التوبة من الذنوب الجماعية : بداية الطريق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمد الشاكرين ، والصلاة والسلام على المعلم الهادي محمد وعلى آله وصحبه

يتوب الكثيرون من الذنوب الفردية ، ولكن التوبة من الذنوب الجماعية أضعف بكثير وقد لايحصل أصلاً ؛ ربما لأن له مقدمات طويلة لايفطن لها أكثر الناس ، مع أن الأمر والتكليف الشرعي في القرآن الكريم إنما هو في أكثره جماعي ابتداءً من (إياك نعبد وإياك نستعين)[1] ، وقد لاحظت في بعض البلاد أنه كلما أحاطت بالأمة نكبة أو مصيبة ؛ كثرت حلقات قراءة كتب أشراط الساعة! صحيحها وسقيمها ؛ حتى يكاد أولئك الإخوة الطيبون يمهدون لأنفسهم وللأمة الاستسلام لكل محنة آتية ، فكل منها لها مع إحدى علامات الساعة نسب! وترى العمل السنني والتكليف الشرعي حتى الفردي يكاد يخبو ، وكأن تلك القراءة هي البديل عن العمل العنيد المستمر لرفع إيمانيات الأمة وتقدمها إلى الريادة والفلاح.

ضياع الأندلس[2] له في قلوب المسلمين لوعة وأسى ، ولم يخرج منه المسلمون حتى اليوم بدرس عميق أوعبرة ، حتى صار في عالم المسلمين اليوم مائة أندلس تضيع وبقي التباكي عند أهل الغيرة هو المألوف والفعل والذكرى.
وفيما يلي إشارات ومعان تدندن حول الأمر وتبحث عن بعض منافذ النجاة.

الإشارة الأولى :الإدمان ممنوع:
أما المتبلدون (الذين نسأل الله لنا ولهم العافية) فليس لنا معهم الآن حديث! وإنما يهمنا صاحب الغيرة الذي يحترق قلبه على الأمة فلا يجد سبيلاً غير أن يتابع أخبار المسلمين هنا وهناك ولايترك فضائية إلا وتسمرت عيناه على ماتبثه ، وقلبه يكاد ينفطر على حال المسلمين!
إن فقه الفضائيات فيه خطر كبير ومنافع للناس ، وخطره أكبر من نفعه إلا لمرتاض حاذق متوازن! ومنا من يتابع أخبار الشر في الأرض دون منهج سليم ، فيؤدي ذلك إلى هبوط المعنويات ؛ بل ربما التهيؤ النفسي لقبول كل أنواع الضعف في الأمة.
وهذه الأمة وجدت لتبقى ، ورغم كل مايحيط بنا فقد قررنا أن نبقى كما قال الأستاذ الغزالي رحمه الله يوماً، ولكن الحالة الإيمانية التي هي مناط الثبات عرضة للزيادة والنقصان.
ونجد في فترة مبكرة وخطوة استباقية منهجاً رائداً لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه في التعامل مع الشر، وهو منهج راشد وينبغي أن يتجمل به دعاة الإيمان في كل أرض! وفي الصحيحين أنه قال : كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني! فقلت: يارسول الله ، إنا كنا في جاهلية وشرٍ ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شرٌ؟ قال صلى الله عليه وسلم نعم فقلتُ له: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: صلى الله عليه وسلم نعم ، وفيه دَخَنٌ ، قلتُ : ومادَخَنُهُ؟ قال: صلى الله عليه وسلم قومٌ يستنون بغير سُنتي ويهتدونَ بغير هديي ، تَعرفُ منهم وتنكر فقلت: هل بعد ذلك الخيرِ من شرٍ؟ قال: صلى الله عليه وسلم نعم ، دعاة على أبواب جهنمَ ؛ من أجابهم إليها قذفوه فيها ، فقلت: يارسول الله ، صفهم لنا ، قال: صلى الله عليه وسلم نعم ، هم قومٌ من جِلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلت: يارسول الله ، ماترى إن أدركني ذلك؟ قال: صلى الله عليه وسلمتلزم جماعة المسلمين وإمامهم فقلتُ: فإن لم يكن لهم جماعةٌ ولا إمام؟ قال: صلى الله عليه وسلم تعتزلُ تلكَ الفرقَ كلها، ولو أن تعض على أصل شجرةٍ ، حتى يُدرِكَكَ الموتُ وأنت على ذلك[3].

إن فقهنا للشر لضعيف ، ومبادرة حذيفة تبحث عن صاحب يرفع رايتها من بعده عالياً فيراها المؤمنون فيتحلقون حولها يحيون فقهاً كاد يضيع!
وأول القصة رواه حذيفة رضي الله عنه فقال: صلى الله عليه وسلم تعلم أصحابي الخير ، وتعلمت الشر[4]، لذا كان أعلم الناس بالمنافقين والأقدر على صد مكرهم وكشف نفاقهم.
ثم جاء تفريع على كلامه بأن الإدمان مرفوض حتى في العبادة! فكيف بفضول الأمور، فعاتب المتكلم أصحابٌ له فأرشدهم إلى حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: أُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت ؛ فقلت له: قد قلتهُ بأبي أنت وأمي ، قال: صلى الله عليه وسلم فإنك لا تستطيع ذلك فصم وأفطر وقم ونم وصم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر قلت: إني أطيق أفضل من ذلك! قال: صلى الله عليه وسلمفصم يوما وأفطر يومين قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: صلى الله عليه وسلم فصم يوما وأفطر يوما فذلك صيام داود عليه السلام وهو أفضل الصيام فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أفضل من ذلك[5]. قال ابن حجر: ومقتضاه أن تكون الزيادة على ذلك مفضولة! وفي رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم:لاصام من صام الأبد مرتين[6]. وأهل الخبرة يعلمون أنه ماخرج أحد عن التوازن الشرعي مهما ظن أنه يفعل من الطاعات إلا كان ذلك على حساب جانب آخر من دينه ، فما بالك بمن يدمن بعض الأمور حتى ليظن العافية فيها ، وربما أوهمته بأنها عين ما ينتصر الإنسان فيه للحق ، وماثمة إلا وهم ، فإن العمل شيء والأمنية غيره ، وقد كثر في الأمة شيب وشباب يحبون الإسلام ويجتمعون من أجله فيرمي كل منهم إلى جلسائه بما سمع من الأخبار وتكون زفرة كل واحد منهم أطول من أختها ثم ينصرفون ولم يتفقوا على شيء من الخير يتواصون به ، أوعمل يفعلونه للأمة أو حتى لأنفسهم ؛ بل تزداد صدورهم ضيقاً بما أتحفهم به إخوانهم من أخبار مصائبَ فاتهم علمها ومحن غاب عنهم هولها ، وصار الأمر مثل جلسات المدمنين ، ولكن على أخبارٍ الكذب فيها أكثر من الصدق ، وتبادلِ همومٍ ، والقليلُ منهم من ينتصب بين إخوانه منذراً ، يُعلمهم أن كثرة إلقاء اللوم على الأعداء فيه حيلة لطيفة للنفس تستريح فيها من آلام التأنيب ، وتلقي بالمسؤولية على المفسدين في الأرض ، ويخبرهم بأن هذا ربما غيَّبَ عنهم حقيقة أوردها الكتاب المبين قل هو من عند أنفسكم[7].

ولما قال أحدهم لأخيه مستنكراً: خبرني بربك ماذا يمكن لأحدنا أن يفعل غير اجترار الأحاديث ، ونقل الأخبار ، والتحسر على الأحوال؟ تصدى له فقيه نفس يذكره بكلام ابن عطاء الله : (اجتهادك فيما ضُمن لك وتقصيرك فيما طُلِبَ منكَ دليلُ انطماس بصيرتك) ففغر المستنكر فاه ثم تدارك قائلاً: ألا ترى من حولنا من أمم الأرض كيف اجتمعوا علينا ، وما منا أحد بقادر على فعل شيء!

فرد أخوه : وهل علاج ذلك الغرق في اليأس أم الفورة في المشاعر أم البحث عن سبل النجاة التي أضعنا منها الكثير.
يجب أن نعلم أن التقصير في الفرائض الجماعية جد خطير، وأن من مقدمات تدارك ذلك أن نتقن فقه الجماعة ( لا ببعد حزبي ضيق ) بل بما يصلنا ثانية بحضارية الإسلام ومنهجيته العالمية ، فينطلق الفرد من خلالها وينبذ التقوقع الذي صار عادة وطبعاً ، ويدرك خطورة إدمان المناهج الضيقة والمرور من ثقوب الإبر، وأن التكافل والعدل والشورى والإتقان والدقة والتراحم بل حتى التواضع والحفاظ على البيئة وسلامة الحياة وبذل الخير لكل الناس إنما هي فروض إيمانية حضارية تلزم الجماعة ، وكون غيرنا يدندن عليها لا ينزع عنها قيمتها الشرعية ، إن ديننا يعلمنا أن الله غفر لبغي سقت كلباً شربة ماء[8] ، وأن الله أدخل رجلاً الجنة في غصن شوك رفعه عن الطريق كي لا يؤذي الناس[9] ، وأن رجلاً أشفق من ذبح شاة فقال عليه الصلاة والسلام : والشاة إن رحمتها رحمك الله[10].
إن الإدمان الذي نفعله يسبب تحجيم الكثير من الأمور وقلب التوازنات الإيمانية وتكبير الصغير وتهوين الخطير ، والسطحية بل البدائية ومن ثم تقزيم الحركة والمنهج والفكرة والتفريغ المخيف لكل معاني البناء والاستمرار.
ولابد حتى تستعيد ساحتنا الداخلية توازناتها من تجاوز سلبياتنا التي يظن البعض في بعضها فضائلاً ، ولابد من أفق إيماني أعلى وأرحب نطل منه على الدنيا ونملأ منه يديها خيراً وبركة وعملاً صالحاً.

الإشارة الثانية : كن صاحب فعل لا تابعاً لغيرك:
مما تعلمناه من الحكماء أن الشيطان يدخل إلى قلب الإنسان بمئة باب من الخير كي يُدخل معه باباً واحداً من الشر؟
ويا أيها المسلم إنما أنت ظبي سابقٌ ، فلماذا تطيل الالتفات؟
وعجيب هو مكر الخصوم ، ولكن الأعجب منه سذاجة أهل الحق ، وانخداعهم ببعض حيل المبطلين ، ومن أمثلة ذلك منكرات جرت في بعض بلاد العرب منذ فترة قريبة ، وأشغلت الناس ، وكان محورها مسابقة لنجم الطرب الذي ليس معه نجم! فتبارى أهل الغفلة في الترويج لذلك وهم أهل لذلك (ردهم الله إليه) ولكن عجبي لم ينقضِ من أهل علم زادوا اشتغال الناس بالموضوع وملئوا خطبهم ودروسهم ومجالسهم بذلك حتى أوصلوا العلم بذلك إلى من لم يكن يعلم ، وليتهم إشاروا إلى ذلك إشارة عابرة ، وليتهم بنوا الحق بدل أن يتحدثوا عن الباطل ، وتذكرت ما أورده ابن القيم رحمه الله في مدارجه فقال : (ولما كان طالب الصراط المستقيم طالبَ أمر أكثر الناس ناكبون عنه ، مريداً لسلوك طريقٍ مرافقهُ فيها في غاية القلة والعزة ، والنفوس مجبولة على وحشة التفرد ، وعلى الأنس بالرفيق ، نبه الله سبحانه على الرفيق في هذا الطريق ، وأنهم هم الذين (أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً)[11] فأضاف الصراط إلى الرفيق السالكين له ، وهم الذين أنعم الله عليهم ، ليزول عن الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه ، وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط : هم الذين أنعم الله عليهم ، فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له ، فإنهم هم الأقلون قدراً ، وإن كانوا الأكثرين عدداً ، كما قال بعض السلف : (عليك بطريق الحق ، ولا تستوحش لقلة السالكين ، وإياك وطريق الباطل ، ولاتغتر بكثرة الهالكين) وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق ، واحرص على اللحاق بهم ، وغض الطرف عمن سواهم ، فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً ، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك ، فلا تلتفت إليهم ، فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك)[12]، ثم ذكر مثالاً عن ذلك أن الظبي أشد سعياً من الكلب ، ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه ، فيدركه الكلب فيأخذه.

فمتى يا أبناء الإسلام وبناته الأطهار سنبني إذا كنا لن نشتغل إلا بما يوضع لنا لنشتغل به ، ومتى نخرج من رد الفعل فنكون السابقين إلى إعادة الفطرة إلى النفوس ، ومتى سنوقظ في الناس حب الإيمان وجمال الدين ، بدل أن يكون محور حركتنا الحديث عن عمل المفسدين ، وكما هم أرادوا لا كما نحن نريد.

إن من الخطر الشديد أن نفكر كما يفرض علينا رد الفعل أن نتصرف أو أن نسير في الطريق الذي رُسِمَ لنا وأن تتغير بعض أخلاقنا لأن عدونا هو الذي يختار ويفرض أسلوب المعركة والتوقيت ، ولعلنا نلاحظ أنه كان في بعض الأوقات هجوم شديد على الإسلام جعل بعض أبنائه يحاولون إظهاره للناس إمعة يسير كيفما تريد المصالح الدولية أن يسير، وأن يقلِّموا منه كل شوكة وسبب قوة ، ولكن من الخطير أيضاً (ولنقل بصراحة) أن يفرض علينا أعدائنا أخلاقهم الحربية فيظهر في الأمة من يظن (ولو مجرد ظن) أن الإسلام لا يرتوي ظمؤه من شرب الدماء , وأن قتل الأبرياء فيه مباح! فمتى سيحمل المسلمون أمام أهل الأرض جميعاً دينهم كما أراده الله ، جامعاً لكل إيمان وقوة ورحمة وطاعة واستقامة ، جهاداً وحضارة ، ومدنية واستقراراً.
متى سنزرع في قلوب الناس نداوة التوحيد ولذة الطاعة والشوق إلى الجنان بدل أن نكون ممن يؤجج النيران.

إن النزوات لاتأتي بفائدة ومكر الماكرين لا يعادله إلا سذاجة العجولين الغضاب ، والذين إن رزق بعضهم كثيراً من الإخلاص ، إلا أنهم أربكوا الأمة بقلة الصواب.
حزنت لما أخبرني ثقة أن مسئولا في أحد المساجد أخبره طلابه من الشباب أن من رفاقهم في الحي والمدرسة من يدخل إلى المواقع الإباحية في الانترنيت ، فغار صاحبنا على الخلق الكريم وأمر تلامذته فجمعوا له أسماء تلك المواقع! ثم كتبها على لوح كبير في المسجد! محذرأ أهل الأيمان من دخولها!! فقلت: ماذا؟ قال: نعم … وقد حضر بعدها شباب كثر! فقلت: ليطلبوا العلم؟ قال: لا بل لينقلوا أسماء المواقع التي كتبها الشيخ!

هذا مثال مفهوم للكل ولكن أمثلة أخرى قد تضيع فيها أمة بكاملها تحتاج إلى بصر شديد وفي فهمكم كفاية .(اللهم غفرانك).

الإشارة الثالثة : إملأ رصيدك من الخيرواحذر الاستنزاف:
عند كل منا رصيد من الإيمان والعلم والتجربة والثقافة ، وهذا الرصيد عرضة للزيادة والنقصان ، ومن خلاله نتعامل مع الأمور التي تحيط بنا ولن أتحدث عن ضرورة زيادة رصيدنا كجانب معرفي وثقافي فقد كتب في ذلك الكثير.
إشارتي هنا إلى أكبر معيق عن كل أنواع الصالحات ، وقد أظهر وأبان ذلك حديث أنس رضي الله عنه إذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ثلاث مهلكات ، وثلاث منجيات ؛ فالمهلكات : شُحٌّ مطاعُ ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه ، والمنجياتُ : تقوى الله تعالى في السر والعلانية ، والعدلُ في الغضب والرضا ، والقصدُ في الفقر والغنى)[13].
إن حركة الحياة كلها من الذرات الى المجرات أساسها محور تدور حوله ، ومرجع نسبي منه تستمد ، ولا فاعل حقيقة إلا الله تعالى ومنه المدد الحق ، وإتباع الهوى يخرج الإنسان من حركته المتناسقة المنتظمة المدهشة ، يظن نفسه محوراً صالحاً وهو محور صدٍ عن الاستجابة والهداية (فإن لم يستجيبوا لكَ فاعلم أنَّما يتبعونَ أهواءهُم ومَن أضلُّ مَِّمنِ اتَّبَعَ هواهُ بغيرِ هُدىً منَ اللهِ إنَّ اللهَ لا يهدي القومَ الظالمين)[14].
كثير من المحن التي مرت بها الأمة سببها الأول إتباع الهوى ، الذي لايرى صاحبه معه شيئاً غيره فيصل إلى مرحلة تأليه نفسه (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا)[15].

إن من الذنوب الجماعية حقاً أن ينتشر إتباع الهوى في الأمة ثم لا يكون التصدي له بمقدار الخطر المنبعث منه ، ولقد تكلم كثير من الأفاضل عنه ولكننا لم نحسن ربطه جيداً حتى الآن بالعواقب المدمرة الناشئة عنه ، لأن المحور الفردي هو الأساس في ثقافتنا رغم كل المفردات الكثيرة التي نتحدث فيها عن الجماعة والأمة ، ومن الحكمة الظاهرة ما ذكره الدكتور عبد الكريم بكار في أحد كتبه من أن الفرد في المجتمعات الضعيفة يبحث عن نفسه كيلا يضيع وفي المجتمعات القوية يبحث عن الجماعة كيلا يضيع ، وأمثلة ذلك لا تكاد تعد ؛ ففي المجتمعات القوية يقوم الحاكم بالشورى وفي الضعيفة بالاستبداد ، والحكومات الصالحة تعتبر أن الغنى إنما هو غنى المجتمع ، وفي المجتمعات المتخلفة تجمع الحكومات كل المال في يد أوصياء على الشعب ، وفي المجتمعات المستقرة يبذل العالم العلم لكل الناس ، وفي المجتمعات الجاهلة يستأثر به ليحظى بوضع خاص ، وفي المجتمع المتين لا يخشى الإنسان من قولة الحق ، وفي المجتمع المتوحش يتعرض للأذى وربما الفناء.

في المجتمع القوي لايخشى الإنسان من طرح فكرة خطرت في باله لأن المجتمع يقوِّمُها بيد حانية حريص صاحبها على الصواب ، وحتى إن كانت حائدة عن كل ثوابت المجتمع فإن القانون الرباني : (فأما الزبد فيذهب جُفاءً وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض)[16] يضعها في حجمها الصحيح ، ولكن في المجتمعات المتآكلة فإن التعانف والفكر التكفيري الغضوب هو سيد الموقف أبداً ، وفي المجتمع المؤمن الراشد فإن المرأة خلقت كما خُلق الرجل من نفس واحدة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)[17]، وفي المجتمعات التي لا رُشد فيها فإن المرأة أشبه بأَمَةٍ ذليلة ليس لها كيان ولا كرامة.

لقد ضاعت أمم مسلمة بكاملها بسبب نزوات أفراد منها حكاماً أو محكومين ، أفما نحتاج إلى الوقوف قليلاً لنقرر كيف سنضبط أهوائنا الفردية ، كي لانكون أصحاب الخرق الذي يهوي بالسفينة كلها إلى القعر العميق!

5- الإشارة الرابعة: اتخاذ الأسباب :
قال تعالى (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يُجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا)[18]؛ قال الإمام ابن كثير: والمعنى في هذه الآية أن الدين ليس بالتحلي ولا التمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال ، وليس كل من ادعى شيئا حصل له بمجرد دعواه ، ولا كل من قال أنه هو على الحق يُسمع قوله بمجرد ذلك حتى يكون له من الله برهان.

لقد علم الهادي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أمته أن تتعرف وتحفظ أسباب ديمومتها بصلتها مع الله تعالى ؛ فأخرج الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كنت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا غلام إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك ؛ احفظ الله تجده تجاهك. إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ؛ رفعت الأقلام وجفت الصحف)[19]، وفي رواية الإمام أحمد بسند صحيح: (واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا)[20].
والتقط هذا الفقه ابن القيم رحمه الله فأعلن وذكر وأفصح : (بل لاتتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسببَّاَتها شرعا وعقلا ، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة ، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل)[21].
ونصوص الكتاب والسنة تشهد لفقه ابن القيم بالصواب.
قال تعالى: (فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا)[22].
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ؛ فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)[23] ، وقال الإمام النووي في شرح الحديث : (استعينوا على طاعة الله عز وجل بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم بحيث تستلذون العبادة ولا تسأمون وتبلغون مقصودكم) ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إياكم والجلوس في الطرقات ؛ فقالوا يا رسول الله مالنا من مجالسنا بد نتحدث فيها ؛ فقال عليه الصلاة والسلام: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه ؛ قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله ؛ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)[24]. فمنع الناس من الجلوس في الطرقات مما لا يمكن ؛ لمصادمته طبيعتهم فعلمنا الهادي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا نصدم الأمر بل أن نستثمره ونمسك بزمامه لنقوده إلى الفعل الإيجابي ، وقد فطن الإمام ابن القيم إلى المغزى العميق والدلالات السننية لمثل هذه التوجيهات فقال في كتابه الفوائد: (العارف يدعو الناس إلى الله من دنياهم فتسهل عليهم الإجابة ، والزاهد يدعو الناس إلى الله بترك دنياهم فتشق عليهم الإجابة) ، ومما ذكره أهل التربية أن من طلب أخا بلا عيب بقي بلا أخ ، وأوصى أحد الحكماء بطريقة للعثور على إنسان عاقل لمؤاخاته فقال: أغضب أخاك فإن أنصفك في غضبه فآخه و لم يقل: إن لم يغضب ؛ بل قال: فإن أنصفك في غضبه. فمنع الغضب بالكلية مصادم للفطرة ، أو السنة ، أو القانون … سمه ما شئت ولكن خذ حظك من عظته ، ولذا قال تعال: (والكاظمين الغيظ)[25] ولم يقل (والفاقدين الغيظ). وفقيه الدعوة الفطن لا يصدم قوانين الحياة وسنن الكون ؛ بل يحتال عليها فيمسك بمعاقدها ، ومن كان يحمل معولا وصادفته صخرة صماء فلا يضيعن الوقت في الطرق عليها وهي صماء صلداء ؛ فإنه بذلك يستنزف قوته وربما حطم معوله ولكن ليحفر التراب الذي حولها فلا بد أن تهوي ، وحتى الدين كله قد يفشل إذا صادم حَمَلَتُهُ سنن الله في خلقه ؛ فدين الزهاد خرب الاقتصاد ، ودين الرهبان خرب الفطرة ، وفتح أبواب الفساد ، ودين المتنطعين أمات الحيوية في الأمم وقتل أرواح العباد ، ودين المتفرنجين والمتغربين والمبهورين أرضى النزوات وألغى العقول وأطاع الشهوات ، ودين الله الحق هو الفطرة والتوازن والعدل والرحمة والشمول والواقعية والإنسانية والربانية ، وصدق تعالى إذ يقول: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا)[26]، وصدق تعالى إذ يقول: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى)[27] وصدق تعالى إذ يقول: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)[28].

والذي أراه (والله أعلم بالصواب) أن فقه السننية في العالم الإسلامي أضعف بكثير من المستوى الذي يجب أن يكون عليه ، والخرافة ليست فقط بما اخترعه الدجالون ، بل ربما وقعنا في الخرافة أيضاً عند تجاوزنا السنن ، ونظرنا من خلال الأماني ، وقفزنا فوق التاريخ.

خلاصة الموضوع :
1- الإدمان مرفوض كي لا تحتل جزئية مكان الكليات.
2- إتباع الهوى أكبر عائق عن نهوض الأمة.
3- الاستنزاف خطير وعلينا التعويض الدائم.
4- السنة تمضي وعلينا الحذر من فوات القطار.

فلتزدد صلتنا ببعضنا ولنملأ مجالسنا بكل نافع ومفيد ، ولنحضر ورقة وقلماً لنحصى بوابات التقصير (فردية وجماعية) ، ثم لنضع خططاً قصيرة وأخرى متوسطة لدرء التقصير ثم فلنتعاهد عليها ، ولنتابع بعضنا فيها ، مع متابعة التعلم والاستفادة من كل تجربة ، ولن يشبع مؤمن خير حتى يكون منتهاه الجنة.

وأخيراً ورغم كل ما يعترينا ففينا خير كثير ، وأخطر أمر يحيط بنا هو البعد عن الإيمان الصحيح وإهمال تربية النفس روحياً ، والأخطر منه أن ننطلق من الفردية في فقه الإسلام ، فلنجعل من الجماعة منطلقنا ولنبدأ بزراعة المقدمات الفردية التي تحفظنا من الذنوب الجماعية ، وماأنزل الله من داءٍ إلا أنزل له شفاء[29]، (فكيف يُنكر لمن قويت طبيعته ونفسه ، وفرحت بقربها من بارئها ، وأنسها به ، وحبها له ، وتنعمها بذكره ، وانصراف قواها كلها إليه ، وجمعها عليه ، واستعانتها به ، وتوكلها عليه ، أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية ، وأن توجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية، ولاينكر هذا إلا أجهل الناس ، وأغلظهم حجاباً ، وأكثفهم نفساً ،وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية)[30]. وبالرجوع واتخاذ أسباب الدواء تكون العاقبة : (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)[31].
اللهم علمنا ماينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

أحمد معاذ الخطيب الحسني

[1] - سورة الفاتحة ، الآية 5.
[2] - انظر في ذلك كتاب : محنة العرب في الأندلس ؛ للدكتور: أسعد حومد ، بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2 ، 1988.
[3] - فتح الباري ، كتاب المناقب (61) الحديث 606، 6 ، 712.
[4] - فتح الباري ، كتاب المناقب (61) الحديث 3607 ، 6 ، 712
[5] -فتح الباري ، ابن حجر العسقلاني ، كتاب الصوم (30) ، الحديث 1976، 4 ، 259.
[6] - فتح الباري ، ابن حجر العسقلاني ، كتاب الصوم (30) ، الحديث 1977 ، 4 ، 260.
[7] - سورة آل عمران ، الآية 165.
[8] - مسلم ، كتاب السلام ، الحديث 2245.
[9] - البخاري ، كتاب الأذان ، الحديث 654.
[10] - مسند الإمام أحمد ، الحديث 19851 سنده متصل ورواته ثقات.
[11] - سورة النساء ، الآية 69.
[12] - تهذيب مدارج السالكين ، كتبه ابن القيم وهذبه عبد المنعم العزي ، الإمارات المتحدة ، وزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف، ص 30.
[13] - مجمع الزوائد 1/91 والترغيب والترهيب 82.
[14] سورة القصص ، الآية 50.
[15] - سورة الفرقان ، الآية 43.
[16] سورة الرعد ، الآية 17.
[17] سورة النساء ، الآية 1.
[18] - النساء 123.
[19] - الترمذي ، القيامة والرقائق والورع 2516 ، قال : هذا حديث حسن صحيح.
[20] - أحمد ، مسند بني هاشم 2800.
[21] -زاد المعاد ، ابن قيم الجوزية ، 3 ، 15.
[22] - فاطر43. وفي المصحف تكتب (سنة) بالتاء المبسوطة : (سنت) وأثبتناها بالمربوطة تسهيلاً.
[23] -
[24] -
[25] - سورة آل عمران ، الآية 134.
[26] - سورة الإسراء ، الآية 105.
[27] - سورة النجم ، الآية 3-4.
[28] - سورة الحشر ، الآية 7.
[29] - فتح الباري ، ابن حجر العسقلاني ، الطب 10 ، 113.
[30] - زاد المعاد ، ابن قيم الجوزية ، 3،12.
[31] - سورة السجدة ، الآية 53.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف ركن الدعوة. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.