التيارات الفكرية السائدة في العالم الإسلامي

د. أسامة القاضي*
إن هذه العجالة تدرك مُقدماً صعوبة التقسيمات الحدية فيما يخص الشأن المعرفي، فالتداخل في الأفكار والمنظومات الابستمولوجية يستحيل معها بناء حواجز دقيقة يتميز بها تيار على آخر، وتستعصي عندها الدراسات الكمية التي يمكنها أن تعطي تصوراً شبه مادي عن اتساع رقعة تيار على حساب آخر، وهذه قاعدة لا تشذّ عنها التيارات الفكرية في العالم الإسلامي. ورغم هذه الصعوبات إلا أن الكثير من المفكرين خاضوا هذا الغمار بجرأة، ولايستطيع أحد أن يقدم تقسيماً على آخر بدعوى الصواب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولكن هي في معظمها مقاربات تسعى لإعطاء تصور أفضل عن التضاريس المعرفية في العالم الإسلامي، مما يتيح فهماً أعمقاً لها ويرشد للطرق الأنجع للتعامل معها. فأحال المفكر المغربي عابد الجابري هذه التيارات إلى ثلاث عوالم: البيان والبرهان والعرفان كما أحالها المفكر البحريني جابرالأنصاري إلى ثلاث عوالم أخرى: السلفية والتوفيقية والرفضية، وغيرهم كثير.
أريد أولاً التأكيد على أن هذه الورقة تتحدث عن المهتمين بالمسألة الثقافية أو المنتمين طوعاً للذات الحضارية والذين يشعرون بالهمّ الحضاري، ولكن ليس بالضرورة أنها تتحدث عن “اللامنتمين” للذات الحضارية أو غير الجادّين، أو غير المهتمين أصلاً بهذا الجدال المعرفي.
إن هذا البحث يؤمن أن التيارات الفكرية التي تقتسم الخارطة المعرفية في العالم الإسلامي طبقاً لتركيبتها المفاهيمية لا تعدوعن كونها واحدة من خمسة تيارات ينبثق عنها تيارات متفرعة تصل إلى اثني عشر وهي تختلف بحسب أدواتها المعرفية، وأدوات التغيير التي تتبناها، وأساليب الدعوة التي تطبقها، ودرجة الفهم، وتصورها للحلول، ونوعية القراءة، وتعاملها مع الآخر، وأخيراً تعاملها مع الواقع المعاش.

1-“التيار الخوارجي” أو ” تيار نفي الآخر”
ويتمثل في إقصاء الآخر سواء كان هذا الآخر من داخل أو من خارج الإطار المعرفي الإسلامي.
ورغم أن فرقة الخوارج تاريخياً بدأت كفرقة ظهرت أواخر العقد الرابع من القرن الأول للهجرة عقب خروجهم على عليّ كرم الله وجهه إثر قبوله بالتحكيم في شأن الخلافة التي آلت لمعاوية، وتبنت هذه الفرقة فهماً سقيماً نصيّاً، سِمَته العنف والإقصاء الجسدي، لكنه انسحب بعدها الحكم بالـ “خوارجية” على كل من خرجَ على الحاكم وكل من كّفره.
هذه العجالة تعتبر العقلية الخوارجية هي كل عقل يخرج على حدود الموضوعية ويقرر إلغاء الآخر بل تصفيته جسدياً بغير وجه حق، ويقسر الآخر بالعنف على تبني رأيه.
إن أساليب التغيير التي يتبناها هذا التيار هي ثورية بالدرجة الأولى، وتباشر التغيير بـ”اليد” التي هي أقوى الايمان، وسمة دعوتهم الأساسية هي المباشرة بالتصريح، وليس التلميح، أو النمذجة المقنعة.
أُقفل باب الاجتهاد لدى هذه المدرسة بأغلظ الأقفال، وعندهم السلف لم يترك شيئاً للخلف، ولا حاجة لإضاعة الوقت في إعمال العقل الذي يجب أن يهتم في تصحيح عقيدة الأمة طبقاً لفهمهم، وهم يتمتعون بأعلى درجات الرضا عن النتاج المعرفي التاريخي، لذا فإنه من الطبيعي أن تكون قراءاتهم تراثية محضة، ويتميزون بإقصاء مخالفيهم من حيث القراءات التراثية، فلديهم انتقائية واضحة في التعامل مع المقروء التاريخي، ومن باب أولى المعاصر.
بالنسبة للتعامل مع الواقع المعاش فإنهم يتأرجحون مابين “جلد الذات” وتكريس إحساسهم بمسؤوليتهم عن فشل الأمة في ماضيها وحاضرها، إلى “قتل الذات” واتباع كل أساليب التغيير الجذري والثوري، وأما الآخر المخالف فهو يمكن أن ُينعت بنعوت تبتدأ بالتكفير ولا تتوقف عند الاستغراب والعلمانية والاعتزالية. أصعب ما يلاقيه أبناء هذا التيار هو في التعامل “بواقعية” مع الواقع المعاش، ويكون ذلك في الغالب باعتزال العالم وإنشاء نماذج غير جديرة بالحياة أو النمذجة، تحيا بعيدة عن أي تيارات فكرية أو تجديدية في العالم.

2-التيار الوجداني (صوفي)
هذا التيار له تقاليدٌ في تقديم الوجدان وما تهواه القلوب على ماصح عقلاً ونقلاً، وأصحابه يؤمنون بأن “المقبول قلبا”ً مقدمٌ على “المقبول عقلاً”، والمقاربات تجري باستمرار ما بين المقبول شرعاً والمقبول قلباً. ورغم الشذوذ أحياناً والشطط أحياناً أخرى، إلا أن اصحاب هذا التيار لا يستغنون عن الغطاء الشرعي الضعيف “نصاً” أحياناً والهزيل “سنداً” في أحيان أخرى، وذلك في سبيل إرضاء القلوب المتعطشة “للحب الإلهي”، وعندهم كل شيء يهون طالما أنه يعين المريد على طريق “الفناء” في الذات الإلهية.
التغيير الواقعي للمؤسسات السياسية والاقتصادية والفلسفية ليس هدفاً يُسعى إليه، فهُمْ غير ثوريين بالطبيعة، لأن العبد إذا حقق العبودية المطلوبة من الإكثار من الأذكار، وتواصل العبادة فإن أمره في خير، وما على المريد إلا أن يؤمن بالشعار القائل “سلّم الأمر إلينا فنحن أولى بك منك”، لذا فإن درجة الثورية شبه منعدمة في هذا التيار وإن الطرق السلمية، والدعاء حتى للمستبد، هو أمر محمود على أمل أن يهديه الله ويرده إلى صوابه، فدعوى التغيير لديهم غير مباشرة، أو مباشرة بلطف الموعظة.
لذا تجد أن معظم أنواع السلطات المستبدة في العالم الإسلامي تُشجع ازدياد عدد الحلقات والزوايا والتكايا، لا لحبهم للمتفانين في “الحب الإلهي” ولكن لأن أهداف هذه المجموعات محض أخروية وتحّملها ومصابرتها على الظلم عالية جداً لما تأمله من الثواب في الدار الآخرة.
باب الاجتهاد عند هؤلاء إما مغلق نهائياً أو أنه محصور بما قيل، وإعمال العقل واستحداث آراء جديدة هو “خروج عن الأدب” ومنهي عنه، اللهم إلا أن يكون هامشاً على تفسير، أو قراءة تُضيف البركة والإعجاب بما سبقها من أقوال، خالية من أي نقد للمطبوعات “المنـزهة عن النقد” أو التحليل الجديد، فما قد قيل اكتسب قدسية التاريخ والتي في الغالب تحمل صفة “الكمال”. والقارئ المعاصر بما يحمله من آثام، والتي في غالبها يعود سببه إلى أنه يعيش خارج الإطار التاريخي المقدس “شبه الخالي من الآثام” وبسبب انغماسه في “المعاصر” لذا فقد “تلوث بآثام اللاتاريخ أو المعاصرة”، ذنبه أنه يعيش عصره لا عصر غيره من “المقدَسين”.
إن هذا الإحساس المفرط بعقدة الذنب والإحساس بالابتعاد عن الكمال الذي “حظي به السلف” والشعور بالتفريط في جنب الله، يتصدر أولويات “الوعي” عند هذا التيار، و “جلد الذات” مقدمٌ على “فهم الذات” الذي يكون ديدنه البحث في العمق عما يعيق الأمة عن تقدمها في محاولة الخروج من أزماتها.
يسعى أرباب هذا التيار إلى إفهام الُمريد “المُخلص” أن مدخل تغيير العالم ليس الأخذ بأسباب نجاح الأمم، وأن “الله يمد هؤلاء وهؤلاء وما كان عطاء ربك محظورا”، آيةً تفيد معنى الاستدراج لهذه الأمم، وأن على المريد ألاينبهر بـ”زخرف الدنيا” عند من أخذ بأسبابها، أو يُؤخذ لبّه بما يرى من فارق مدني، وصناعي، وزراعي هائل بين العالم الإسلامي وغير الإسلامي، فجنّة العبد هي قلبه، وليس هذه التمظهرات البائدة إلا حجّة على أصحابها، وأن التركيز كلّه يجب أن ينصبّ على “المدخل التربوي” لتغيير العالم.
يتم تصوير الإشكالية الأساسية في الإجابة عن أسئلة من مثل “لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم” لأتباع هذا التيار على أنها هي مشكلة “الأدب مع الله” لا الأخذ بأسبابه في الأرض، رغم أنه يصحّ عقلاً مراعاة الحفاظ على الأدب مع الأخذ بالأسباب، فلا تعارض بالضرورة بينهما، ولا يوجد داع لخلق نوع من “التناقض المفتعل” بينهما كأنه انعدمت سبل التقريب، لكن الحقيقة أنه هو نوع من “التثبيط ” غير المقصود في كثير من الأحيان عن القيام بإعمار “المباني ” على حساب بناء “المعاني”.
لا شك أن طبيعة قراءات أتباع هذا التيارهي القراءة التراثية المحضة ما بين قراءات تُعين المريد على “التخلية” وأخرى تفيد “التحلية”، فهي مطبوعاتٌ إما تاريخية أو “تاريخوية” بمعنى أنها تعيد قراءة التراث بروح وأدوات معرفية تراثية مُنبتّة عن المعاش، فكأنها طبعة جديدة من الكتب الصفراء.
السمتُ العام لهذا التيار هو الانكفاء على “الذات الحضارية” و الاكتفاء بـ”عبق التاريخ” عن “لوثة الحاضر” بما فيه من آثام وشرور، وإنشاء جزر منعزلة عن الواقع ترفض الانتماء إليه، اللهم إلا في مسألة تربية أبنائه “العُصاة”. لعل أبناء هذا التيار يُفوّتون الكيثر من الفرص على الأمة لو أنهم أحسنوا المقاربة بين المدخل العلمي والتربوي في التغيير، وشمّروا السواعد للنـزول إلى ساحة المعاش ليصححوا فيه وليسددوا ويقاربوا، فالأذكار والأوراد لا تتنافى مع الأخذ بأسباب الله في الأرض، والنصوص الثابتة -وما أكثرها بحمد الله- تغني عن الاستعانة بالموضوعات من الأحاديث وأخبار “الصفوة” التي يشوبها الكثير من الخلط ولا يعلم لها القارئ إسناداً صحيحاً. والصحاح من الأصول الثابتة تحض على التعامل الموضوعي مع الواقع، وتقويّ من عزيمة المؤمن، ولا تحيلهُ إلى “جبريّة” ساكنة تنتظر الموت كي تلتحق بمن سبق من “المباركين” بروح رومانسية تهمّش “العقلانية الدينية”.

3- التيار النَصّي (سلفيين)
أبناء هذا التيار –الذين يُسموّن سلفيين أحياناً- على عكس “الوجدانيين” أعملوا عقولهم في أسناد النصوص، ومحّصوا فيه، وهم من ألّد أعداء التيار الثاني، والذين تتراوح ُتهمهم ما بين مبتدع وكافر مروراً بالشرك.
يشنّ أصحاب هذا التيار “ثورة بيضاء” ضد المبتدعة، وسلاحهم التغيير باليد، والمطبوعة التي تتجرأ على التكفير ولا تتوانى عن مهاجمة “المبتدعة” وملاحقتهم لو أمكن، ولا مكان للـ”الآخر” المبتدع لأن تصوراتهم ذات بُعد عقديّ لا يسمح فيه للآخر بالمخالفة، فهو إما “ولاءٌ” وإما “براءٌ” ولايوجد منـزلة بين المنـزلتين، لذا فإن دعوتهم تحمل نفس الجهاد المقدس بـ”اللسان”. لكن هذه الثورة “النصية” تظل ثورة بيضاء إلى أن يتبناها نظام سياسي يريد خدمة مصالحه، والتي هي محض ذاتية، فيقوم بتثوير هذا التيار ليريق دم غيره بحجة الخلاف “العَقدي” مع الآخر، والضحية في الغالب هو مسلمٌ مخالف في النهج الفكري.
إن الفارق بين التيار”النصي” و “الخوارجي” هو في درجة الثورية، فالـ”نصي” لا يلجأ للتصفية الجسدية لكنه لا يتوانى عن تصفيته “دينياً وشعبياً” وتصنيف الآخر “الضّال الُمضّل” على احتلال أسفل درك من النار حتى تطمأن نفسه بأنه انتصر في حربه “المقدسة” وضمنَ بهذا الجهاد الأبيض مكاناً علياّ لأنه نافحَ عن “فهمه” لدين الله.
يؤمن أرباب هذا التيار أن الأصل في الأشياء التحريم و ليس الإباحة، فلا بد للمسلم أن يحفظَ أكبر كمية من النصوص التي تعينه على “شرعنَةَ” كل حركاته وسكناته، وليس فقط ما شكّ في شرعيته أو “حاكَ في صدره” من المستجدات، وبذلك يدخل في منطقة المكروهات عند الشارع من ” كثرة السؤال”.
باب الاجتهاد لا يمكن فتحه إلا بـ “مفاتيح القدماء” فهم من أغلقوه- على الأقل حسب فهم هذا التيار- ولا يمكن لهذه المغاليق أن تفتح إلا بشقّ الأنفس، وبضمانات عدم الحياد عما انتهجه السلف الذي لم يترك شيئاً للخلف، وضمان عدم استخدام أدوات معرفية جديدة “ابتداعية” أو “استغرابية كافرة”، وباب الاجتهاد محصور في استقدام “المجتهد الأريب” للأدلة التاريخية لعلماء عاشوا تاريخهم- رغم أنهم هم أنفسهم اختلفوا في كيفية التعامل مع الحادثة الواحدة وفي فهم النص- وما على هذا “المجتهد المشبع اتباعاً” إلا أن يستعير من حوادث التاريخ، ويجتهد ولو على حساب “لوي عنق النص” والتمادي في استخدام أساليب “القياس”، ولو اضطر الأمر أن يثبت صحة وحلّية بناء البنوك وإنشاء سوق أوراق مالية وتعاملات نقدية بحادثة عابرة منذ أكثر من 14 قرناً أو الإستدلال على الصلاة في الطائرة بفتوى للأحناف فيما يسمى “المعقول الفقهي” فيمن صلى في الهواء، وعلى الـ”مجتهد” أن ينسى كل الفوارق المدنية، وتطور الدلالات الاصطلاحية، والمعرفية، ويهمّش تاريخية الحادثة، ولا يعطي الواقعة التاريخية حقها من “الفهم الواقعي للتاريخ” ومن أسباب النـزول، بما فيها من أساليب الانتاج والاستهلاك، والاتصال، والفهم المعرفي، ومايفرضه الواقع الصحراوي، ودرجة المدنية، والأهم من ذلك الفهم المقاصدي للنص.
إن أحفاد أبو الفرج الحنبلي (795 هـ) الذي يؤمن بفضل السلف الذي يعيش في الأزمان الفاسدة كما يسميها على الخلف يتبنون مقولته: “وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة”.
إن هذا الأسلوب في الفهم المعرفي لايفيد “فهم الذات” ولا يعيد طرح “الذات الحضارية” مرة أخرى بالزخم المطلوب. بل إنها تُقسر العقل والروح على العيش في “عقدة ذنب أبدية”، لأنه ببساطة لن يقدر الرجل مهما أوتي من “سعة الحافظة” أن يسع بالنصوص المحفوظة كل الكم الخيالي من التطورات اليومية والاقتصادية والتبدلات الفلسفية في السياسة والاجتماع وعلوم الإنسان والتكنولوجيا والفلك والطب.

4- التيار المعتدل (الوسطي، المقاصدي)
تتوجه الموصلة المعرفية لهذا التيار نحو المقاصد الشرعية واستنباط علل الأحكام للوصول إلى غاية الشارع، ويلخص هذا المبدأ الابستمولوجي قول ابن رشد (520-595 هـ) في “فصل المقال”: “كما أن المعقولية في العلوم الطبيعية والعلوم الالهية الفلسفية مبنية على مبدأ السببية فإن المعقولية في الشرعيات مبنية على قصد الشارع، ولذلك كله من الضروري بناء الاستدلال في الدين، وبالتالي البرهان على الظاهر من العقائد التي قصد الشارع حمل الجمهور عليها”.
وأصحاب هذا التيار يحصرون في الغالب توجههم نحو السعي للنمذجة وللأسلوب غير الفج في الدعوة للإسلام كتابة وشفاهاً، من خلال الحوار مع التيارات الأخرى في محاولة جادة لـ”فهم الذات” الحضارية ومن خلال استيعاب المشتركات مع التيارات الأخرى.
إن قراءات هذا التيار متنوعةٌ، غير مقتصرة على التراث، بل هناك سعي جاد لهضم التاريخ وقراءة الكتابات المعاصرة وانتاج خطاب إسلامي بأدوات معرفية إسلامية قابلة للحياة، لا يقصي الآخر، ومن باب أولى لا يؤمن بتصفيته الجسدية على الطريقة “الخوارجية”، ويتعامل مع العلوم الحديثة على أنها مفرٌز عصري له ايجابياته ولا يخلو من سلبيات، ويسعى لحوار جاد مع كل التيارات الأخرى الإسلامية وغير الإسلامية بنَفَس تجديدي يبتعد عن الشطط، وينأى بنفسه عن نعت المخالف “الآخر” بنعوت “لاعلمية” أو عاطفية، ولكن يسعى لتحديد مساحات الخلاف والاشتراك مع كل “المحيط المعرفي” ويتقيد بوصف الشيء على ما هو عليه ما أمكنه ذلك.
إن باب الاجتهاد عند أصحاب هذا التيار مفتوحٌ، بل واجب لمن ملك الباءة المعرفية، وأن السلف ترك إرثاً عظيماً وقد استوعب زمانه أيما استيعاب، وحان دور المسلم والمجتهد المعاصر أن يبحث عما ينفع الأمة من أمور محدثة، ويبتكرُ حلولاً منضبطة بالنص والمقصد مع الاستئناس بمن سبقهم من أقوال السلف من غير حجر على الفكر، ومع الاعتراف بهامش الحرية للمجتهد المعاصر وحقه الشرعي في الاختلاف.
لا يجد أصحاب هذا الفكر في الغالب مشكلة في “الاندماج الايجابي” مع المجتمع والعالم، وهم يقاومون أي إفناء لـ”ذاتهم الحضارية” أو تذويب هويتهم بحجة “العولمة” أو “اتباع المغلوب للغالب”، بل إنها مرحلة أخرى من البحث عن دور”الشهود الحضاري” التي ينتظر فيها العالم من المسلمين أن يدلو بدلوهم، رغم أنهم حالياً في الدرك الأسفل من سّلم الانتاج الحضاري. كل ذلك دون تكريس “عقدة الذنب” الحضارية، بل عبر الإشارة للأمراض المعرفية والإشكالات الفكرية الخاطئة، كي يتم تجنبها وأخد “العقارات المعرفية” اللازمة للشفاء على الرغم من مرارتها أحياناً، فـ “كل مرّ شفاء” كما جاء في الأثر.
وينبّه تيار الاعتدال إلى أنه من الصعب على أصحاب التيار النصي أو الوجداني -ومن باب أولى الخوارجي- استيعاب فكرة أن تاريخنا مليءٌ بالعظماء لكن صنّاعه ليسوا ملائكيين، بل لديهم أخطاء من حيث الأسلوب أو من حيث التطبيق، وأحياناً أخرى من حيث المنهج، وأن تفصيل الأمر يضيف “صبغةً إنسانية على التاريخ” وينـزع عنه الصفة الملائكية، وعندها فقط يستطيع الباحث التعامل معه بأريحية، والأهمّ أنه لا يستطيع تجنب ما وقع فيه الأولون –ولا ينقص هذا من مكانتهم العالية- ويعيد طرح المشروع الإسلامي بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشكل واقعي، ولا يبقى مكانٌ لمن يريد أن يتذرع –سواء شخص عادي أو حاكم مستبد - عندما يُسأل عن أن ينهج نهج بعض السلف من الصحابة أو التابعين ليستعجلك بالإجابة أنه لا يستطيع أن يصل للدرجة “الملائكية” التي وصلها فلانًٌ بعظمته. إن هذا التصوير الملائكي و “اللامعقول” و المنافي للواقعية التاريخية للمجتمعات والعلماء والعظماء في تاريخنا، يُبعد الأمة عن تاريخها أكثر مما يقربها.
إن أصحاب هذا التيار يعتقدون أن عدم إغفال السياق التاريخي، وطرح التاريخ دون تحريف “ملائكي”، وتذويق “رومانسي”، ُيقرب أجيال الأمة من تاريخها ويجعل الأمة تستفيد من تجارب التاريخ.*
ويؤمن الذين خرجوا من عباءة هذا التيار بفلسفة “البدائل”، فلا يستعجل أحدهم التحريم قبل أن يبذل وسعه لايجاد البدائل “الواقعية الشرعية”، وإن لم توجد فهي دعوة للقائمين على الأمر لتأمينها، وعندها ينتقل الشعور بالذنب من العامة إلى السلطة التي حَجبت مناخ الحلال فاستشرى بعدها الحرام، وبذلك يتم النقل الشرعي لـ “عقدة الذنب” من الجمهور إلى أولياء الأمور الذين حُرموا رؤيته فترة طويلة، لأن دأب السلطان على الدوام هو إشاعة مناخ يوحي بالتصريح أو بالتلميح عن مسؤولية الجمهور عن المآسي والذنوب التي يرتكبوها، ويقوم بعض أصحاب الوعظ من الجهلة أو المأجورين بتعميق ذلك، فالاستدانة من المصارف الحكومية بفائدة لشراء منـزل للسكن علّته فساد الدين والدنيا، والحل الناجع رجوع المواطن إلى الله وتركه الحرام، وليس الضغط على الحاكم لفتح بنوك إسلامية، أو السماح لها بالتواجد على الأقل، والأزمة الاقتصادية سببها تكاثر السكان، أو الابتعاد عن الله جل وعلا، وليس سوء توزيع الثروة والاستيلاء على مواردها من قبل سلطة محلية أو عالمية، وإن استشراء الفساد سببه كثرة المرتشين وضعاف النفوس الذين ابتعدوا عن الإسلام، وليس ضيق ذات اليد عند عّمال الدولة وعدم إشاعة مناخ التعليم الديني، وملاحقة الواعين من أبنائه، وانتشار المحسوبية التي أشاعها السلطان والتي بها أفسد نظام الأمة.
إن علاج الأمة المريضة لايتم بقتل الأمة “المريض”، والإمعان في “جلد الذات”، ولكن بالإشارة لأمراضها بجرأة وواقعية وبَنفَس إصلاحي، على طريق “فهم الذات”.
إن المتبنّين لهذا التيار لا تنطلي عليهم “التخريجات السلطانية” للإشكالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية رغم الاستعانة بـ”الخبراء الدينيين” للتغطية والتعْمية على حقائق الأمور، ولكنهم وبنَفَس إصلاحي يواجهون الحاكم الذي استأسد بالسلطان بوقائع الفساد وأسبابه الحقيقية، وبالحاجة للاصلاحات المؤسسية، كما كان الدور السياسي للأئمة الأربعة ومن بعدهم.
إن كل هذه الإصلاحات المؤسساتية يجب أن تتم بالتدريج ضمن آلية للتغيير تحترم النص الديني وتفهمه وتؤصل لرؤية واقعية هي “الأكثر نموذجية” برأي هذا التيار لتمثيل الفهم الحقيقي للمقاصد الشرعية، لأن هذا التيار أعطى للعقل حقه من التقدير، وأعطى لروح التاريخ والأصول حقّها من الرعاية، دون إغفال المستجدات من الحوادث.
كما أنهم لا يؤمنون بغلق باب الاجتهاد متمثلين قول الشوكاني (1250-1173هـ) فيما يخص اختصاص سلف هذه الأمة بإحراز فضيلة السبق في العلم دون خلفها ودعوته للتحرر من “عرى التقليد”: “تعذر وجود مجتهد بعد المائة السادسة مقولة مخذولة وحكاية مرذولة تنذر بضياع الشريعة…فالله تفضل على الخلف كما تفضل على السلف”.

5- التيار اللاديني (علماني-حداثي-عقلاني)
يحسنُ بداية القول أن نزع صفة العقل على هذا التيار لا يعني بالضرورة نفيه عن باقي التيارات، لكن قُصد منه اتخاذ العقل كمرجعية فكرية ومعرفية دون الرجوع لأي معطىً معرفيّ آخر. يلتقي هذا التيار مع التيار الخوارجي في ثوريته وحّدته في الطرح، فهو يريد إقصاء “النص” واستبعاد الأدوات المعرفية الأصولية، فهو تيار همّه “نفي الذات” كما كان همّ “الخوارجيين ” الأساسي “نفي الآخر” بحجة احتكار الحقيقة والحفاظ على نقاء “المناخ المعرفي”. يصف البعض هذا التيار بأنه علماني وبأنه حداثوي أو أية صفة أخرى، ولكن لا مشاحّة في الاصطلاح إنما الأولى بالاهتمام هو تفصيل المكونات المعرفية لهذا التيار.
يتبّع أبناء هذا التيار أساليب ثورية في التغيير سواء في التغيير السياسي أو المعرفي، فمن محاربة أعداء “الوطن” في عوالم السياسية، إلى استئصال شأفة “أعداء العقل” من النصيين والوجدانيين. ولعل ضيق صدر أبناء هذا التيار وإصرارهم على تجاوز التاريخ وعدم موضوعيتهم أحياناً في تناول”الذات الحضارية” بل نسفهم لأصولها النصية أحياناً كثيرة ونفيهم لأحقيتها في لعب دور في تشكيل المستقبل، ُيشكّل عائقاً حقيقياً أمام أي حوار بنّاء مع التيارات الثلاثة الأولى، وبشكل أخف مع التيار المعتدل وذلك لسعة صدر الأخير.
يتمتع أبناء هذا التيار بحساسية عالية ضد كل ما هو تراثي، ولا يتوانون عن كيل التهم للتاريخ بحق وبغير حق، في محاولة لنـزع “الشرعية” و”المرجعية” عنه، لذا فإن تناولهم للتراث ولوقائع التاريخ يكون بقصد النقد الذي قد يُفهم منه “الهدم” لا “البناء”، أو بعبارة أخرى بقصد “قتل الذات”، و”أنسنة” المعارف.
إن أدواتهم المعرفية غربيةٌ في الغالب، مستوحاة من أنساق معرفية غريبة على التراث الإسلامي، فتارة يُلجأ للنظم التفكيكية، وتارة البنيوية وأخرى بالألسنية أو ربما حتى بالقراءة الماركسية، فيصور مثلاً أبو ذرٍّ أنه إمام الاشتراكية في الإسلام، مما ينفي صفة الموضوعية على خطابهم. لا غرابة إذن في أن شعبية هذا التيار ضعيفة بسبب الأساليب الغريبة والمصطلحات المقعرة التي تزيد بعدهم عن العامة، وما يزيد هذه الهوة عُمقاً هو تحييدهم للخطاب الديني “الأكثر شعبية”. وكردة فعل يلجأ أصحاب المنابر الدينية من التيارات الثلاثة الأولى إلى تعميم أسمائهم كونهم “أعداء الله” وتثوير العامة ضدهم باعتبارخطرهم على “صفاء العقل المسلم”، فما أكثر مايُكّفَرون وُيّفًسقون و يُطلّقون من نسائهم بفتاوى شرعية، أو يُجرى اغتيالهم في حالات أخطر.
* * *
الواقع أننا لو استثنينا التيار المعتدل فإن مايتبقى من الحوار هو تبادل للاتهامات، وكيل الشتائم، فالتيار النصي يكفّر الأشاعرة وأصحاب المذاهب الفقهية، ولديه مشكلة مع التيار المعتدل لأنه مفرطّ ومبتدع ٌ كونه يدعو للتجديد، ومن البدهي أن مشكلته مع “المتصوفة” وأصحاب التيار الوجداني أكبر لأنهم “مشركون” بالله. أما أبناء التيار العقلاني فلديهم مشكلة مع كل التيارات، الوجدانية منها والنصّية لأنهم “لاحداثويين”.
إن الحل الناجع بالنسبة للأمة هي تكثير سواد أرباب التيار المعتدل الذي لديه الرصيد الأقل من الأعداء مع باقي التيارات، والذين لديهم من السعة بما يكفي لإتاحة الفرصة للآخر دون مصادرة للرأي، ودون استعداء المخالفين، والنموذج المطروح من قبلهم هو الأكثر قابلية للنمذجة في مجتمعات يستحيل أن تنتظم إلا ضمن تراثها ومن خلاله، وبأدواته دون إفراط أو تفريط.
المشكلة القائمة في عالم التيارات الفكرية في العالم الإسلامي – وأحياناً يجري تصديرها للعالم غير الإسلامي كأمريكا مثلاً – هي مشكلة نوعية الانتاج معرفي. فربما يُغرق سوق الكتاب بمطبوعات التيارات الثلاثة الأولى، وهذا ليس دليل عافية معرفية بالضرورة، وقد تجد مطبوعات التيار العقلاني والذي لا يجدّ قراءً بالحجم التجاري الكافي فيجري تحييده، وتكون مهمته إعطاء مادة فكرية وإعلامية للتيار الخوارجي والأصولي للنقد وكيل التهم، وكذلك هي “مشكلة استهلاك” ومشكلة “من ُتقلد” لا “ماذا ُتنتج” بسبب حالة الإشباع التاريخي من كثرة المطبوعات للعلماء الأوائل، فتظل طباعتها تتكرر ويعاد تغليفها فيصرف الجهد على التذويق الفني والمطبعي، مالا يُصرف عُشرهُ على تحليل وقراءة ما بين دفتي الكتاب التراثي قراءة متأنية.**
وبسبب هذه التخمة التاريخية فإنّ القارئ – على ندرة وجوده مع ارتفاع نسب الأمية في دول العالم الإسلامي– في الغالب يجد نفسه ميّالاً للكتب التاريخية، فهو ينصاع للحملة الإعلامية التي يقودها الخطباء، فينتقي ما يلائمه تبعاً للتيار الذي يميل إليه، فالصوفي يقتني الرسالة القشيرية وإحياء علوم الدين والسلفي يقتني ابن تيمية وابن قيم.
الملاحظ أن مطبوعات التيارات الثلاثة الأولى هي الكتب الأولى “شعبية” وهذا شيء غير مستبعد إذا علمنا أن التيارات الثلاثة الأولى هي التيارات “الأكثر رعاية” من قبل ولاة الأمر، وإن كان بدأ الإمداد ينحسر عن التيار الأول لأن الخوارجية بدأت تطال ولاة الأمر أنفسهم فهذا الدعم اللامحدود وتهيء المناخ “الأكاديمي” الذي يخدم انتشار التيار الثاني على وجه التحديد يخلق طلباً على تلك الكتب، وأما التيار الوجداني فهو الأكثر مقبولية لدى العامة لقلة الحاجة للعلم وإجهاد العقل لفهمه، والمرء يميل إلى السهولة كما لايخفى أنه مستساغ من ولاة أمر لما فيه من تحييد العنصر السياسي من محاولات الإصلاح، فمهمة المريد “طاعة ولي الأمر”ولو كان عبداً ذا زبيية، والزهد فيما هو سياسي أقرب للحق لأنه يقسي القلب ويجعل المريد ينغمس في الدنيا تحت شعار “السياسة نجاسة”.
إن التيار المعتدل فيما يبدو هو المرشح لتقديم المخزون التاريخي كتجربة رائدة مرة أخرى وكمنطلق لتجديد أمر هذا الدين، وبذلك تعود الحياة للمعارف الإسلامية، دون استثاراة لـ “النعرات المعرفية” بين التيارات، ولذا يلزمه عنصر الانتشار المقروء والمسموع، حتى تصل الأمة إلى مرحلة الشهود الحضاري وتستفيد الأمة من طاقة كل أبنائها.
لكن للأسف هو تيار غير مأمون جانبه من قبل السلط الحاكمة لأنه لا يفتئ يستثير العقل “مسبب المتاعب” لأن نهضة العقل والحوار البناء سيفرض على الحاكم أن يكون إما مادة للحوار أو طرفاً فيها، وهذا ما لايرضاه في العموم الغالب الحاكم المستبد لأنه “منـزّه عن السؤال” وبنفس الوقت لا يقبل هذا التيار التدجين لصالح سلطة، وهذا يجعل أمر التعامل معه أكثر صعوبة؛ فهو بحق الأكثر قدرة على استيعاب بقية التيارات لكنه بحواره الهادئ لا يتوانى عن النقد البنّاء الذي يطال الجميع بغاية الإصلاح. لكن للأسف فإن المستبد بالسلطة في أحسن أحواله يريد إصلاحاً مهمته استقرار ملكه لا الإشارة للمرض ومعالجته بمبضع معرفي ملائم لأنه ببساطة قد يكون هو وبطانته أحد أهم اسباب المرض وهيهات أن يقبل العلاج.
أما التيار الخامس اللاديني فقد استخدمت السلطات المستبدة بعض أبنائه كأداة لتدجين الشعوب وقمعها أحياناً، تارة باسم القومية وأخرى باسم الماركسية حتى أفقدتها قاعدتها الشعبية. ولكن هذا التيار يعمل أحياناً كذراع للـ”الآخر” السياسي في المنطقة، فيشنُّ الحاكم على روادها حرباً شعواء، والتاريخ المعاصر مليء بالأمثلة على اضطهاد الشيوعيين ومؤخراً الليبراليين بتهم تتراوح بين “عملاء الاستعمار” إلى “عملاء الامبريالية” وتشويه “السمعة الوطنية”. أما على الصعيد الشعبي فقراءة مطبوعاتهم تحتاج إلى ثقافة من نوع خاص لأنها تحفل باصطلاحات “إفرنجية” أو فلسفية أحياناً مما يجعل معه انتشار كتبهم بين العامة أمر شبه مستحيل خاصة إذا علمنا أن الخطباء على المنابر يحذرّون “أبناء الأمة ” من قراءة كتبهم أو الاختلاط بهم كونهم “شرذمة” من “العلمانيين” و “الضالين” و “المطرودين من رحمة الله”، فيشكل هذا حصاراً لا يستهان بحجمه يمنع من انتشار”عدواهم المعرفية” للقّراء المولعين بالتاريخ.
إن هذه العجالة لن تكفي لإعطاء الموضوع مايستحق من أهمية لأنه يحتاج لدراسات أكثر عمقاً وتتطلب إحصائيات تفيد معرفة الفئات العمرية من أبناء كل تيار وعدد مطبوعاتهم وحصر المفكرين ضمن تياراتهم، وبعدها إجراء الدراسات الرقمية- بأخذ عينات عشوائية - التي تفيد حجم انتشار كل تيار عبر الزمن لنقارن مثلاً معه حجم انتشار أي من هذه التيارات ومناطق “نفوذها”، وليدرس الباحثون الاجتماعيون الأسباب الرئيسية وراء انتشار هذا التيارأو ذاك وكيفية ضبطه أودعم انتشاره، وذلك بالاستعانة بالمفكرين الاسلاميين وغير الإسلاميين وعلماء الاجتماع والاقتصاد والسياسة والنفس والتاريخ، كي يتم تشخيص حقيقي لكل تيار، وعندها فقط تتحقق ثمرة هذا البحث بالشكل المطلوب.***
________________________
*ليس هناك فائدة من ذكر أن علياً كرم الله وجهه حمل باباً كمتراس أثناء القتال ولم يستطع سبعين رجلا حمله بعد الانتهاء منه، أو أن رابعة العدوية بكت حتى انسدت مجاري بغداد! أو غيرها من محاولات إسباغ نوع من “الاسطورية” على عظماء الأمة لا يحتاجونها حقيقةً، لأن عظمتهم واضحة بالنص التاريخي الصريح والموثقّ، ولايحتاج لأي إضافات “للتثوير الشعبي”.
**لازالت الأمة - بحجة التقليد والامتثال لظاهر النص دون مقصده - مشغولة في مسألة اختلاف المطالع، ويصوم ويفطر المسلمون في كل بلد بشكل مختلف - ولو استطاعوا لأدّوا الحج بمواقيت مختلفة - ولو ضمن منطقة جغرافية واحدة بحجة الرؤية العينية، وكأن لدى الأمة أكثر من قمر، أو أن الرعيل الأول رضوان الله عليهم كانت لديهم المراصد الفلكية ووّفروها وزهدوا في الأقمار الصناعية في تحديد ولادة القمر بالثانية، فمالذي يعيق وحدتهم اللهم إلا الانتماء إلى إحدى التيارات الآنفة الذكر التي تلغي “الذات الحضارية” من حيث هي تتباكى على إعادة الحيوية لها، وتكرس “تحييد العقل” بحجة أننا أمةٌ “أميةّ”، وكأن الإقرار بأن أمة الرعيل الأول كانت أميّةّ دليل على “مباركة الجهل” حاشى الرسالة السماوية، وليس دافعاً لـ “محو الجهل”.
***للأسف فإن هذا لايتم إلا برضى الحاكم والذي قد لاتكون له كبير مصلحة في السماح أو دعم هذه الدراسات فتبقى هذه الدراسات معطّلة حتى تنالها عين السلطان بالرعاية، ويظل العالم الإسلامي في تخبط لايدرك كيفية تشكل التيارات المعرفية فيه ولا حتى كيفية توظيفها توظيفاً يرفع شان الأمة حتى يسمح المناخ السياسي.

جدول العلاقات بين التيارات الفكرية الخمسة في العالم الإسلامي:

 

التيارات الخمسة التي تقتسم العالم الإسلامي*

*تتفرع عن هذه التيارات تيارات سبعة :خوارجي وجداني، خوارجي نصي، وجداني معتدل، وجداني لاديني، وجداني نصي، نصي معتدل، لاديني معتدل.
نقلاً عن مجلة الرشاد

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف المناهج. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.