة وتنسف فيها كل مقومات الوجود والثبات ؛ أم هو العقل الذي تذرع به المعتزلة غفر الله لهم فاضطهدوا الإمام أحمد بما لا يفهمه العقل حتى اليوم فأضاعوا بعض ما كان عندهم من صواب فنبذتهم الأمة في وجدانها وإن كانوا أصحاب جهد كبير، ويأتيك اليوم من ينسب نفسه إلى فكر المعتزلة والبحث الحر والعقل وما هو يصلح بأن يكون نعلاً في أرجلهم ؛ فالمعتزلة كانوا أصحاب منهج متكامل ولو شذ فيهم من شذ وكانوا أصحاب شكيمة هائلة صدت عن الإسلام غاراتٍ شعواء من أمم وحضارات تصدت للإسلام.
فماذا فعل ثرثارو اليوم؟ إن الشهوات لا تتناهى ، وقد يخيل للإنسان إذا فكر من دون اهتداء بأن المصلحة في الأمر الفلاني فإذا عرف مراد الله تبين له أنه كان في ضلال بعيد ، ولم يكن الإسلام يوماً شقاءً للحياة ، بل الحياة هي التي شقيت لما ابتعدت عن الإسلام وليس الحل بتدجين الإسلام ولا تكسير أضلاعه ولا تطويعه كما يهوى المنحرفون بل الحل بأن تطوع الحياة كلها لتسير في ظلال الإسلام وهديه وشريعته.
البعض يريدون باختصار إسلاماً بلا التزام ، أي إفقاد الإسلام كل عوامل وجوده ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول في الحديث الصحيح: (لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين)9، وعلى نهج شيخ الأنبياء نوح عليه السلام نقول: ويا قوم لا نسألكم عليه مالاً إن أجرنا إلا على الله ، وما نحن بالذين نترك معاقد أهل الإيمان ومواطن قوتهم ، وما نحن بالذين نطرد الإسلام عقيدة وشريعة ونظاماً لنحل محله أفكار التغريب والتهويد ، ويا قوم من ينصرنا من دون الله إن فكَّكنا عقيدتنا وأضعفنا شريعتنا ودمرنا جذورنا وأصولنا ؛ قولوا لي بالله عليكم ما الذي يصد عنا أحقاد المتكالبين وتآمر يهود ومكر الشرق والغرب وينسف أحلام بني صهيون ؛ أفلا تذكرون؟ من عمل صالح فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون.

- ألقيت هذه الخطبة بتاريخ 9 شوال 1415هـ / 10 آذار 1995 م.
- في الشريط الصوتي إضافات واسعة يرجى الاستماع إليها.

الإحالات :

1- الأنعام 1.
2- آل عمران 102.
3- هود 29-30.
4- الآية السابقة
5- الآية السابقة
6- البقرة 278-279.
7- آل عمران 173-174.
8- البخاري ، الأدب 6120. وغيره
9- البخاري ، الأدب 6133 ، مسلم ، الزهد والرقائق 2998.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف من خطب الجمعة, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.