قوانين الحرب النفسية وبناء الأسرة المسلمة

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا كما يحب ربنا ويرضى ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله.
إخوة الإيمان ؛ أخوات الإيمان ؛ اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون أما بعد :
فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وإن من كلامه تعالى قوله : ( فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم )1.

خطبة اليوم فيها بعض الصعوبة فاستعدوا لها ، وذلك أننا وصلنا في تناولنا أمر نوح عليه السلام إلى وضع أسرته وبيته ، مما يجب الاتعاظ به في بناء الأسرة المسلمة ، وهذا موضوع شديد الحساسية والأهمية ، ولا أعتقد أن العموميات كافية فيه ، ويحتاج إلى التفصيل وقد تواجهنا مشكلة عدم تقبل قليل أو كثير من الاخوة والأخوات لموضوع الصراحة ؛ ربما لأن البعض منا يفكر بطريقة فردية أو ذاتية ، والطرح الأشمل قد تكون له أبعاد لا يفطنون لها فاقتضى الأمر التزويد بمقدمة توفر كثيرا من العناء ؛ وتوضح أسباب فوات أمور غابت محاكماتها الصحيحة ، والمقدمة ليس نفعها قاصرا على موضوع الأسرة بل هي توضيح عام شامل يمس كل جوانب الحياة فمما لا يختلف فيه اثنان أن أساليب التقويض للإسلام تتخذ صورا في غاية المكر والدهاء.

هل تعرفون شجر الصفصاف الذي ينمو على ضفاف الأنهار.. هذا الشجر يجمُّونه ويقطعون منه كل ما اشتد عوده ويُترك الصفصاف وقتا تنمو خلاله السوق الفتية الغضة ثانية ، فإذا خرجت من طورها الغض لتصبح قوية متخشبة يصعب كسرها أعيد قطعها وهكذا.

هذه طريقة من طرق حرب المسلمين في العالم ؛ كلما قويت شوكتهم حُصدوا ، وجُمَّت رؤوسهم ، وربما أصابهم الضعف الداخلي فصارت القوارض آكلات الأخشاب تصول وتجول ؛ تُقَصِّفُ لهم جذوعهم دون أن يقطعها أحد بل إن القطع المنظم أقل سوءا وضررا ؛ تنمو معه الأغصان الفتية أشد حيوية وأكثر قوة ؛ بينما التهاوي بسبب القوارض المعششة في الجذور أمر أخطر بكثير.

قوى الاستكبار في الأرض غيرت الطريقة ، لأن الجمَّ ما عاد يؤثر ؛ وجدوه زاد الأشجار حيوية للتعويض عما قطع منها ؛ زاد الخضرة تألقا وزاد نُسُغ الحياة تدفقا. ما عادوا يلحقون فغيروا الطريقة ؛ الطريقة الآن هي الاقتلاع من الجذور وليس الجم ؛ لتصبح الأرض صحراء قاحلة. هذا الأمر يُحتاج إلى فهمه ودراسته جيدا ، وصدق تعالى : ( ..ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )2.

هناك ما يسمونه : قوانين الحرب النفسية ، وما أدعوه السنن الربانية ، وإن طريقة التدمير المعتمدة على قوانين الحرب النفسية خطيرة جدا ؛ لأنها تزعزع من الداخل ، و الجهل بها يزيد الأمور سوءا.

يذكر أحد الباحثين أن الحرب النفسية لم تعد عشوائية وإنما مدروسة بشكل مخيف ، ويُضرب ستار شديد من الكتمان حولها من أجل عدم لفت انتباه الشعوب إلى الأساليب الجديدة لتحطيمها ، وتهدف الحرب النفسية إلى عمليات غسيل مخ طوعية وإلى التلاعب بالفكر ، وتغيير الإطار المرجعي للشخصية ، وتحويل الاتجاهات السلبية إلى إيجابية وبالعكس ، وتعدم المصادر الصريحة والمراجع الموثوقة حول الحرب النفسية ، ودولة مثل الولايات المتحدة تحرص على أسرار خططها للحرب النفسية ضد أمم الأرض المستضعفة أكثر من حرصها على أسرار أسلحتها النووية ! فأين ما أعددتم يا أمة محمد (..ود الذين كفروا لو تغفُلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ..)3.

وفي حكم المؤكد أن هناك قوانين علمية تسير الحرب النفسية الحديثة وتحقق أهدافها البعيدة والقريبة بأدنى كلفة وأغزر نتيجة وأقل جهد.

ونذكر على سبيل المثال قانونين اثنين يطبقان على صعيد المجتمعات :
القانون الأول: تتحول الاتجاهات العقلية للفرد من موجبة إلى سالبة والعكس صحيح إذا أخضع لظروف حياتية واجتماعية وفكرية معينة . مثال : قبل بضعة عقود لم يكن متقبلا في المجتمع أن يلجأ مدير شركة أو مصنع إلى طلاق زوجته المخلصة الوفية وترك أولاده لعلاقة غير محمودة مع (سكرتيرته). إدخال هذه الفكرة إلى عقول الناس مستحيل مباشرة لذا رأينا خلال السنين أن تسعين بالمائة من المسلسلات التلفزيونية العربية من المحيط إلى الخليج تركز على هذه الفكرة ، والكتاب الرديئون بعضهم طيبوا القلب مغفلون ينقلون بببغائية عجيبة ما عند أقوام ما في حياتهم الاجتماعية لنا من خير وبعضهم خبثاء ماكرون ، وقلة قليلة جدا تحاول طرح فكرة إيجابية.

ما هي النتيجة؟ صار الأمر عاديا في المجتمع وصحيح أن الملتزم بالدين يأباه ولا يرضاه ، ولكن المجتمع الذي هو التربة لكل التحولات أصبح بتأثير هذا القانون النفسي واقعا تحت تأثير أفكار مخربة ، وليست القضية بقاء ثلة ممن يأبون التعفن ، ولكن الموضوع دراسة التحول الخطير الذي طرأ على البنية الفكرية للمجتمع ككل. هذا القانون يسير بالطريقة التالية: مرحلة التعادل بين فكرتين ثم مرحلة تناقص فكرة لحساب أخرى ثم مرحلة الانهيار للفكرة الأولى لحساب الثانية ؛ وجهل الناس بالسنة أو القانون هو الذي فتح الباب لتغيرات سلبية ( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم )4 .

مثال ثان : موضوع سن المراهقة ؛ مازالت معاول التخريب بتأثير الثقافات الغريبة متضافرة مع الجهل الداخلي تعمل حتى أصبح أغلب الناس يتقبلون فكرة أن فترة المراهقة هي فترة التمرد والطيش وعدم الاستقرار ، وهذا صحيح في ضوء تربة منحرفة ؛ أما إسلاميا ففترة المراهقة هي فترة حيوية وحماسة ونشاط ؛ فترة بناء واستيقاظ وهمة ؛ فترة فهم وتوسع في المعرفة والعلم والمدارك ؛ فإذا لم يجد الشاب أو الفتاة من يتلقفه بالتربية والإرشاد ؛ لا في مسجد ولا مدرسة ولا صحيفة ولا كتاب ولا ناد ولا ملعب ؛ فماذا يكون مصيره إلا مثل عشرات الطلاب والطالبات الذين أصبحت الحدائق العامة ملاذا لهم في أوقات الدوام يتبادلون فيها رسائل وأحاديث الغرام ؛ بعد أن فقدت تربة المجتمع مكوناتها الغذائية الأساسية ، وما عاد وصلها ماء ولا ضوء ولا شمس ولا هواء ؛ قانون يستخدم خيرا أو شرا.. ولا تحصل الأمور عفويا ؛ بل هي نتائج قوانين تلقى في كل بلاد الدنيا للشعوب المسكينة التي تخدر بأن هذا من التطور الاجتماعي ، والسؤال دائما هو : لماذا لا يستخدم القانون في الاتجاه الإيجابي لا السلبي؟ لتتفجر طاقات الشباب إيمانا وهمة وخيرا ؛ بدل أن يتعلموا أن يعيشوا مثل الكائنات الدنيا التي لا تتجاوز وظائفها الأكل والشرب والنوم والتكاثر.. تتحول الاتجاهات العقلية للفرد من موجبة إلى سالبة والعكس صحيح إذا أخضع لظروف حياتية واجتماعية وفكرية معينة .

القانون الثاني : المؤثر الضعيف الآتي مباشرة عقب مؤثر قوي يبدو أضعف مما هو عليه في الواقع بينما يبدو المؤثر القوي المستخدم عقب مؤثر ضعيف قويا لدرجة لا تحتمل.

أمثلة : المعرفة مؤثر ضعيف والضرب مؤثر قوي ؛ فإذا أتى أستاذ بطالب فضربه ضربا شديدا ثم ألقى إليه بالمعرفة فان تأثير المعرفة يصبح أضعف ؛ عكس ما يتصور الناس : [ المؤثر الضعيف الآتي مباشرة عقب مؤثر قوي يبدو أضعف مما هو عليه ].

الطفل الذي يعيش في بيئة مدللة يعيش من خلال مؤثر ضعيف ، وعندما يدخل الحياة بخبراتها الصعبة وهي مؤثر قوي ما الذي يحصل له؟ ، تظهر رجولته الزائفة و يصاب بإحباطات هائلة فالمؤثر القوي وهو الحياة الصعبة المستخدم عقب مؤثر ضعيف وهو الدلال تكون آثاره قوية لدرجة لا تحتمل.

إذا فهمنا هذا فلننتقل إلى المستوى الأخطر:
التفكير مؤثر ضعيف ؛ التحطيم مؤثر قوي ، وعندما كان المفكرون والمثقفون العرب والمسلمون يفكرون بما ينبغي عمله لتنشيط الأمة العربية والإسلامية أتت حرب الخليج ، وبسبب السياسة الصبيانية لحكام العراق تداعت اثنتان وثلاثون دولة لتدك وتقصف وتدمر ، التفكير وهو مؤثر ضعيف إن أتى وراء مؤثر قوي وهو التحطيم يضحي التفكير أضعف بكثير. بل سبب الموضوع شللا فكريا لن تنتهي آثاره خلال فترة قريبة .

الرخاء الاقتصادي مؤثر ضعيف ، والأزمات الاقتصادية مؤثر قوي ، والدول الكبرى تتعمد أحيانا تيسير الرخاء الاقتصادي لبعض دول العالم الثالث للتحكم والسيطرة ؛ ثم تُوجد بعده أزمات خانقة ، والتقلبات الاقتصادية الحادة تؤدي إلى أن تعيش الأمم مثل الطفل المدلل ؛ تأتيها الأزمات الاقتصادية فتكون آثارها شديدة التدمير ، وعائقة عن النهوض الحقيقي ، ومقوضة لكثير من الجهود التي بذلت لإيجاد ُبنىً تحتية فعالة .

هذه أبسط القوانين النفسية ؛ تطبق على الأفراد والمجتمعات والدول والأمم ، وعدم فهمها يؤدي إلى أزمات وصدمات ، وينسف أي طريق للتصدي لها ، وأحد الأمور المخيفة أن يسير الإنسان في طريق يظنه موصلا إلى الهدف ، وهو يسير عمليا عكس المقصود ، وبزاوية مقدارها مائة وثمانون درجة ، ورحم الله إقبال إذ يقول:
لحظة يا صاحبي إن تغفل                    ألفَ ميل زاد بُعد المنزل
نحن في الواقع نقع في هذا دون أن ندري!
الحرب النفسية ضد الإسلام قد نشارك فيها دون أن ندري ؛ فهي حرب ماكرة ، وعلم واسع له قوانينه وأصوله ولا يمكن مواجهتها إلا بالابتعاد عن الانفعالية والفردية المزاجية ، ويحتاج التصدي لها إلى اجتماع الطاقات المكللة بالإخلاص والعلم والأخلاق.

نذكر مثالا عن كيفية مشاركتنا في الحرب النفسية ضد الإسلام بانفعالية غريبة غير سليمة! منذ حوالي سبعين عاما حاول عالم كبير أن يقيم كلية شرعية لإخراج أئمة ودعاة فقهاء لا يحفظون المتون فقط بل يفقهون القرآن ويستوعبون متغيرات الحياة ، وأراد منهاجا لدارس الشريعة فيه علوم كونية ومن المقررات اللغات الأجنبية ، والذي أحبط المشروع لم تكن جهة خارجية بل الجهلة الذين ظنوا أن الأمر مسيء للإسلام .

أحد النتائج لمثل هذه الغوغائية أن علماء المسلمين (في ذلك البلد) الذين يعرفون لغة أجنبية ويستطيعون القراءة في مراجعها أو التكلم بها بطلاقة ، لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين .

كيف نستطيع أن نفهم عدوا لا نستطيع قراءة مخططاته وأفكاره حتى لو نشرها؟ ، وكيف نستطيع أن تمد الجسور مع الأمم والمجتمعات لنحمل إليها ما لدينا من هداية ، وكيف نستطيع أن ندعو إلى الله أمما بلسان لا نفهمه. والله تعالى يقول : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم .. )5.

والذاتية عندنا طاغية كذلك ؛ وفي كثير من المواقف فليس عندنا ضمير جماعي فعال! رب العالمين يقول لنا:

( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) ، وبعضنا شعاره : رب أسألك نفسي ؛ حبنا كلف وبغضنا تلف ؛ نفكر من خلال قواقعنا الخاصة ؛ كما يروى أن إحدى الملكات أُخبرت بأن الشعب ثائر فسألت: ماذا يريدون؟ فقالوا: الشعب جائع ولا يوجد خبز ليأكله ؛ فاستغربت قائلة : إذا لم يجدوا خبزا فليأكلوا (كاتوه) .

أما المزاجية فهي شيء مخيف حقا! بعض التجار الذين لا يخافون الله يعلق ببعض العلماء سنين طويلة ، وعندما يأتي يوم ينبهه العالم فيه إلى منكر يعيشه يغضب (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ..)6 فسيره مع العالم مزاجية وليس طلب علم ؛ نفاق وضعف وضياع أخلاق ؛ لو كان صادقا لبكى كيف أمضى كل هذا الوقت وما عرف عيبه!

القوانين في الحرب النفسية لا تعني أنه لا يوجد لها حل ، ولكن حلها يحتاج إلى أمة يقظة لا فرد واحد يصرخ في واد وما من ملب وما من مجيب ، وأول مبعدات السقوط تحت وطأة الحرب النفسية هو : البناء الوقائي!

اقرؤوه في كتاب الله (وكذلك جعلناكم أمة وسطا ..)7 والمؤثر الضعيف والقوي لا يمكن للعدو التحكم بهما في الوسطية القرآنية ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا )8. الوسطية في كل شيء عامل أمان شديد ؛ ابتداء من الطعام وانتهاء بحفظ الدين وحماية الأوطان ، ورحم الله ذلك الرجل الصالح الذي قيل له كيف طعامكم قال : إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال وإذا فقدنا صبرنا صبر الرجال!

أما إن كان الوُجد إسرافا وتبذيرا وبطرا ، والفقد إحباطا وشللا وكفرا فهناك الدمار.

أيها الناس تقصيرنا ديدان تنخر جذوع أشجارنا ، لنكف ديداننا ، والله يكفينا الجم أو الاقتلاع ؛ إن فقهنا لا يستطيع أن يقتلع إيماننا وإسلامنا أحد ؛ إن اتقينا الله تفكرا وتدبرا ووسطية وسلوكا وعملا ؛ سلمت جذورنا وحفظ أبناؤنا وبناتنا ومجتمعاتنا وأمتنا.

لحظة يا صاحبي إن تغفل                  ألف ميل زاد بعد المنزلِ

لماذا ذكرنا كل ذلك لنقول وباختصار وصراحة : إن تجاهل المشاكل لا يعني حلها ؛ إغماض عيوننا لا ينهيها ، وإن كانت الصراحة لا تعجب بعض الاخوة والأخوات فليسمعوا إلى الإمام الجيلاني يقول: (لا تهربوا من خشونة كلامي ؛ فما رباني إلا الخشن في دين الله عز وجل) ، وعندما يأتيني أحد لا يفقه سبب الصراحة فسأقول له : إنها جزء من خطة نفسية لاقتلاع الديدان من نفوسنا ؛ مرة قال لي أحد الاخوة : كيف تكلمت على المنبر عن العادة السرية (الاستمناء) ، وأحلته في الجواب على القانون الثاني : المؤثر القوي الآتي مباشرة عقب مؤثر قوي لا يبلغ غايته. لقد أعطيت في تلك الخطبة مؤثرا قويا إيجابيا ، وقد لا يُفهم مباشرة ، ولكن عندما يصدمه مؤثر قوي آخر ، ولكنه سلبي فإنه لا يبلغ [أي المؤثر السلبي] غايته وتنكسر موجته ، ومن ظن ذكرنا للسلبيات مما لا ينبغي أثناء التعليم ، نقول له : إن ذكر تلك الأمور من منطق القوة والمعالجة والاحتواء يبني ولا يهدم ، وكفانا تقوقعا وذاتية في التفكير ؛ لماذا ندفن رؤوسنا في الرمال. إن الشاب أو الفتاة المسلمين عندما يستمعان إلى الأمور الشرعية بصراحة وضمن الآداب الإسلامية فإنها تبني في نفوسهم وقاية ، وأتحدى أي أحد إن لم يكن تحت سمع وبصر أبنائه وبناته كثير من الفساد وقد لا تكون معه الوقاية الكافية ، وليست كل الأمور تشرح هنا أيها الاخوة والأخوات ، وقوانين الثبات سلاح إن فهمناه فلن يفتننا عن ديننا كفرة ولا فجرة ولا يهود ؛ وتلك القوانين لا تكتب على الأوراق! القوانين تصان في الأعماق. (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)9 .. والإمام الغزالي لما سرقه اللصوص وضاعت كتبه اتعظ لما قالوا له :أي علم لك يبقى إن ذهبت أوراقك ؛ فعاد فجعل جميع علمه في قلبه..

فالنور في قلبي .. وقلبي في يدي ربي .. وربي حافظي ومعيني ..
مادام سرك في قلبك لا يهزمك أحد!

(ربنا أعنا ولا تعن علينا ، وانصرنا ولا تنصر علينا وامكر لنا ولا تمكر علينا ، واهدنا ويسر هدانا وانصرنا على من بغى علينا ؛ ربنا اجعلنا لك شاكرين لك ذاكرين لك راهبين لك مطواعين لك منيبين ؛ تقبل توباتنا واغسل حوباتنا وأجب دعواتنا ، وثبت حججنا واهد قلوبنا وسدد ألسنتنا واسلل سخائم قلوبنا) 10.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية : الحمد لله وبعد :

فياأيها الناس ما قصدي تخويفكم بل لفت نظركم.

رب العالمين تعالى لا يكذب ؛ سبحانه وتعالى يقول (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)11.. حققوا صفات الإيمان لا يصيبكم هوان ولا ضرر ؛ المؤمن كيس فطن ، والحسابات الرياضية تقون أن قوة المسلمين في وجه المتربصين بهم تساوي صفرا ؛ أما حسابات الإيمان فتقول غير ذلك.

مكنونات القلب بالإيمان مازالت مستعصية ، وستبقى في وجه المفسدين في الأرض.

فالفقه الفقه أيها الناس ؛ لا يرهبنكم ما يعيشه العالم الإسلامي اليوم من جم الرؤوس والأغصان أو اقتلاع الجذور! المتعفن من الشجر يذهب ؛ أما الجذر القوي فلا يقدر أن يقتلعه أحد.

قال تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أُكُلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار)12.

وصرح الإمام القاسمي أن المثل مضروب للحق والباطل في الثبات وعدمه.

وكم من جمَّام أحمق خسف به سلم كان يريد منه الوصول إلى الأغصان فسقط منشاره تحت عنقه فقطعه ، وكم من قلاع للخير.. أدخل سكة القلع فكانت أخشاب الجذور أقسى منها فكسرتها أو حبستها ، وكم من حقود ينسف الأشجار نسفا فتتعانق أبواغ الإيمان مع شمس العقيدة ونداوة الفطرة مع نسمات التوحيد ؛ فتخرج البراعم الخضراء من وسط الصخور لتعوض عن كل شجرة نسفت ألفا وألفا وألفا.

من الذي يقدر أن يقتلع الإسلام؟ وكل نظام يعادي الإسلام فإنما هو شجرة عفنة متآكلة ينخر فيها الفساد.. وإنما يستدعي تماسكه استدعاء ولكل أجل كتاب!

ويعجبني قول العلامة الغزالي إذ يقول : (ورغم كل المتربصين بمنارة الأمة فقد قررنا أن نبقى).

فلا تصهين من ضلوا بضائرنـا                      ولا التـأمرك يغرينـا بما يعد
إن فرقتنـا حدود لا بقـاء لها                          يظل يجمعنـا في الله معتقـد

كل الخطبة تمهيد! وبما أننا مازلنا نتكلم عن قصة نوح عليه السلام ، ووصلنا إلى بيته وأسرته فستغتنم هذه الفرصة لنفتح ملف الأسرة المسلمة بصراحة ففي غياب الإيمان عنها تكثر الحشرات والقوارض والديدان.

وقد يتساءل بعض الاخوة والأخوات عن بعض الأمور ، فكانت هذه الخطبة مقدمة من فقهها أدرك ما بعدها ،
وصدق الهادي صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقول: (احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله قد جف القلم بما هو كائن فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا وأن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا)13.

اللهم صل على محمد وآل محمد وصحب محمد إلى يوم الدين …

 

- ألقيت هذه الخطبة بتاريخ الجمعة 21ذو القعدة 1415هـ الموافق 21 نيسان 1995.
الإحالات :

1- الزخرف 43.
2- البقرة 217.
3- النساء 102.
4- الأنفال 53.
5- إبراهيم 4.
6- البقرة 206.
7- البقرة 143.
8- الإسراء 29.
9- آل عمران 139.
10- الأصل بصيغة المفرد وهو في الترمذي ، الدعوات 3803، وقال حديث حسن صحيح.
11- آل عمران 139.
12- إبراهيم 24-26.
13- أحمد ، مسند بني هاشم 2800 وسنده صحيح ، و رواه الترمذي ، صفة القيامة والرقائق والورع 2516وقال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف من خطب الجمعة, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.