الإمام المظلوم (ناصر السنة) : العلامة الشيخ عبد القادر الأرناؤوط

كانت الشوارع مقفرة قبل فجر يوم الجمعة (13 شوال 1425 هـ/ 26 تشرين الثاني 2004م) في دمشق الشام ، وكان أغلب الناس غارقين في نوم عميق ، وأصوات حبات المطر الغزيرة تعزف أنشودة الخير النازل من السماء ، ورياح الشتاء الباردة ترقص متهادية بين الشوارع والدور حاملة البشرى بالمطر والبركة إلى مدينة العلم والهدى (دمشق) ، ثم تشتد كأنها باسم الكائنات تشكو إلى رب الكون العسف والظلم لأهل الإيمان في بقاع الأرض ، أو تعود مزمجرة وكأنها تتوعد أهل الباطل بمصرع وخيم قريب.

في تلك الليلة الباردة كان الرجل الذي ملئت حياته عناء وصبراً وحَملَ أمانة وعلماً ، على موعد يرجع فيه إلى الله ، ولم يطل انتظاره فأقبلت إليه ملائكة الموت تضمه (فيما نحسب ولا نزكي على الله أحداً) إلى ثلة الرجال الكبار أنصار سنة النبي الهادي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهناك .. هناك نحسبه استراح بعد أن ملأ الظالمون حياته (منذ نعومة أظفاره) هجرة وتشريداً وطرداً ومنعاً وأذى وافتراءً ؛ فما بالى ولا خشع لنازلة وهو يرفع راية النبي العظيم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومضى دون أن يتضعضع لظالم أو تنطق شفتاه بنفاق لكبير أو صغير ، فقد كانتا مشغولتين أبداً بذكر الله وسنة رسول الله ، وعاشقتين لاترتويان من ذكر اسم النبي الطاهر الكريم وهما تعلمان العباد سنته وهديه.

في لحظات صعدت روح الإمام المظلوم عبد القادر الأرناؤوط إلى بارئها ، ترفرف وتزفُن فرحة بلقاء الله ولقاء الأحبة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وصحبه وأهل السنة المطهرة والإيمان أجمعين .

ولد العلامة الشيخ عبد القادر (قدري) الأرناؤوط في قرية (فريلا) في (إقليم كوسوفا) من بلاد الأرناؤوط في ما كان يسمى يوغوسلافيا، سنة (1347هـ – 1928م) ، وبعد أجواء اضطهاد وقلق بسبب السيطرة الصربية الواسعة على البلاد ؛ ثم صدور المرسوم الملكي عام 1930م ، والذي أعطى الملك صلاحية واسعة للتحكم بالمسلمين ؛ وقد هاجر والد الشيخ (رحمهما الله) مع أسرته إلى الشام ، وكان الشيخ في الثالثة من عمره ، واستقبلتهم وغيرهم دمشقُ التي ماعُرف عنها إلا أنها الأم الحنون لكل ضيف ومهاجر وعالم ومجاهد.

عاش الشيخ في أسرته حياة متواضعة بسيطة عجمت عوده وجعلت منه شاباً عصامياً ثم طلب العلم عند كبار العلماء واضطهد منذ بداية حياته العلمية من بعضهم لاقنتائه كتاب الوابل الصيب! ولم يثن ذلك من عزمه فتابع الطريق بعصامية نادرة وتخصص في علم الحديث حتى أصبح من كبار أهله ، وكان للشيخ من الأخلاق النبوية الشيء العظيم من تحمل الأذى والصبر على أهل الجفا مع بشاشة الوجه لطلاب العلم وإكرامهم وتحمل إلحاحهم وطلباتهم المرهقة ، وكان الشيخ خطيباً مفوهاً ولكنه منع من الخطابة والتدريس لسنوات طويلة فاقتصر على تدريس طلبة العلم في بيته وتفقيه الناس في الاجتماعات الخاصة من أفراح وأتراح ، وكان جريئاَ في الحق ، يلطف في الأسلوب ، ولكنه لايواري ، وطالما تحدث عن زكاة الحديث فيؤدي خمساً عن مائتي حديث.

ابتعد الشيخ طيلة حياته عن التكفير والتفسيق والتبديع ولم أسمعه قط يتكلم بذلك … بل يذكر أن كذا لايجوز وهذا لا ينبغي وهذا مخالف للسنة ، وما عدا أعداء الله الذين لم يكن الشيخ يخفي بغضه لهم ويدعو عليهم ، ماعدا أولئك فقد كان الشيخ شديد التواضع مع الناس كلهم بل مع أبنائه ينادي أحدهم بلفظ (يا أستاذي) ، وطالما كان في معهد العلوم الشرعية يجلس بجوار المربي الشيخ عبد الرحمن الشاغوري شيخ الطريقة الشاذلية رحمه الله فيتبادلان الحديث والنصح والمودة رغم اختلاف المشارب والمذاهب والأفكار!

علمنا الشيخ أن صاحب العلم يستفيد من غيره وطالما اعتمد على كتب العلماء أمام تلامذته ليوضح مسألة أويقررها سواء كانوا من السلف أوالخلف وقلما رأيت عالماً يستعين بكتاب لأحد أنداده ونظرائه.

ضُيِّق على الشيخ في آخر حياته تضييقاً شديداً ويبدو أن بعض الغيورين علم بذلك فتوسط لتخفيف التضييق عنه ، فاستدعاه أحدهم وقال له : أنتم تقولون أنه لايوجد واسطة بين العبد وبين الله فلماذا توسط بعض الناس من أجلك؟ فقال الشيخ الذي لم يقبل تلك المباسطة الثقيلة!: إن الله عادل فلايحتاج إلى واسطة بينما أنت ظالم فاحتاج الأمر معك إلى واسطة.

منذ أواخر شهر رجب وأول شهر شعبان الذي سبق وفاة الشيخ رحمه الله صار بعض الأعوان يأتون للمراقبة في مدخل البناء ومنع الشيخ حتى من لقاء الناس والإجابة على أسئلتهم ثم نقل مكتبته كلها إلى الجهة الأخرى من البناء لشدة ما اعتراه من ضيق!

آخر درس ألقاه الشيخ كان يوم الأربعاء الذي سبق وفاته ومثل الإمام أحمد .. أوقف دروسه كلها [ربما خشية أن يؤذى الناس بسببه] واعتذر بأنه يريد أن ينجز بعض الأمور ، ولما سأله أحد تلامذته متى وأين أراك فقال الشيخ : وقت صلاة الجمعة في جامع زين العابدين .. فأتى التلميذ يوم الجمعة .. فإذا بجنازة الشيخ في المسجد فكاد يسقط على الأرض من هول المصاب.

في فترة الشباب كان الشيخ رياضيا لايشق له غبار ، وعمل مدرساً وواعظاً في مدرسة الإسعاف الخيري في رعاية الأيتام . وفي سنة 1377هـ الموافق سنة 1957م انتقل إلى المكتب الإسلامي الذي أسسته في دمشق ، وهناك ظهر نبوغه بقيامه بنشر آثار السلف الصالح مع مجموعة من أهل العلم والفضل ومنهم الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ، والدكتور محمد لطفي الصباغ ، والشيخ شعيب الأرناؤوط ، والشيخ عبد القادر الحتاوي ، والشيخ إسماعيل الكيلاني ، وآخرون . وعمل فترة مديراً للمكتب الإسلامي بعد سفر الأستاذ زهير الشاويش خارج سورية لظروف قاهرة سنة 1963م ، وكان عمله في المكتب الإسلامي أكثر من عشر سنوات منقطعاً له ، ثم متعاوناً مع المكتب ، حتى وفاته رحمه الله . وكان محباً رحمه الله لمنهج أهل السنة ، وظهر ذلك في دعوته العامة في دروسه ومساجده وتلامذته ، وفي تحقيقاته للكتب. كما شارك في تحقيق عدد من إصدارات المكتب مع الأستاذ زهير الشاويش ، والشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله ، والشيخ شعيب الأرناؤوط والدكتور محمد بن لطفي الصباغ والشيخ الحتاوي ، والشيخ أحمد القطيفاني ، وغيرهم . وشارك بتحقيق عدد من الكتب المخطوطة ، والتي طبع أكثرها المكتب الإسلامي ، مثل : ” الكلم الطيب “ ، و ” مشكاة المصابيح “ ، و ” روضة الطالبين “ ، و ” زاد المسير “ وساعد في إعداد مؤلفات الشيخ ناصر الدين الألباني ، مثل ” صحيح وضعيف الجامع الصغير وزيادته الفتح الكبير “ ، و ” شرح العقيدة الطحاوية “ ، و ” سلسلة الأحاديث الصحيحة والضعيفة “ ، و ” شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد “ ، و ” الروضة “ ، و ” زاد المسير “ ، وكتب الفقه الحنبلي ، وغير ذلك . ثم انفرد بعد ذلك بأعمال قيِّمة أتقن العمل بها ، أحسن الله إليه ، مثل كتاب ” جامع الأصول “ .

وكان من أواخر أعماله إعادة تحقيق كتاب ” شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد “ للمكتب الإسلامي ، وهو تحت الطبع الآن.

كانت الصلات عامرة بينه وبين الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - ، حيث كان الشيخ عبد العزيز يقدِّر الشيخ عبد القادر وله معه علاقة خاصة ، دلَّت على تقديره البالغ له ، ومنها تعيينه واعظاً في كوسوفا ، فذهب إلى بلاده الأصلية ( يوغسلافية ) أكثر من مرة يعظ الناس ، ويدلهم على الخير ( وكان يتقن لغتهم ) .

كما كان الشيخ عبد القادر متأثراً بالعمل العام الذي يقوم به الأستاذ عصام العطار وبالدعوة التي كان يقوم بها الأستاذ عبد الرحمن الباني ، وبعض إخوانه .

كان – رحمه الله – سهل العبارة فصيح اللسان ، حسن الاستشهاد بالأحاديث النبوية الصحيحة ، وبما كان عند السلف الصالح من مواعظ مختارة منتقاة ، وطالما كان يحضر الطلاب من بلاده الأولى ، ومن تركية للدراسة في الشام أو في المملكة العربية السعودية ، ويسعى في تأمين ما يلزمهم من المساعدات المالية والعلمية وغيرها .

وقد نكب الشيخ عبد القادر – رحمه الله – أكثر من مرة ، فقد أصيب بوفاة زوجته الأولى أم محمود – رحمها الله – بحادث مؤلم . ثم لقي المتاعب من قبل بعض الجهات، فمنع من الخطابة ، والتعليم ، وحضور الاجتماعات ، ثم إلزامه البقاء في بيته لفترات ، مع أنه كان رقيق الوعظ ، حسن النصح للناس . والتف الناس حوله محبين له مستفيدين من علمه ، ومنهم مجموعة من طلاب العلم الذين تخرّجوا على يديه ، وفيهم من بلغ منـزلة عالية وكبيرة في سورية ، وغيرها .

وخرجت جنازة الشيخ أقرب ما تكون إلى السنة ولم يرتفع للناس فيها صوت ، وحصل فيها خشوع عظيم وحضرها الآلاف رغم أنه لم يعلم بوفاته رحمه الله إلا القليل ، ثم دفن الشيخ في تربة الحقلة القريبة ، وجرى العزاء بالشيخ في مسجد الحسن في الميدان ، وحضرها كبار أهل العلم وأثنوا على الشيخ خيراً ، ويكفيه شهادة الشيخ أسامة الرفاعي له بأنه عالم رباني وكذلك كلام شيخ القراء الشيخ كريم راجح والشيخ نعيم العرقسوسي حفظهم الله جميعاً وغيرهم.

اللهم ارحم فقيدنا واخلف أهله وولده وتلاميذه بخير ، وعوضنا خيراً

وإن لله ما أخذ ولله ما أعطى وإنا لله وإنا إليه راجعون.

ملاحظة : استفدنا من بعض المعلومات التي وردت من مقالة للشيخ زهير الشاويش إضافة إلى مواقف شخصية لمشرف الموقع مع فضيلة الشيخ رحمه الله ، كما وضعنا صورة فوتوغرافية للشيخ في قسم حديث الصور .

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف الأعلام, الراحلون, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.