ما لم تذكره الدروس (ليس الانتصار بديلاً عن الحرية) ..

من الأعماق تحركت الأمة ، والمرابطون المحاصرون هناك صبروا ، فتقدموا مستحقين للإمامة ، ونزيف الدم الأحمر لم يدع قلباً حياً إلا وأيقظ فيه إيماناً ، ومن عيون الأطفال المحترقة بالفوسفور الأبيض [الإسرائيلي – الأميركي] أبصرت الأمة مالم تبصره خلال قرون ، ومن نذالة الفراعين بدأ مخاض الحرية ، وهناك من وسط  النار واللهيب والألم والرعب والقصف والدمار  والحصار ، ولدت الإرادة ، وتدفق طوفان مقاومة عنيدة ، ومن بين الركام شمخت الجباه ، وارتفعت راية عزة من غزة.


لا يعجبني في أي درس أن يكون محدوداً بخطوط الحكام ، في أي بلد كان ، وآمل أن تكون هذه الكلمات حرة ، فأرض الحرية لا يمكن الوصول إليها بكلمات ملتوية ، ودروس النصر أعظم من أن تستوعبها المقررات والقراطيس ، والكلمات لا تحمل إلا مجرد اختصارات لم يدندن عليها الكثيرون ، وأبى العشق أن يكون مكتوماًَ فخط هذه الحروف ..

1- عاد إلى الجهاد توازنه الشرعي ، فبينما اتجهت بعض الجماعات الإسلامية إلى فكر جهادي تصادمي مع العالم كله ، جاعلة الأرض كلها دار حرب ، وهو أمر مرفوض شرعاً وواقعاً ، نحت جماعات أخرى إلى تهميش فكر الجهاد وإحالته إلى معانٍ استهلاكية تناسب أوقات الرخاء لأمة مقهورة في الأعماق ، فصار الجهاد رسائل SMS [1] وزراعة للنباتات على الأسطح الفارغة (في بيئة تعاني شح المياه – ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) وتنظيفاً للطرقات ، ونوعاً من الدعاء الاستهلاكي والتفريغي الذي لا تذكر فيه نصرة المجاهدين ولو مرة واحدة.

معركة غزة كانت وضعاً جهادياً نموذجياً ، فبعد حصار منهك ، واعتداءات مستمرة، ومكر سياسي، وتآمر دولي ، لم يكن هناك بد من كسر الحلقة بفعل جهادي مباشر،هو أقرب النماذج إلى الجهاد المتوازن.

2- استيقظ الفعل الجماعي في الأمة (كأمة) بشكل غير مسبوق ، وهذا دليل على أن آليات الحركة لدينا قد جمدت، ولكنها ليست ضائعة، وبالتالي فإن إدراكها هو الذي فعَّلها ، وتجب العناية بتجذير الصيغ التي تدفع الفعل الجماعي إلى الاستمرار والوجود المستمر والمؤثر ، ورغم الغياب الرسمي للأنظمة العربية ، إلا أن دولاً معدودة عوضت النقص بكفاءة عالية ، وأحرجت كل المنظومات السياسية ، فسورية أولاً ثم قطر[2] فإيران فالسودان (رغم كل أزماته) قدمت دعماً مادياً ومعنوياً واستراتيجياً كان له دور فعال جداً. وتركية دخلت المعركة السياسية والجماهيرية بكل ثقلها، ورئيس وزراء ماليزية يطالب باستبدال الدولار بعملة أخرى.

ولأول مرة تتقاطع التصورات في إدراك خطورة المعركة ، بدءاً من تنظيم القاعدة ، وختاماً بحزب الله ، رغم التباعد المعلن بين الخطين ، إذ أن الإدراك لتعرض الأمة للخطر برز بشكل استثنائي فيما يتعلق بغزة.

3- رغم أن غزو العراق استنفر كثيراً من الشعوب والقوى الإنسانية في العالم إلا أن قضية غزة حركت شعوب الأرض ، ولو كان الإعداد والتمكن الإعلامي أقوى وخطاب المقاومة أكثر تواصلاً مع الأبعاد الحضارية والإنسانية للأمم الأخرى ، لأدى ذلك إلى نتائج هائلة على المستوى العالمي، إلا أن ماوقع بداية تفاعل إنساني عفوي موفق ، ويجب الاهتمام برعايته وحشده ، من خلال آليات عديدة منها وفقط للمثال : دعوة طلاب جامعات العالم إلى زيارة القطاع ، والعيش فيه لأسابيع وكتابة التقارير الإعلامية والإنسانية عنه [يندر أن يتخرج طالب غربي يدرس العلوم الإنسانية والاجتماعية ولا تكون الجامعات الإسرائيلية قد استضافته مرة أو أكثر ، زارعة فيروساتها الفكرية فيه ، مما يدعونا للحيرة أمام النفوذ الصهيوني الذي لا ندرك كثيراً من آلياته] ، وهذا يدعو إلى إدراك قضايا الشعوب الأخرى واهتماماتها ، والمشاركة في نصرة قضاياها العادلة (فنزويلا ، ورئيسها الشجاع تشافيز مثال جلي عن التفاعل ، ووجوب التفاعل المتبادل). ومعرفة ما تقدمه المنظمات الإنسانية والطوعية ، وما تحمله نفوس الناس من الإنسانية التي عبر عنها الكثيرون من الأطباء المتطوعين ودعاة حقوق الإنسان والمفكرين والفنانين وغيرهم ممن استيقظ فيهم البعد الإنساني بشكل عميق ، وودت لو أن شهيدة الأيتام والأرامل والبيوت المدمرة في فلسطين ، الطالبة الأميركية راشيل كوري ، التي سفك دمها وهي تصد الجرافات الإسرائيلية ، قد تم نشر قصتها على أوسع نقاط ، وتم إيقاظ شعور البشر الأحرار في العالم من خلال تضحيتها وأمثالها.

4- أثبتت المعركة أن الإسلام أعظم راية مما نظن ونحمل ، وعندما يتسع بين أيدينا ويتحرك من خلال خطاب أوسع ، فإنه سيقرب إلينا (ولو كموقف)  أكثر البعيدين من بني قومنا مهما كان توجههم (استنفر للمعركة وابتهج للنصر كل من في قلبه خير ، فرأيت الكثير من القوميين والاشتراكيين والعلمانيين ، بل والشيوعيين يتواصلون مع القضية .. فضلاً عن المثقفين والفنانين والمسرحيين بل والمغنين .. ) ، وهذا أمر يجب الشكر عليه وتعميق معادلاته ، والاستفادة منه في إزالة كثير من التوترات الفكرية التي أبعدت الكثيرين عنا ، بسبب أخطاء عديدة قد يكون لنا النصيب الأوفى منها.

5- يملأ القلوب أمل بأن تذيب المعركة الجليد ، بشكل أو آخر بين بعض الحكومات وقوى المعارضة الإسلامية ، وقد كان من الغزل السياسي وبعد النظر أن تصدر جماعة الإخوان المسلمين في سورية قراراً بإيقاف كافة الحملات الإعلامية على النظام السوري ، إدراكاً منها لدوره الهام والخطير في نصر المقاومة الإسلامية ، وفي الحقيقة فهناك أمر لم يتكلم عنه الكثيرون ، وأجد من الضروري شرحه قليلاً ، دون التفات إلى ما أسميه إرهاب العوام الذين لا يقبلون إلا بالتماهي أو الصدام ، وأقول : لقد حاولت بعض الأنظمة السياسية اللمز والطعن المعيب بدور سورية في المعركة متهمة إياها بمجرد التلاعب اللفظي وبيع الكلام  وأنها تلقي اللوم على الآخرين وهي لم تقدم شيئاً عملياً، ورغم أنني اضطهدت في أبسط حقوق الإنسان في بلدي الحبيب سورية ، ولكن للحق والحقيقة أقول امتثالاً لقوله تعالى (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) أن دور سورية لم يكن أبداً دوراً كلامياً ، وصحيح أن كلمة الرئيس بشار الأسد كانت الكلمة الأقوى والأشد تأثيراً في مؤتمر القمة العربية المنعقد في الدوحة ، ولكن بعدها العملي كان أعمق بكثير، وشهد قائد المقاومة الأخ خالد مشعل بدور سورية وقال بالحرف[3] : إن سورية رئيساً وعلماء وحكومة وشعباً شريك أساسي في النصر.

وليس سراً أن الساحة السورية هي الساحة الأولى والأكثر فاعلية وحزماً في الموقف مع مرونة سياسية فائقة ، ولولا العمق الاستراتيجي السوري للمقاومة الإسلامية في فلسطين ، وقبلها المقاومة الإسلامية في لبنان لانتهى فكر المقاومة في المنطقة وإلى آماد بعيدة ، وهذه نقطة إيجابية عظيمة لا يمكن القفز فوقها إلا في حالة التماهي مع المشروع [الإسرائيلي] ، ورغم أية ملاحظات قد تقدم حول إشكاليات معينة ، إلا أن وحدة القضية تستلزم أن تتجه المعارضة بوعي نحو النظام ، وأن يفتح النظام صدره للمعارضين إسلاميين كانوا أم علمانيين أم دعاة حقوق إنسان وضمن صيغ توفر كرامة الدولة وتحفظ حقوق الإنسان وتسعى إلى درء كافة أشكال الفساد، مما يحتاج إلى حديث طويل.

6- ليس سراً أن الإعداد الإيماني والنفسي ثم التقني والمخابراتي والعسكري ثم الإعلامي قد تم بذل أقصى الجهد فيه (مهما كان بحاجة إلى استدراك) ، ومن أمثلته أن تدمير [إسرائيل] لمقر قناة الأقصى ، ثم التشويش عليها ، قد قابله اختراق المقاومة لإذاعة الجيش الذي لا يقهر، وإعادة بث الأقصى خلال فترة مذهلة ، وهذا الإعداد أبعد الارتجال المزري الذي تميزت به فترات ممتدة في تاريخنا القريب ، وأهم منه تلك الأبعاد المتوازنة التي حفت خطاب قيادة المقاومة ، وخصوصاً إسماعيل هنية ، نموذج القائد المسلم الذي يسع فكره وقلبه جميع الناس ، إمام صلاة التراويح ، وصاحب الدعاء الضارع ، والذي هو نفسه من يخاطب مسيحيي فلسطين بمناسبة سنة جديدة ، ويوجه رسالة عاقلة ودقيقة إلى رئيس الولايات المتحدة أوباما ، وذلك كله فقه عميق وكفاءة عالية ، والفعل الناجم عن هذا الإعداد هو أكبر ضمان لنشر  فكر متوازن يمشي في الساحة بفاعلية حقيقية وموقف واقعي ، يتفهم مقاصد الدين ويعايش واقع الناس ، مما يقلص [بالفعل لا بالإكراه] كل فكر خرافي ديني أو سياسي يمتد في المنطقة مشاركاً في التخدير ، وكذلك يحد من كل فكر تكفيري صدامي يقفز فوق الحقائق الشرعية والحياتية ويعيش في قالب خيالي حالم لا نتيجة له إلا الخراب الحضاري.

ماتزال المواقف كثيرة ، ولكن لن نستغرق في شرحها لطولها ، رامزين لها وداعين إلى اليقظة الذهنية لإستيعابها ومنها:

-    عاد النموذج القيادي الاستشهادي الذي يهز الناس من الأعماق ، ويعطي الصورة الحق للقدوة ، وتوَّجَهُ القائد سعيد صيام أول وزير داخلية عربي يستشهد في معركة … والقائد نزار ريان رحمهما الله .

-          لأول مرة تجرؤ جهة عربية- إسلامية على رفض قرار لهيئة الأمم المتحدة ومجلس أمنها [المحبوك صهيونياً].

-         استخدمت المقاومة سياسة الأمر الواقع وهو أمر لا تستخدمه إلا القوى الكبرى أو شديدة الثقة بما لديها.

-    انكسرت عتبة الخوف لدى الملايين ، وتراكم رصيد جهادي هائل سيمد الأمة بالرجال والطاقات لعشرات السنين.

-    زاد تجوهر الفكر حول المقاومة وستبرز الأيام حركات تحرر لا من الاستعمار العسكري للعالم الإسلامي ، بل من الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية كذلك.

-    انحسرت ولمدة طويلة آثار الحت الإعلامي والفكري الذي تمارسه المنظومات التربوية والإعلامية الماكرة محلية أو دولية ، ومابني خلال سنوات تم كنسه خلال أيام ، وسيكوِّنُ ممانعة هائلة في وجه محو هوية الأمة.

-    تحول فقه المقاومة إلى مجتمع وليس إلى حركة ، وهذا يعني عدم انتهائه ، وبرزت صور من الثبات والصبر والتحمل والاستشهاد والبذل تحتاج إلى مجلدات لروايتها.

-    تحرك التكافل المعنوي والمادي بشكل متقدم جداً ، وانهالت التبرعات ، وصار الكل يبحث عن دور له في مجريات الأحداث ، مما أذهب حالة الاكتئاب الحضاري ، والانكسار الاجتماعي الذي حف المجتمعات العربية على يد الأنظمة التسلطية.

-    أبرزت المعركة ضرورة الصلابة العملية على الأرض والمناورة بالغة الحكمة في التعامل السياسي ، وهو أمر غاب عن كثير من الحركات الإسلامية المعاصرة ، حيث اعتمد منهج صدامي ، أو تم الذوبان في المشاريع الدولية ، والجمع بين الصلابة والدراية السياسية لدى المقاومة سبب تحاشي الصدام مع الأنظمة العميلة (لا توفيراً لها) بل لأن هذه الطريقة تجعلها تكشف نفسها بنفسها وهناك معلومات مؤكدة أن بعض الأنظمة العربية زاد من تورط [إسرائيل] في عملية غزة ، عبر الإيحاء لها بسهولة الأمر وضرورته!

-    أثبتت المعركة وبشكل جلي هشاشة الخطاب الديني الرسمي المرتبط بالحكومات (وهو أمر سوف نتكلم عليه في مقال منفصل عند تحليل الخطاب الديني وقت المعركة)  وكل المواقف الفعالة إنما صدرت من الجهات التي تملك حرية نسبية في القرار .

-    من النقاط شديدة الأهمية ماعم الأمة من موج إيماني هادر وحالات من الانكسار والافتقار والتضرع الصادق ، مما أعاد توليد كثير من المعاني التي كادت أن تخفت.

-         بدأت الأمة تفكر بالمرحلة القادمة ومستلزماتها الحضارية وما ذا ينبغي أن تعد لها.

-    وأخيراً نقول : لو كانت بلاد العرب والمسلمين تحظى بحظ أوفر من الحرية لا نقلبت المعادلة ، وانتهى الليل الطويل ، وهذا يجعلنا نؤكد للكل أن الانتصار ليس بحال بديلاً عن الحرية.

أحمد معاذ الخطيب الحسني

دمشق : الأحد 6 صفر 1430هـ / 1 شباط 2009م


[1] - لا نعترض على استخدام كافة الوسائل لنصرة القضية ، والاعتراض هو على التحايل الواقع من خلال تصوير الجهاد كمنظومة تقع تلك الأفعال في قمتها ، وتغني عن باقي مكوناتها.

[2] - تيقى في النفوس حيرة تجاه بعض الأنظمة التي تقوم بأدوار إيجابية رائعة ، مع وجود ملاحظات جذرية على توجهاتها ، وهذا أمر يجب درسه بعمق ، وإدراك معادلاته ، وتفعيله باتجاه إيجابي.

[3] - اثناء لقاء لبعض العلماء معه في دمشق ، يوم الجمعة الماضي

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كلمة الشهر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.