سورية تستحق الحياة

النص العربي للمقال الذي نشره موقع CNN بتاريخ الاثنين ٨ نيسان ٢٠١٩

ليس سهلاً ابداً التعامل مع وضع معقد ساهم في إشعاله يوماً أكثر من أربعين ألف مقاتل أجنبي حظيت داعش بأكثرهم، وأكثر من مائة ألف مقاتل تابعون لميليشيات إيرانية غير نظامية، هذا غير القوات الحكومية والاستخباراتية لعدة دول؛ بالاضافة إلى مآس إنسانية مريعة في العديد من مخيمات اللاجئين منها سرقة أكثر مواد الدعم من قبل إدارات فاسدة تجعلك ترتعد عندما تسمع كل بضعة أيام عن أم قتلت اولادها او أحرقت نفسها من الذل والفقر والجوع، أو موت عشرات الأطفال من التجمد بالبرد.

‎لايعلم أحد كم ستكلف السوريين تصفية الحسابات الإيرانية الاسرائيلية، أو التركية الخليجية، وصولاً إلى الأميركية الروسية، كما أن حروب إعادة الإعمار يعلو صوتها مع الوقت وقد يطغى على ضجيج ما تعد له روسية من هجوم عسكري متوقع خلال شهر نيسان لمنطقة إدلب التي تعتبرها الأخطر، بعد أن نفذ صبرها من المماطلات السياسية.

‎هناك خندقٌ عميقٌ بين كل المقترحات السياسية (بما فيها مقررات جنيف) والواقع المعقد على الأرض، ولايبدو أن الحل السياسي قريب وعوض التركيز على هيئة حكم انتقالي بديلة عن الحكم الديكتاتوري تم إلهاء السوريين بتشكيل لجنة أغلبها من غير المختصين لوضع دستور جديد، لن يجيب بحال عن سبب تعذيب المهندسة ليلى الشويكاني (الأمريكية من أصل سوري) حتى الموت، أو لماذا يُمضي أقدم سجين في العالم الطيار رغيد الططري عامه الثامن والثلاثين في سجون النظام دون أية محاكمة عادلة.

‎يضع الروس في وجه المعارضة السياسية تحدياً مرهقاً للمشاركة في انتخابات رئاسية بعد عامين، بينما تنهمك المعارضة بتقسيم المقسوم بحثاً عن فتات لكراسي محطمة، ويبدو عدد من أجنحتها في مؤتمرات الآستانة وسوتشي مجرد صدى لإرادات إقليمية أكثر منه خطاً وطنياً.

‎أما داخل سورية فالبؤس منتشر بدرجة لاتصدق في كافة المناطق، وتعاطي المخدرات والجرائم يزداد، والفلتان الأمني يصعب رصده، وحسب دراسة رصينة قام بها عبادة دياب فإن أربعة وأربعين بالمائة من أطفال سورية لم يتلقوا تعليماً كافياً بسبب الحرب، ويبدو النظام متجهاً إلى التآكل، وتوضح مواقع التواصل الاجتماعي حجم الاحباط والخيبة من كثير من الموالين للنظام بعد النصر المزعوم الذي أعلنه عندما كسب أراض واسعة، و لكنه خسر معظم السوريين حتى الموالين له والذين يعجز عن تقديم أي شيء لهم، ولايبدو الوضع أفضل في مناطق الثوار فالجهات الوطنية المدنية عاجزة عن فعل شيء فلا دعم كاف لها مادي ولا حتى إعلامي بين طوفان من فصائل عسكرية نهمة للنفوذ والمال وجعلت رئيس وزراء حكومة المعارضة و أحد الشجعان الوطنيين الدكتور جواد أبو حطب يقدم استقالته تحت ضغوط قاتلة من كل الاطراف.

‎كل القوى المتعاكسة تحاول كسب الأوضاع لصالحها، وحتى الحلفاء (الروس، الأتراك، الإيرانيون) هناك خلافات عميقة بينهم وسيأتي وقت استحقاقها.
‎تريد تركية ضمان أمن حدودها لذلك تسيطر على شمال سورية، ويسعى الأكراد إلى كيان مستقل، وتريد روسية أن تعوض بسورية عن خسائرها في العراق وسورية وحتى أوكرانية، أما الولايات المتحدة فبقائها مرتبط بجدية تهديدات داعش، والتمدد الإيراني، بينما يتصرف الإيرانيون ضمن خطة طويلة، ويحاولون من خلالها التعويض عن تحجيمهم العسكري للوصول إلى البحر المتوسط، بنفوذ سياسي وتغلغل اجتماعي تصعب مقاومته، أما داعش فحسب عزيز أحمد في نيويورك ريفيو ديلي ١٣ شباط فإنها تعود وتنظم صفوفها في العراق، وهو ماحذرت منه أجهزة أمنية في مؤتمر ميونيخ الأخير، كما يعمل الاسرائيليون بلا كلل لضم الجولان إليهم، وقد تتحول سورية إلى محضن لتوليد مواجهات استراتيجية للولايات المتحدة ضد الصين وروسية.. أما البريطانيون والفرنسيون وحتى الإيطاليون فيريدون وضع اقدامهم ضمن قواعد عسكرية، وآخرون بدزينات من الجنود.

‎بعض المبعوثين الدوليين عملوا مجرد مراسلين للبريد دون أي إبداع، و كان أداؤهم مخيباً للغاية وهناك من دارى إرادات الدول المهيمنة على سورية ولم يطرح أية رؤية تساعد السوريين لتجاوز الواقع المعقد هناك.

‎خطاب بشار الأسد قبل أسابيع تبدو كل المصائب معه بدهية وطبيعية والهتاف الحماسي لم و لا يكفي لترقيع وطن يتمزق ولا تستطيع زيارة الأسد لإيران بشكل بعيد عن المعتاد أن تنقذ البلاد من هاوية يمكن للنظام أن يتهم بها أي أحد إلا الديكتاتورية التي حكمت سورية خمسين عاماً بالحديد والنار.

‎قصف خان شيخون وسراقب وغيرها بشكل وحشي لن يحل المشكلة، و تجارب رواندا وحتى البوسنة وصولاً إلى بولندا لا يمكن استبعادها وقد تكون ملهماً لحل معقول فالطاولة المستديرة البولندية التي جمعت جنرالات الأمن مع قادة نقابات العمال لا تزال خياراً بحاجة للتفكير ولم يطرح بجدية في الكارثة السورية، و قد يكون حجم المأساة باعثاً لقيادات داخل النظام لكسر خوفها لتلتقي مع قيادات معارضة في لقاء مصارحة وبحث عن رصيف للنجاة قبل أن تختفي سورية.

‎يمكن لمثل هذا المقدمات التفاوضية أن تضع الأساس لتحقيق الاستقرار من خلال إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وإصدار عفو عام، وضمان بيئة مناسبة للمحادثات السياسية. وفي الوقت الذي تستوعب فيه المخاوف الروسية بشأن الانهيار التام للدولة، فإنها ستعيد هيكلة الأجهزة العسكرية والاستخبارية. يمكن أن تتبع الانتخابات البلدية، تليها الانتخابات البرلمانية تحت المراقبة الدولية، مما يسمح للسوريين في النهاية باختيار دستور جديد. يمكن للبرلمان الجديد أن ينتخب رئيسًا جديدًا، يحل المجلس السابق للانتقال ويؤسس عملية عدالة انتقالية، لمساعدة سوريا على مواجهة الجرائم المرتكبة أثناء الحرب، ولجنة للحقيقة والإنصاف لتمهيد الطريق لفجر جديد لسورية.
‎لماذا يوافق الأسد على أي من هذا؟ ربما لن يفعل ذلك، لكن رعاة النظام، وخاصة روسيا، لديهم مصلحة في الضغط عليه للانضمام إلى هذه المبادرة التي تنقذ ماء الوجه قبل أن تتفكك سوريا تمامًا.

‎هذا التوجه عماده تواصل وطني يعيد الحياة لبلد تحت الاحتضار، و وحده من سيوقف الانهيار، ويشجع العقول المهاجرة ورؤوس الأموال السورية للعودة لبناء بلدهم وإعادة الإعمار، والتعاون مع الجهات المهتمة ضمن شراكة ندية دون السماح بالهيمنة الاقتصادية لأية جهة أو دولة.

‎مهمة السوريين ليست سهلة، ولكن يعرف السوريون بروح المبادرة والحيوية، وهم بالتأكيد يستحقون رؤية بلدهم يعود إلى الحياة.

أحمد معاذ الخطيب
الرئيس الأسبق للائتلاف السوري

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف الثورة السورية, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.