قبل أن تضيع المفاتيح - 2006-09-01

لفت نظري فتاة غربية كانت تتحدث وتدافع عن الإسلام بحماس في حلقة دراسية عُقدت في دولة أوربية، وفاجئني أخ ملتزم بذكر أنها مسلمة ، ثم أتيحت لي فرصة الكلام معها فأخبرتني بأنها بقيت ثمانية أعوام ملتزمة بالحجاب ثم خلعته! فرغبت حقاً بمعرفة السبب فقالت أنها لم تتحمل سلوك القضاة الذين حولها ، فقد جعل كل الملتزمين أنفسهم قضاة عليها في كل صغيرة وكبيرة ، بحيث أصبح الإسلام عبئاً هائلاً يواجهها بدل أن يكون عامل سكينة واطمئنان! وقالت الأخت بأسف أنه خلال كل تلك السنوات ألقيت إليها مئات النصائح والتوجيهات والأحكام ، ولكن لم يسألها أحد عن الصعوبات التي تواجهها ، وما إن كانت تحتاج إلى أية مساعدة ، ولم يعرض أحد عليها خدمة تخفف من الضغط الماحق الذي يحيط بها ، ولقد اختارت الأخت لنفسها اسماً خاصاً (ابتسام) وقالت أنه لتذكير الملتزمين بحديث نبيهم صلى الله عليه وسلم من أن تبسمك في وجه أخيك صدقة ، لأنهم لا يبتسمون في وجه أحد! ويحظى من حاز على نتف من العلم منهم على مسحة مميزة من التجهم والعبوس كفيلة بإلقاء الخوف أو القلق داخل النفوس ، وفي أقل الحالات زرع الحيرة في التعامل مع دين الإسلام العظيم.

لا شك أن تلك الأخت لها معاناة خاصة لا يمكن تعميمها على الجميع ، ولكنني أخذت أستعرض صوراً من المحاكمات القاسية التي يتحرك البعض بها ، وعادت إلى ذاكرتي صورة أخت بوسنية كانت تدرس عندنا في الشام (في أحد المعاهد الشرعية) وأصابها ألم شديد فجلست على طرف الرصيف (داخل المعهد) تتلوى من الألم ، ومر بها أحد المدرسين ، وبعدما تجاوزها بأمتار توقف ثم رجع إليها بغضب شديد، وخرج من فمه كلام غير مهذب ، غايته أنها قليلة الأدب لأنها لم تقف احتراماً لأستاذها الجليل الذي ينبغي الوقوف له تعظيماً لحقه الشريف! (لقد مارس دور القاضي الذي يقدم المتهم إلى المحاكمة لا لمصلحة عامة ضرورية بل لمصلحة خاصة هزيلة )!

وتذكرت طلاباً يتحدثون عن فلان من الأساتذة وأنه لم يبادر طلابه بالسلام مرة قط ، وآخر لا يرد السلام! أصلاً! ولو بادره بذلك التلامذة الأوفياء! اللهم إلا إذا مر به أحد الظالمين أو أذنابهم فهناك يكون السلام والأشواق وطيب اللقاء والمحيا! وتذكرت وتذكرت …

ترى ماهي القدوة الحسنة التي زرعها أولئك الملتزمون حولهم ، وهل هم قادرون على فتح مغاليق القلوب للإسلام ، بعد أن أحكموا سد الدروب إليه بسلوكهم الفظ الغليظ الذي ينقلك إلى أجواء سورة الحجرات ، وماعابته على أولئك البدائيين ، ثم ماطلبته من رقي يليق بأتباع الأنبياء!

إن المسلمين لم ينكسروا بسبب هجوم الأعداء الخارجيين عليهم فقط ، بل لأن النزعة الخاصة مازال لها في بعض النفوس حظاً ليس بالقليل ، والشعور بالانتماء إلى الأمة واهٍ عند البعض بحيث يتكسر عند العصبيات الضيقة!

إن العالم الإسلامي اليوم معرض إلى خطرين شديدين: خطر داخلي وخطر خارجي.

أما الخطر الداخلي فما ذكرناه عينة متواضعة منه ، وليس همنا حشد الأمثلة السلبية عن ذلك ، وقد كان بالإمكان ذكر العشرات من أهل العلم والفضل ممن يعوضون بصدورهم الرحبة ووجوههم المشرقة نزيف الخلق عند البعض ، ولكن الأمور ليست بحشد السلبيات أو الإيجابيات ، فمما لايكاد يختلف اثنان عليه أن هناك أزمة أخلاقية داخلية نعاني منها ولا بد من بحث عن حل لها وإزالة أسبابها!

ما سنذكره لاحقاً محاولة صغيرة لتجاوز سد صغير وعائق من عوائق الحركة الصحيحة.

في أصول الفقه تعلمنا أن هناك أحكاماً خمسة تتناول كل مايحيط بنا ، وهذه الأحكام الخمسة هي الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة ، وكل شيء فله موقع أساسي من هذه الأحكام ، وربما تحرك الموقع لظروف طارئة ولكن مآبه لامحالة إلى الموقع الرئيس.

موقع الصلاة هو الوجوب (بمعنى الفرض) ، ولكن سقوط إنسان في بئر (بل حتى كلب) يوجب قطع الصلاة لإنقاذه ، ويمتنع المصلي من الإتمام لتحقيق مقصد أهم من مقاصد الشريعة في تلك اللحظة وهو حفظ النفس.

وحكم الخمر هو الحرمة ، ولكن ذلك الحكم يتحرك إلى إباحة شربها لدفع الهلاك عن النفس إذا فقد الماء، وحمل الخمر حرام ، ولكن يجب حملها إذا أمسك مخبول بإنسان مهدداً بقتله إذا لم تجلب له الخمر ، ولكن حكم الخمر يرجع إلى قاعدته الأساسية وهي الحرمة.

وحكم أكل التفاح هو الحل (الإباحة) ، ولكنه يصبح مكروهاً شرعاً إذا طلب الطبيب عدم الإكثار منه ، ويصبح حراماً إذا أخبر الطبيب الثقة أنه يسبب حساسية قاتلة للمريض ، ويصبح مندوباً إذا كان يعين على الشفاء ويصبح واجباً إذا لم يكن ثمة دواء غيره.

هذه المرونة واليسر في الإسلام ضاق مع الوقت ، وأصبح بعض المسلمين غير قادر على الحركة الصحيحة مع تحقيق المصلحة الشرعية المطلوبة ، ولقد سافرت مرة إلى بلد بعيد ، وكان الوقت في رمضان ، وأحسست أنني إذا أفطرت فإنني أرتكب إثماً لأننا تعودنا على الحالة الأساسية ، ولانستطيع بسهولة الانتقال إلى الحالة الأخرى (وهي إباحة الفطر للمسافر) ، كما قرأت مرة مقالة عن أخت مسلمة لاحقها الظالمون فدلها رجل حكيم على طريقة للهرب ، وهي أن تخلع الحجاب عند حاجز أقامه من يتعقبونها (وقال الحكيم لها: إذا اعتقلت لا سمح الله فكوني على ثقة أن ماسيكشف أخطر بكثير من الحجاب!)، ففزعت من الأمر لأنها لم تستطع الانتقال من الحالة الأساسية وهي وجوب الحجاب إلى حالة أنه ربما يباح لها لدفع الأذى عن نفسها ، وربما الوجوب إذا كان الأمر يتعلق بأرواح المجاهدين ، وذلك أن الشريعة كلها تقوم على رعاية خمسة مقاصد : وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال ، وضمن هذا الترتيب وكل مقصد تحته ثلاث طبقات من الضرورات ثم الحاجيات ثم الكماليات ( التحسينيات).

ومما مر معي من الأخبار أن مجموعة من المجاهدين منذ ستين عاماً دمرت سور سجن للمحتلين وأخرجت من الأسر مجاهداً كبيراً وبعد سير ساعات وضع يده على رأسه فوجد أن عمامته قد سقطت أثناء الهروب وأصر على الرجوع لأن العرف عندهم أن خالع عمامته مثل خالع ثيابه ، وأمام الإصرار رجعت المجموعة للبحث عن العمامة فسقطت كلها بيد دوريات الاحتلال التي خرجت تتعقب الفارين!

إن إدراك الحكم الأساسي ثم التفريعات الناشئة عنه ضرورية لحركة الإسلام في عالم اليوم ، ولقد عانى الفكر الغربي من التناقض الشديد فابتداء كان هناك نزاع خرافي بين آلهة مزعومة! فمن آلهة للخير إلى أخرى للشر ، وإله للحب وآخر للحرب ، وقد يتحالف فلان مع فلانة من الآلهة! في وجه إله ثالث … وذلك التناقض والصراع بقي في الفكر الغربي حتى اليوم ، ولا منقذ منه إلا فكر توحيدي صافٍ ، كما أن الكنيسة وجهت الناس إلى أن الميل الجنسي خطيئة ، والطهارة إنما تحصل بالاستعلاء عنه ، وباعتبار أن البشر يقعون في الخطيئة المزعومة ، فلا بد من قربان ومخلص ، فكان يسوع هو الفداء! كما حاربت الكنيسة في بعض فتراتها العلم وأحرقت من أصحاب العقول النيرة ما لايعلمه إلا الله .

كل ذلك أقام التناقض في أعماق النفس البشرية وجنى عليها جنايات عظيمة حتى أن مانشهده من فساد اليوم إنما هو نتيجة من ذلك الفكر المضطرب الذي لم ينسجم إلا في الظاهر وبقي في أعماقه يمور بنزاع شديد.

هناك خطورة حالية شديدة في أن يتحول الإسلام إلى التناقض الداخلي والتآكل الذاتي !

لفتت نظري كلمة للدكتور حسان حتحوت أحد آباء الصحوة الإسلامية ، وتلميذ الإمام حسن البنا وأحد بناة الطب في الكويت ثم الداعية النادر في لوس أنجلوس ، إذ يقول في كتابه (بهذا ألقى الله) أنهم أخذوه إلى أكثر من مركز إسلامي كان في الأصل كنيسة اشتراها المسلمون ، وسألوه عن شعوره؟ فقال : إنه شعور الخوف والقلق والإشفاق …. (لأنه) من الوارد بل المتوقع إن انكسرت حلقة الإسلام بين جيل وجيل أن يكون مآل مراكزكم ومساجدكم أن تطرح في السوق للبيع بعد جيل أو جيلين!!

ويقول في آخر كتابه : (فلو أدرك المسلمون أبعاد ما يدور في العالم الآن والآفاق التي يتجه إليها لما هنأ لهم زاد ولا طاب لهم رقاد!).

إن هناك توجهاً غير مباشر وغير مقصود ، وبكامل حسن النية من قبل قليل أوكثير من المسلمين إلى خلق صراع داخلي قاتل ، وهو ليس بين السنة والشيعة مثلاً (رغم خطورته) ، أو بين الأنظمة الجائرة والشعوب المغلوبة ، وليس بين الشرق والغرب ، بل بين مفردات الإسلام العميقة ، وبسبب عدم وجود استيعاب مرن يجعل مصالح المسلمين متناغمة متوافقة ذات مرونة تمنع من تكسرها.

عجبت مرة من جملة أسئلة أتتني من مركز إسلامي في ألمانية ذكر أصحابه أنهم جميعاً من الألمان المسلمين وثلثيهم من النساء (وهي حال أكثر الدول الغربية إذ تُقبل النساء فيه على اعتناق الإسلام أكثر من الرجال!) وكان آخر سؤالين منهما : هل يجوز للمرأة المسلمة أن تحصل على شهادة قيادة السيارة ، والسؤال الثاني إذا حصلت المرأة على تلك الشهادة فهل يجوز لها أن تقود السيارة؟ مع الدليل!

واحترت في البحث عن دليل يجيز للمرأة المسلمة قيادة السيارة ، ومع يقيني القطعي بأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه إلا أنني لم أتوقع وجود دليل ، وكنت أهم بالتعليل أن الأمر من الأفعال المباحة والتي يكون الحل هو الأصل فيها ، إلا أنني دهشت لشمول هذا الإسلام عندما وجدت في صحيح البخاري الحديث التالي: \”خير نساءٍ ركبن الإبل صالح نساء قريش\” (فتح الباري ، الحديث 5365- 9/421) وفي رواية عن قتادة : \” لو علمت أن مريم بنت عمران ركبت الإبل ما فضلت عليها أحدا\” ، وحملت (كاميرا فيديو) وذهبت عند فقيه الأحناف الجليل الشيخ أديب الكلاس حفظه الله وعافاه سائلاً فقال : أنا آمر كل شاب مسلم أن يعلم زوجته قيادة السيارة!

هذه مسألة صغيرة ولكنها بداية تشقق وصراع داخل العقل المسلم بين فتوى تجيز ، وفتوى تمنع ، والحل ردها إلى الأحكام الخمسة ، ومعرفة الأصل من الاستثناء.

وفي سهوب مدينة جوس في نيجيرية قادنا الداعية الموفق الأستاذ محمد علي البحري إلى قرية نائية دخل سكانها في الإسلام حديثاً ، واجتمع الكل في ظلال دوحة باسقة ، وكان أول سؤال لهم: هل عمل المرأة حرام أو حلال؟ لأن هناك دعاة أتوا وأخبروهم أن عمل المرأة حرام! (حتى في غابات أفريقية) خشية الفتنة والتبرج! وضحك أحد الدعاة الذين معنا من الألم! لأن القرية البدائية من أولها إلا آخرها لاتوجد فيها مِرآة! وربما لاترى المرأة شكل وجهها لتتبرج أصلاً! اللهم إلا عند فيضان المياه وتشكل البحيرات الصغيرة ، إضافة إلى أن القبائل هناك سوف تموت فعلاً إذا لم تعمل النساء! لأن طبيعة الحياة قد قسمت الأعمال بين الرجال والنساء ، والقسم المهم من حياة القبيلة يعتمد على أعمال النساء! ورجعنا ثانية لنجد الحديث الصحيح عن النبي الهادي صلى الله عليه وسلم إذ يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه :\” ُطلقت خالتي. فأرادت أن تجِد نخلها (تقلمه) فزجرها رجل أن تخرج. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

.\”بلى. فجِدِّي نخلك. فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفا\”

إن من الخطورة بمكان أن يتوجه العقل المسلم إلى الآلية في التفكير والنظر من نافذة واحدة ، وعدم إدراك خصائص الزمان والمكان والظرف والضرورة، ومن الخطورة الشديدة مصادرة مفاتيح الإسلام التي مكنته من الامتداد في الأرض مثل شعاع الشمس، ومن الإجحاف بحقه أن نسلبه آليات الحركة وقابلية التأثير والتفعيل لكل ماحوله! وإن الإسلام بكل امتداداته ومذاهبه المعتبرة وعلمائه لابد أن يتحرك ليحقق تقدماً في عالم اليوم ، وما الحصار الذي يقيمه البعض على الإسلام ، بل الوصاية والهيمنة إلا بداية تفكيك داخلي له أخطر من أي مكر خارجي.

لفت نظري ذلك الضيق الذي صار يحيط بفكرنا نحن المسلمين ، وكما يقول العلامة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله : أصبحنا وثائق إدانة للإسلام.

كثير من الموجهين الدينيين لا يعرفون إلا قولة : حرام أو حلال ، وقد أراحوا أنفسهم من تتبع الحالة المعروضة ليروا ماهو التوصيف الدقيق لها.

قال لي تلميذ لي هاجر إلى دولة غير مسلمة: هل تذكر عندما كنا في المرحلة الثانوية ، وكنت تشدد علينا في رؤية مايعرض في التلفزيون من مسلسلات عربية وأفلام، وتحاول أن تشغلنا عنه بأمور أخرى؟ قلت : نعم! قال : بالله عليك : لا تذكر مثل ذلك هنا ، لأنه أمام كثرة المفاسد والمغريات والانحلال والإباحيات الموجودة هنا ، فإنه لاينظر إلى القنوات العربية إلا مشفق على نفسه من الذوبان ، وربما كان من يتفرج على الأفلام العربية (والتي كنا ولا زلنا نؤكد على فسادها وهبوطها) يجدد من خلالها صلته مع دينه! ولغته! ووطنه! وتدمع عينه لصوت أذان يسمعه ، ومشهد ركعة يصليها بطل أو أم بطلة الفيلم العربي الفاسد! فقلت سبحان الله أفدتني خبرة ماكنت أعرفها!

ومما هو أكثر إشكالاً أسئلة تواجهك مثل السيف الصارم أينما ذهبت: ماهو موقف الإسلام من العلمانية والديمقراطية؟ ورأيت أن أكثر إخواننا قد أراحوا أنفسهم ، فأغلبهم صاحب أحد جوابين : حرام ..حرام وهو بذلك يفوت على الجاليات المسلمة خيراً وفائدة في بعض الأحيان، وقد لايكتفي هؤلاء ببيان رأيهم ولكنهم يخرجون مخالفيهم من رحمة الله ويدعون عليهم بالكفر! ، وآخرون جوابهم أن الديمقراطية والعلمانية عين الإسلام وقلبه وروحه! فهم يضعون المنهج الإسلامي كله على كف عفريت ويفتحون باب ذوبان مخيف.

قلت لأحد الإخوة : لماذا ليس عندكم تفصيل والأمور كلها على حد السيف! لماذا لا تقولون للناس: إن كان عناك عدل وحرية ، وهناك صيغة لحل المشكلات تعتمد على أن ترسل كل مجموعة من الناس مندوبين يمثلونهم تبعاً لحجمهم لحل المشاكل والأمور ، ولك الحق أن تطرح ماتشاء من رؤيتك ولا يجبرك أحد على رأيه ، ويسمونها ديمقراطية فما مشكلتك؟ قال : وإذا تبنوا رأياً لايوافقني كمسلم؟ قلت وهل تستطيع العمل بحرية بحيث يمكنك إقناع الناس بما تعتقد صوابه؟ قال نعم ، فقلت فما مشكلتك إذاً إلا الكسل … وإن كان أي مجتمع يفتح لك بابه ليسمع رأيك ولا يقسرك على رأيه ، وإن كان قانون ذلك المجتمع كله لا يعجبك فتستطيع أن تقول رأيك فيه ثم تنام قريراً في فراشك ، ثم بعد ذلك تستطيع أن تدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة إلى رأيك ، وإذا اقتنع الناس برأيك فلا حظر ولا منع ، وإذا كثروا فلهم حق التغيير! فما مشكلتك إلا إن كنت تعتقد أن واجبك الشرعي هو الإكراه في الدين والقسر في الاعتقاد وتحب الهيمنة والوصاية على الناس بما لم يأمرك به الله!

لقد التبس الأمر في عقول الناس بين مايجري في بلاد العرب والمسلمين من انتخابات مزورة لاشك عندي في حرمة المشاركة بها لأنها تعين الحكام الظلمة على تبييض صحائفهم ، ومع مايفعله أبو الديمقراطية في العالم (النظام الأميركي) من ظلم وكذب وتسويق فاسد ، التبس كل ذلك مع حالات أخرى فصار هناك سيف قاطع ورد فعل انعكاسي في وجه أي أمر لم نعتد عليه.

والعلمانية إن كان القصد منها إقصاء الدين عن الحياة وإبعاد الأمة عن ربها وخالقها، ومحق المتدينين وتخريب هوية الأمة وإجبارها على مناهج الضلال والفساد (كما تفعل معظم الدول العربية الظافرة في معارك التحرير والصمود والبناء) ونزع دينها منها فهو الكفر المحض الذي ليس فيه امتراء ، إما إن كانت العلمانية هي منع تغول أصحاب الديانات المختلفة على بعضهم وعدم السماح بافتراس بعضهم لبعض فما المشكلة؟

لقد حملنا معاناتنا من أنظمتنا ثم طفنا بتلك المعاناة في بلاد الله الواسعة فنقلنا الأمراض السياسية والاجتماعية التي حمَّلنا معظمها حكامنا العظماء ، ونكاد نميل بالمركب مرة أخرى فندمر في كل مكان مرتكزات الأمان والاستقرار والتوازن لنا ولغيرنا!

ولقد أطلق الفقهاء يوماً مصطلحي دار الحرب ودار الإسلام ، فما عدنا نستطيع الخروج منهما! وأدى ذلك إلى إرتكاسات خطيرة لا يحس أكثرنا بأوائل أسبابها ولكننا في النهاية ندفع جميعنا ثمناً باهظاً لها، فمن ذا يقول أن الأنظمة التي تحكمنا هي أنظمة قائمة على الحق! فهل يجعل ذلك بلادنا دار حرب سواء كفر الحكام أم آمنوا وسواء حكمتنا أنظمة ضالة أم مستقيمة! إن بلادنا تبقى دار إسلام إلى ماشاء الله ، وهناك بلاد أخرى أهلها لايعلمون عن الإسلام قليلاً ولا كثيراً ولكن المسلمون فيها لا يظلمون ويمكنون من شعائرهم والدعوة إلى الله فهل يجعلها ذلك دار حرب؟ اللهم لا ، ولقد كان الإمام الماوردي بعيد الغور فنقل عنه الإمام ابن حجر في فتح الباري 7/230 : إذا قدر المسلم على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر ، فقد صارت البلد به دار إسلام ، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يُترجى من دخول غيره في الإسلام.

أما الإمام فخر الدين الرازي فقسم الأرض إلى دارين: دار دعوة بدلاً من دار الحرب ، ودار إجابة بدلاً من دار الإسلام. (التفسير الكبير 8/191).

في داخل العقل الباطن أن كل دار فيها غير مسلمين فإنما هي دار حرب ، وليس الموضوع أمراً نظرياً فنتيجته العملية قاسية ومنها صراع داخلي دائم في نفوس المسلمين المقيمين في بعض بلاد الغرب ، وهو صراع قديم فاقمه ازدياد الكراهية للمسلمين ولم ينشأ مع زيادة العنصرية والتعصب ضدهم ، وخلاصته أنهم لم يبنوا أنفسهم ليرجعوا إلى أوطانهم ، ولم يبنوا أنفسهم ليثبتوا الإسلام في أراض كانت مفتوحة لهم بل غرق أكثرهم في الدنيا غافلا عن دينه وأمته ووطنه ، وفي عقله الباطن سد متين (اسمه بلاد الكفر) منعته من رؤية النعم التي كان يمكن له الاستفادة منها، أما من عملوا ونجوا من هجوم الدنيا فالعديد منهم عملوا بالطريقة الحدية مع ضيق في التفكير وضحالة في العلم فأوقعوا الأمة في حرج عظيم بل خسائر مرعبه وأعانهم تدفق المال من بعض الجهات في السبعينات والثمانينات فركبهم الغرور وظنوا أن المال هو الذي يثبت المناهج أو يعطيها الحياة حتى إذا مرت عاصفة أيلول تهدم كل شيء.

يتضايق الكسالى دائماً من الحقائق المرة ، والبعض يعتقد العصمة فلا يراجع نفسه! وإلا فقل لي عن المراجعات الشرعية الواسعة التي نقوم بها لتصحيح المسار!

حدثني إمام مسجد أن سيدة في الخمسينات أتته ومعها حزمة سميكة من الكراسات وقالت له لقد كنت مسلمة وفي كل يوم كانت تأتيني كتيبات جديدة لايشرح واحدها عن الإسلام شيئاً بل كل واحدة تبين ضلال وفساد الجماعات الأخرى ، وقد تعبت من كل ذلك ، وقد يكون دينكم جيدا ولكنني لا أستطيع أن أفهمه فالمعذرة إن تركته!! وفي دولة أخرى لم يتجاوز عدد المسلمين خمسة بالمئة من السكان ولكن السرقات هناك لأبناء المسلمين نسبة ستون بالمئة منها! لماذا لا نتدبر في ذلك ، ولا نفكر في المحاور والأفكار بل التدريس الأعوج لبعض الأمور والتجهم العام الذي نتعامل به مع أهل الأرض وقد غابت الابتسامة من وجوهنا ، تماماً مثل حالة الأخت ابتسام التي نعممها دون قصد.

ويتكلم جفري لانغ (حتى الملائكة تسأل (رحلة إلى الإسلام في أميركا) ص282-283).والذي هداه الله

إلى الإسلام عن الصراع بين الجماعات المختلفة: )وكنت أشعر في بعض الأحيان أن كلاً منها كان يحاول جذبي إلى صفوفهم ؛ ففي كثير من الأحيان كان بعضهم يأخذني جانباً ويهمس في أذني محذراً بالقول : ألاّ أقترب كثيراً من هؤلاء الإخوة. وكانت كل فرقة تخبرني أن الفرقة الأخرى ضالة عن الإسلام ، وعند ذلك في الواقع لم أكن قادراً على تحديد موقفي … وفي كل مرة كانت كل مجموعة تسألني عما قالته المجموعة الأخرى ، ثم تقوم بتصحيح بعض الأشياء التي تعلمتها من تلك المجموعة ، وسرعان ماتولد لدي انطباع وهو أنه بالرغم من أن الإسلام ينهى عن الغيبة والنميمة فإن المسلمين نمامون ومغتابون بالعادة ، وأن ذلك هو الشغل الشاغل للجالية الإسلامية( .

لقد نسي أولئك الإخوة أخلاقيات الإسلام ومفاتيحه ، ولم يعودوا قادرين على التمييز بين الحالات المختلفة حتى على المسويات البسيطة فأساءوا ليس إلى أنفسهم فقط بل وضعوا الإسلام كله ديناً وعقيدة وسلوكاً في دائرة الاتهام ، لذا كان الإمام الشاطبي شديد التنبيه إلى هذا الأمر وضرورة الإحاطة بالإسلام خشية تمزيقه فقال في الاعتصام 245: (فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضاً كأعضاء الإنسان إذاً صورت صورة مثمرة. وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليل ما أي دليل كان عفواً وأولياً ، وإن كان ثم مايعارضه من كلي أوجزئي ؛ فكأن العضو الواحد لايعطي في مفهوم أحكام الشريعة حكماً حقيقياً ؛ فمتبعه متبع متشابه ، ولا يتبعه إلا من في قلبه زيغ كما شهد الله به).

القرار في أيدينا فإما أن نفتح أبواب الإسلام للعالمين وإما أن نغلقها ، ولكن علينا بالإسراع قبل أن تضيع المفاتيح .
أحمد معاذ الخطيب الحسني

9 شعبان المعظم 1427هـ/ الأول من أيلول 2006
- في كلمة الشهر القادم حديث عن الخطر الخارجي ، وإضاءة حول كتاب الباحث الدكتور أحمد خيري العمري الصادر عن دار الفكر باسم : الفردوس المستعار والفردوس المستعاد ، وهو بحث خطير عن تسلل العقلية الأميركية إلى المسلمين ، أو (أسلمة التأمرك) أي جعل كل شيء أميركي ذا غطاء إسلامي ، كما أن في الكلمة محاولة متواضعة للبحث عن مخرج من الحصار الذي سيزداد!

- يرجى من الإخوة الكرام الإطلاع في قسم المناهج علىموضوع (في الطريق إلى البناء) وهو نواة لمنهج أوسع.
PLEASE SEE : Ramadan Preparation Program 2006 / 1427h

IN LIGHTS OF ROAD SECTION

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كلمة الشهر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.