مقتطفات من غياث الأمم للجويني - 1

الغياثي

غياث الأمم في التياث الظلم

لإمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني

419 – 478هـ

تحقيق * دراسة * فهارس

الدكتور عبد العظيم الديب

كلية الشريعة – جامعة قطر

 

الركن الثالث

(الكتاب الثالث)
في خلو الزمان عن المجتهدين ونقلة المذاهب وأصول الشريعة وفيه مراتب:
المرتبة الأولى (الباب الأول) : في اشتمال الزمان على المفتيين المجتهدين.
المرتبة الثانية (الباب الثاني) : فيما إذا خلا الزمان عن المجتهدين وبقي نقلة مذاهب الأئِمة.المرتبة الثالثة (الباب الثالث) : في خلو الزَمانِ عَن المفتين وَنقلة المذاهبْ.
المرتبة الرابعة (الباب الرابع) :في خلوّ الزَمان عَن أصُول الشريعة.

 

القول في الركن الثالث

(الكتاب الثالث)

(مقدمة الركن)

 

567 - مضمون هذا الاركن يستدعي نخلَ الشريعة من مطلَعِها إلى مقْطَعِها, وتَتَبُّعَ مصادرِها ومواردِها (209), واختصاص معاقدها وقواعدِها, وإِنعامَ النظر في أُصولِها وفصولِها, ومعرفةَ فروعها ويَنْبُوعِها, والاحتواءَ على مداركها ومسالكها, واستبانةَ كُلِّياتِها وجزئياتها, والاطلاعَ على معالمها ومناظِمها, والإحاطةَ بمبدئها ومنشئِها, وطرقِ تشعُّبها وترتُّبها, ومساقِها ومذاقِها, وسببِ اتفاق العلماءِ وإطباقِها, وعلةِ اختلافها وافتراقها.
ولو ضمَّنت هذا المجموع ما أّشرتُ إليه, ونصصت عليه, لم يقصُر عن أَسفار, ثم لا يحوي منتهى الأَوطار, وإِنما ذكرتُ هذه المقدمة ليعتقدَ الناظرُ في هذا الفنّ أَنه نتيجةُ بحورٍ من العلوم لا (يعبُرها) العوًّام, ولا تفي ببدائعها الأَيام والأَعوام, وقلَّما تسمحُ بجمعها لطالبٍ واحدٍ الأَقدار والأَقسام. ولولا حذار انتهاءِ الأَمر إِلى حد التصلُّف والإِعجاب, لاآثرت في التنبيه على (عُلوِّ) قدْر هذا الركن التناهيَ في الإِطناب.
568 - وأَنا الآن بعون الله وتأييده, وتوفيقه وتسديده, أرتِّبُ القولَ في هذا الركن على مراتب, وأوضِّح في كل مرتبة ما يليق بها من التحقيق.
فنذكر أَولاً اشتمالَ الزمان على المفتين.
ثم نذكر خلوَّ الدهر عن المجتهدين المستقلِّين بمنصب الاجتهاد، مع انطواءِ الزمان على نقلةِ مذاهب الماضين.
ثم نذكر شغورَ العصر عن الأَثبات والثقات, رواةِ الآراء والمذاهبِ, مع بقاءِ مجامعِ الشرعِ , وشيوعِ أَركان الدين على الجملة بين المسلمين.
ثم نذكر تفصيلَ القولِ في دروسِ الشريعة, وانطماس قواعدِها, وحكمِ التكيف - لو فرض ذلك - على العقلاءِ.
فالمراتب التي نرومها في غرض هذا الركن أَربع.

المرتبة الأولى

(الباب الأول)

(في اشتمال الزمَان عَلى المفتيين المجتهدين)

569 - فأَما المرتبة الأُولى, فنقول فيها مستعينين بالله تعالى : حملةُ الشريعةِ, والمستقلون بها هم المفتون المستجمعون لشرائط الاجتهاد من العلوم, (والضامّون) إليها التقوى والسداد.
570 - وإذ دُفعنا إلى ذلك, فلا بُدَّ من ذكر ما يقع به الاستقلال في ذكر الخصال المرعية في الاجتهاد, مع إِيضاح ما على المستفتين من تخيرّ المفتين, فنقول:

قد ذكرنا في مصنفاتِ في أُصول الفقه استيعابَ القول في صفات المفتين, وآدابَ المستفتين, وتفاصيلَ حالاتهم ودرجاتهم؛ ونحن نذكر الآن منها جُملاً مُقنعة يفهمها الشادي المبتدئ, ويحيط بفوائدها المنتهي مع الإضراب عن الإِطناب وتوقي الإِسهاب.
فتقع البدايةُ بأَوصاف المجتهدين, والوجه أَن أَجمع ما ذكره المتقدمون.

صفات المفتي:

571 – إن الصفاتِ المعتبرةَ في المفتي ستٌ:

أَحدها - الاستقلالُ باللغة العربية؛ فإِن شريعة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) متلقاها ومستقاها الكتابُ والسننُ وآثارُ الصحابة ووقائعهُم، وأَقضيتهم في الأَحكام, وكلها بأَفصح اللغات وأَشرف العبارات, ولا بد من الارتواء من العربية, فهي الذريعة إلى مدارك الشريعة.
572 – والثانية – معرفةُ ما يتعلق بأَحكام الشريعة من آيات الكتاب, والإحاطةُ بناسخها ومنسوخها, عامِّها وخاصِّها. وتفسيرِ مجملاتِها, فإِن مرجعَ الشرع وقطبَه الكتابُ.
573 – والثالثةُ – معرفةُ السنن؛ فهي القاعدة الكبرى؛ فإن معظم أُصول التكاليف متلقى من أَقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأَفعاله, وفنونِ أَحواله, ومعظمُ آي الكتابِ لا يستقلُّ دون بيان الرسول.

ثم لا يتقرر الاستقلالُ بالسنن إلا بالتبحرّ في معرفة الرجال, والعلمِ بالصحيح من الأخبار والسقيمِ, وأَسبابِ الجرح والتعديل, وما عليه التعويلُ في صفات الأَثْبات من الرواة والثقات, والمُسنَدِ والمرسَلِ, والتواريخ التي يترتب عليها استبانةُ الناسخ والمنسوخ.

وإنما يجب ما وصفناه في الأَخبار المتعلقة بأَحكام الشريعة وقضايا التكليف, دون ما يتعلق منها بالوعْد والوعيد, والأَقاصيص والمواعظ.
574 – والرابعةُ : معرفةُ مذاهب العلماء المتقدمين الماضين في العصُر الخالية, ووجه اشتراط ذلك أَن المفتي لو لم يكن محيطاً بمذاهب المتقّدمين, فربّما يَهجُم فيما يجرّئُه على خرق الإِجماع والانسلال عن ربقة الوفاق.
575 – والخامسة – الإحاطة بطرق القياس ومراتبِ الأَدلة؛ فإِن المنصوصاتِ متناهيةٌ, والوقائعُ المتوقَّعةُ لا نهاية لها.
576 – والسادسة – الورع والتقوى؛ فإِن الفاسقَ لا يوثق بأَقواله ولا يُعتَمد في شيءٍ من أَحواله.
577 – وقد جمع الإمام المطَّلبي الشافعيُّ رضي الله عنه هذه الصفات في كلمة وجيزة, فقال:

[ من عرف كتابَ الله نصاً واستنباطاً استحق الإمامة في الدين ]
578 – والتفاصيل التي قدمناها مندرجةً تحت هذه الكلم؛ فإن معرفة الكتاب تستدعي لا محالةَ العلمَ باللغة؛ فإِن من اقتصر على اتباع أَقوال المفسرين وتحفَّظَها, كان مقلدا, ولم يكن عارفا.

والشافعي رضي الله عنه اعتبر المعرفةَ والاستقلالَ بالأَخبار الشرعية مندرجٌ تحت معرفة الكتاب, وكذلك العلمُ بمواقع الإِجماع من أَقوال العلماءِ المنقرضين, والاستنباطُ الذي ذكره مشعر بالقياس ومعرفةِ ترتيب الأَدلة.

ثم لم يتعرض للورع, فإنه قال : استحق الإمامةَ. والأَمرُ على ما ذكره؛ فإِن أَراد أَن يُقبَل قولُه استمسك بالورع والتقوى, واحترز عن الإِمامة العظمى لما قال : استحق الإمامة في الدين.
579 – فهذا ما رأَينا نقلَه من قول الأَئمة في صفات المفتين. ونحن نذكرُ ما هو المختارُ عندنا في ذلك. والله المستعان.
580 – فالقول الوجيز في ذلك :

أَن المفتي هو المتمكنُ من دَرْك أَحكامِ الوقائع على يسير من غير معاناة تعلم.
وهذه الصفة تستدعي ثلاثةَ أَصناف من العلوم:

581 – أحدها – اللغةُ والعربية, ولا يُشتَرطُ التعمقُّ والتبحرُ فيها حتى يصيرَ الرجلُ علامَة العرب, ولا يقع الاكتفاءُ بالاستطراف وتحصيلِ المبادئ والأَطراف, بل القولُ الضابط في ذلك أَن يحصّلَ من اللغةِ العربيةِ, ما يترقى به عن رتبةِ المقلِّدين في معرفة معنى الكتاب والسنة, وهذا يستدعي منصباً وسطاً في علم اللغة والعربية.
582 – والصنف الثاني – من العلوم الفنُّ المترجمُ بالفقه, ولا بدَّ من التبحّر فيه, والاحتواءِ على قواعده, ومآخذه ومعانيه.
ثم هذا الفن يشتمل على ما تَمَسُّ الحاجةُ إليه من نقل مذاهب الماضيين وينطوي على ذكر وجوه الاستدلال بالنصوص والظواهر من الكتاب, ويحتوي على الأَخبار المتعلقة بأَحكام التكاليف مع الاعتناءِ بذكر الرواة والصفات المعتبرة في الجرح والتعديل. فإن اقتضت الحالة مزيدَ نظرٍ في خبرٍ, فالكتبُ الحاويةُ على ذكر الصحيح والسقيم عتيدةٌ, ومراجعتها مع الارتواءِ من العربية يسيرةٌ غيرُ عسيرة, وأَهم المطالب في الفقه التدرّب في مآخذ الظنون في مجال الأَحكام, وهذا هو الذي يسمى فقه النفس. وهو أَنفس صفات علماءِ الشريعة.
583 – والصنف الثالث من العلوم – العلم المشهور بأُصول الفقه؛ ومنه يستبان مراتبُ الأَدلة وما يُقدَّمُ منها وما يؤخر, ولا يَرق المرءُ إِلى منصب الاستقلال دون الإِحاطة بهذا الفن.

فمن استجمع هذه الفنونَ, فقد علا إِلى رتبةِ المفتين.
584 – والورع ليس شرطاً في حصولِ منصبِ الاجتهاد؛ فأِن من رسخ في العلوم المعتبرة, فاجتهادُه يلزمُه في نفسِه أَن يَقْتَفي فيما يخصه من الأَحكام موجَبَ النَّظرِ. ولكم الغيرَ لا يثق بقوله لفسقه.
585 – والدليلُ على وجوب الاكتفاءِ بما ذكرناه من الخصال شيئان:

أحدهما – أَن اشتراط المصيرِ إِلى مبلغٍ لا يحتاج معه إِلى طلبٍ وتفكر في الوقائع محالٌ؛ إِذ الوقائع لا نهايةَ لها, والقوةُ البشريةُ لا تفي بتحصيل كل ما يتوقع, سيما مع قصر الأَعمار؛ فيكفي الاقتدارُ على الوصول إلى الغرض على يسير من غير احتياجٍ إِلى معاناة تعلُّمٍ.

وهذا الذي ذكرناه يقتضي استعدادا واستمدادا من العلوم التي ذكرناها, لا محالة.
586 – والثاني – أَنا سبرنا أَحوال المفتين من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأَكرمين, فأَلفيناهم مُقْتدرين على الوصول إلى مداركِ الأَحكام, ومسالك الحلال والحرام, ولكنهم كانوا مستقلّين بالعربيةّ؛ فإِن الكتاب نزل بلسانهم, وما كان يخفى عليهم من فحوى خطاب الكتاب والسنة خافيةٌ, وقد عاصروا صاحبَ الشريعة وعلموا أَن معظمَ أَفعاله وأَقوالهِ مناطُ الشرع, واعتنَوا على اهتمامٍ صادق بمراجعته صلى الله عليه وسلم فيما كان يَسنحُ لهم من المشكلات, فَنُزِّلَ ذلك منهم منزلةَ تدرّب الفقيه منَّا في مسالك الفقه.
587 – وأَما الفنُّ المترجمُ بأُصول الفقه, فحاصله نظمُ ما وجدنا من سِيَرِهم, وضمُّ ما بلغنا من خبرهم, وجمعُ ما انتهى إِلينا من نظرهم, وتَتبُّعُ ما سمعنا من عِبَرهم, ولو كانوا عكسوا الترتيبَ, لا تبّعناهم.

نعم. ما كان يعتني الكثيرُ منهم بجمع ما بلغ الكافةَ من أَخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم, بل كانت الواقعةُ تقع, فيُبحث عن كتاب الله, وكان معظمُ الصحابةِ لا يستقلُّ بحفظِ القرآن, ثم كانوا يبحثون عن الأَخبار, فإن لم يجدوها, اعتبروا, ونظروا وقاسوا.
588 – فاتضح أَن المفتي منهم كان مستعدا لإِمكان الطلب عارفاً بمسالك النظر, مقتدرا على مأخذ الحكم مهما عنَّت واقعة.
589 – فقد تحقق لمن أَنصف أَن ما ذكرناه في صفات المفتين هو المقطوع به الذي لا مزيد عليه.
590 – وإِنما بلائي كلُّه – حرس الله مدة مولانا – من ناشئةٍ في الزمان شَدَوْا طرفاً من مقالاتِ الأَولين, وركنوا إِلى التقليد المحض ولم يتشوفوا إِلى انتحاءِ درك اليقين, وابتغاءِ ثَلَجِ الصدور, فضلاً عن أَن يُشَمِّرُوا للطلبِ, ثم يبحثوا أَو يُحقِّقُوا, ثم إذا رأَوْا من لا يرى التعريجَ على التقليد ويشرئبُّ إِلى مدارك العلوم, ويحاول الانتفاض من وَضَر الجهل, نفروا نفار الأَوابد, ونخروا نخير الحُمُر المستنفَرة, وأَضربوا عن إِجالة الفكرِ والنظرِ, وارْجَحَنُّوا إِلى المطاعن على من يحاول الحقائق, ويلابس المضايق, وقنَعوا من منصب العلماء بالرد على من يبغي العلمَ, والترقِّيَ عن الجهالات, والبحث عن حقائق المقالات.
591 – ولم أَجمع فصولَ هذا الكتاب مضمنةً بمباحثي واختياراتي, إِلا ومُعَوَّلِي ثقابةُ رأيِ سيدِنا ومولانا, كهفِ الورى, وسيد الدّين والدنيا, واتقاد قريحتِه المتطلعةِ على حُجب المُغْمَضَاتِ ومَسْتُور المُعْوِصَات. فهذا مبلغٌ في صفات المفتين مُقنعٌ إن شاءَ الله عز وجل.
592 – ولا يتم المقصدُ في هذا الفصل, ما لم أمهد في أَحكامِ الفتوى قاعدةً يتعينُ الاعتناء بفهمها والاهتمامُ بعلمها. وهو أَن المستفتي يتعين عليه ضربٌ من النظر في تعيين المفتي الذي يقلدهُ ويعتمدهُ, وليس له أَن يراجع في مسائله كلَّ مُتَلقِّب بالعلم.

وقد ذكرتُ طرفاً صالحاً من ذلك في الكتاب ( النظامي), ولستُ أعيدُ ما ذكرته في ذلك الكتاب, ولكني آخذ في فنٍ آخرَ لائقٍ بهذا الكتاب, فأقول:
593 – اختلفت مذاهبُ الأُصوليين فيما على المستفتي من النظر فذهب القاضي أَبو بكر الباقلاني رحمه الله في طائفة من المحققين إلى أَن على المستفني أَن يمتحن من يريدُ تقليدَه, وسبيلُ امتحانه أَن يتلقن مسائلَ متفرقةً تليق بالعلوم التي يُشترطُ استجماعُ المفتي لها, ويراجعُه فيها, فإن أَصاب فيها غَلبَ على ظنِّه كونُه مجتهداً ويقلِّدُه حينئذ.

وإِن تعثر فيها تعثّراً مشعراً بخلوِّه عن قواعدها, لم يتخذه قدوته وأُسوتَه.
594 – وذهب بعضُ أَئمتنا إِلى أَن ما ذكره القاضي لا يجب, ولكن يكفي أنَ يشتهرَ في الناس استجماعُ الرجلِ صفاتِ المجتهدين ويشيعُ ذلك شيوعاً مُغلِّباً على الظن.

وهؤلاء يقولون: ليس للمستفتي اعتمادُ قول المفتي, فإِنَّ وصفَه نفسَه بذلك في حكم الإطراءِ والثناءِ. وقولُ المرءِ في ذكرِ مناقبِ نفسه غيرُ مقبول.
595 – والذي أَختاره أَن ما ذكره القاضي لا يتحتم, والدليل عليه أَن الذين كانوا يرفعون وقائعَهم, ويُنهون مسائلَهم إِلى أَئمةِ الصحابة كانوا لا يُقَدِّمون على استفتائهم إِلقاءَ المسائِل, والامتحانَ بها, وكان علماءُ الصحابةِ لا يأمرون عوامَّهم ومستفتيهم بأَن يقدموا امتحانَ المقلَّدين.
596 – والذي أَراه أَن من ظهر ورعُه من العلماءِ وبعُد عن مظانِّ التهم, فيجوز للمستفتين اعتماد قولِه إِذا ذكر أَنه من أَهل الفتوى؛ فإنا نعلم أَن الغريبَ كان يردُ ويسأَلُ من يراه من علماءِ الصحابة, فكان ذلك مُشتهِراً مستفيضاً من دأب الوافدين والواردين, ولم يَبْدُ نكير من جلِّة الصحابة وكبرائهم.

فإِذا كان الغرض حصولُ غلبةِ ظنِّ المستفتي, فهي تحصل باعتماد قول من ظهر ورعُه, كما تحصل باستفاضةِ الأَخبار عنه. وليس للمستفتي سبيلٌ إلى الإحاطة بحقيقة رتبة المفتي مع عُرُوِّه عن موارد العلوم, سيّما إِذا فرض القول في غبيٍّ عريٍّ عن مبادئ العلوم والاستئناس بأَطرافها.
597 – ومما يتعينّ ذكرُه أَن من وجَد في زمانه مفتياً تعيّن عليه تقليدُه, وليس له أَن يرقَى إلى مذاهب الصحابة.

وبيان ذلك أَنه إِذا ثبت مذهبُ أَبي بكر الصديق رضي الله عنه في واقعةٍ, وفتوى مفتي الزمان خالفت مذهبَه فليس للعامِّي المقلِّد أَن يُؤْثر تقديمَ مذهبِ أَبي بكر الصدّيق من حيث إنه في عقده أفضلُ الخليقة بعد المرسلين عليهم السلام, فإن الصحابةَ وإن كانوا صدورَ الدين, وأَعلامَ المسلمين, ومفاتيحَ الهدى, ومصابيحَ الدجى, فما كانوا يقدّمون تمهيدَ الأبواب وتقديم الأَسباب للوقائع قبل وقوعها. وقد كفانا البحثَ عن مذاهبهم الباحثون, والأَئمة المعتنون بنخل مذاهب الماضين، فمن ظهر له وجوبُ اتباع مذهب الشافعي رضي الله عنه لم يكن له أَن يُؤْثرَ مذهبَ أَبي بكر رضي الله عنه على مذهب الشافعي, وهذا مُتَّفّقٌ عليه؛ إذ لولا ذلك لتعين تقديمُ مذهبِ أَبي بكرٍ على مذهبه في كل مسأَلة نُقل مذهبُه فيها, ثم مذهبُ عمرَ, ثم هكذا على حسب ترتيبهم في المناقب والمراتب.
598 – فإِذا وضح ذلك, بنينا عليه معضلةً من أَحكام الفتوى وقلنا : من نظر من المستفتين نظراً يليق به – كما سبقت الإشارةُ إِليه - فأَداه نظرُه إِلى تقليد إِمامِ المسلمين الشافعيِّ رحمةُ الله عليه؛ ولكن كان في زمانه مفتٍ مستجمعٌ للشرائط المرعية, وكانت فتواه قد تخالف مذهبَ الشافعي في بعض الوقائع, فالمستفتي الذي اعتقد على الجملة اتباعَ الشافعي رحمه الله, يقلّدُ مفتي زمانه, أَم يتبعُ مذهبَ الشافعي رضي الله عنه ويتلقفُه على حسب مسيس الحاجة من ناقليه ؟
599 – فنقول : أَولاً من ترقَّى إِلى رتبة الفتوى واستقلَّ بمنصب الاستبداد في الاجتهاد, فلا يُتصور في مطَّرَدِ الاعتياد انطباق فتاوية واختياراته في جميع مسائل الشريعة على مذهب إِمامٍ من الأَئمة؛ فإِن مسالكَ الاجتهاد وأَساليبَ الظنون كثيرةٌ, وجهاتُ النظر لا يحويها حصرٌ.
600 – نعم يجوز أَن يُؤثْر مُفتٍ قواعدَ الشافعي رضي الله عنه مثلا في وضع الأَدلة والمآخذ الكلية, ثم لا بُدّ من اختلافٍ في تفاصيلِ النظر.

فالمستفتي إِذاً يعتمدُ مذهبَ الحَبْر الذي اعتقد تقدُّمه على من عداه, أَم يرجع إِلى مفتي زمانه ؟
601 – فقد يتجه في ذلك أَن يرجع إِلى مفتي دهره, فإِنّ الإِمامَ الماضي, وإِن عظم قدرُه وعلا منصبُه, فهو من حيث تقدَّمَ وسبقَ, ولم يلحقه هذا المستفتي ينزل منزلةَ أَئمة الصحابة رضي الله عنهم بالإِضافة إِلى من بعدهم.

وقد ذكرنا أَنه ليس للمستفتي أَن يتبع مذاهبَ الصحابة والسببُ فيه أَن الأَئمة المتأَخرين أَولى بالبحث عن مذاهب المتقدّمين من المستفتين. كذلك مفتي الزمان في تفاصيل المسائل أَحقُّ بالبحث من المستفتي.
602 – ولئن كان ينقدح للمستفتي وجهٌ من النظر في تقديم مذهب الشافعي, فهو نظرٌ كلّيٌ لا يلوحُ في تفاصيل المسائل, ونظرُ المفتي في البحث والتنقيرِ, وتعيينِ جهاتِ النظر في آحاد المسائل أَصحُّ وأَوثقُ من ظنٍ على الجملة عَنَّ لمستفت, لا اختصاصَ له بالتفصيل.

فهذا وجه ٌ.
603 – ويجوزُ أَن يقول قائل : مذاهب الأَئمةِ لا تنقطعُ بموتهم, فكأَن الشافعيَّ رضي الله عنه وإِن انقلب إِلى رحمة الله تعالى حيٌّ ذابٌّ عن مذهبه, ولو فرضنا معاصرةَ هذا المستفتي الشافعيَّ, وقد خالَفه المفتي, الذي هو موجودٌ في الزمان, لكان المستفتي يتتبَّع مذهبَ الشافعي لا محالة.
604 – وليس ما ذكرناه خارماً لما مهدناه من أَن المستفتي لا يتَّبع مذهبَ الصحابة, فإِنهم رضي الله عنهم ما كانوا يضعون المسائلَ لتمهيد القواعدِ وتبويبِ الأَبواب, والمستفتي مأمورٌ باتباع مسالك الباحثين الفاحصين عن أَقاصيص المتقدمين وطرق الماضين.
605 – والشافعيُّ من المتناهين في البحث عن المطالب ونخْلِ المذاهب, والاهتمام بالنظرِ في المناصبِ والمراتب, ونظرُه في التأصيل والتفصيل والتنويع والتفريع – أَغوصُ من نظرِ علماءِ الزمان, ومجردُ تاريخ التقدّم والتأَخر – مع القطعِ بأَن المذاهبَ لا تزول بزوال منتحليها – لا أَثر له.

فهذان وجهان متعارضان واحتمالان متقابلان, ولا يبلغ القول في ذلك مبلغ القطع.

606 – والأَوجهُ عندي أَن يُقلِّدَ المستفتي متفي زمانهِ. ثم تحقيق القولِ في ذلك أَن يقال : حق على المستفتي أَن يستفتي مفتي زمانِه في هذه الواقعة التي فيها مخاضنا الآن؛ فإنها مسأَلة لا يتضح فيها للشافعي رضي الله عنه تنصيصٌ على مذهبٍ فليَقُلْ لمُفْتي الزمان : معتقَدي تقديمُ الشافعيِّ, وقد خالف مذهبُك في المسأَلة التي دُفعتُ إِلى السؤال عنها مذهبَ الشافعي رضي الله عنه فما ترى لي في طريق الاستفتاء؟ أَأَنزل على مذهب الشافعي؟ أَم أَتبعك في فتواك؟؟
607 – فإِن أَدى اجتهادُ المفتي إِلى تكليفه اتباعَه، اتبعه وقلّده، وإِن أَدى اجتهاده إلى تكليفه تقليدَ إِمامه, أَلزمه ذلك, ونقل له مذهبَ إِمامه.

وهذا من الأَسرار فليتأَمله المنتهي إليه.
608- وهذا فيه إذا كان للإِمام المقدم مذهبٌ منصوصٌ عليه في المسأًلة. فأَما إِذا لم يصح له مذهبٌ, فليس إلا تقليد مفتي الزمان. والله المستعان.
609 – ولو أَخذتًُ في تفصيل أَحكام الفتوى, لأَطلتُ أَنفاسي, وفيها مجموعاتٌ معلّقةٌ عنِّي, ومصنفةٌ لي, فليطلبها من تتشوف همتُه إِليها.
610 – وغرضي من هذا المجموعِ استقصاءُ القول في خلوِّ الزمان عن المفتين, وإنما ذكرتُ طرفاً من صفاتِ المفتين وأحكامهم ليتبين للناظر خلوُّ الدهر عن المفتين عند خوضنا فيه. والله ولي التوفيق وهو بإِسعاف راجيه حقيق.

وقد نجز مقصدنا في المرتبة الأولى.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف ركن الدعوة. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.