فتش عن المال - 2006-11-03

[ربما لن يتصور أحدنا أن يكون وراء السلوك الذي يتصرفه عالم كامل من الأفكار والرؤى والسلوكيات ، بل دين يستولي عليه ويسكن روحه دون أن يحس ، وفي كلمة هذا الشهر نتابع الحديث عن كتاب الفردوس المستعار والفردوس المستعاد للطبيب المفكر الأستاذ أحمد خيري العمري ، وقد سبق في كلمة الشهر الماضي (انظرها في الأرشيف لطفاً) أن تحدثنا عن ركني المادية والفردية في الدين الأميركي ، واليوم نتحدث عن الركن الثالث وهو رأس المال].

من الطبيعي إذا التقت المادية مع الفردية أن يبرز الركن الثالث من الدين الأميركي وهو(رأس المال) وقد تعودنا على التعامل معه كمواجه للشيوعية المقبورة ، دون أن نفكر أننا سنواجه إعصاراً هائلاً لم نكن مستعدين له وكنا نبشر بأجزاء منه دون أن نعلم خطورته وقصة ولادته.

كان الفكر الاقتصادي مقيداً بكنز الذهب والفضة ، ولما كانت تلك الثروات محدودة مهما كبرت ، فقد نشبت النزاعات ، وكان سبب اكتشاف أميركا الأول البحث عن المزيد من الذهب ، وازداد مخزون اسبانية منه [كما برز رصيدها من التوحش والهمجية والتدمير للحضارات بشكل غير مسبوق وهو الشيء الذي ستتممه الحضارة الأميركية لاحقاً] وازداد التضخم فانتهت اسبانية كقوة اقتصادية ثم عسكرية.

وجاء آدم الاقتصادي الجديد الذي قلب كل المفاهيم الاقتصادية السائدة ، وهو آدم سميث الاسكوتلندي المولود عام 1703 صاحب كتاب (ثروة الأمم) ، وكان رأيه أنه يجب ترك السوق حرة وهي ستنظم نفسها تلقائياً لوسمح للأفراد أن يعملوا لمصلحتهم الخاصة دون عوائق ، كما أن وسائل الإنتاج سواء كانت أراض أو ثروات طبيعية أو مصانع يجب أن يمتلكها الأفراد! وبالتالي فإن مصلحتهم الخاصة هي المحرك لهم والربح ثم الربح هو عمود المسألة كلها.

الأرباح الخاصة ستعود على المجتمع بالنفع أيضاً ، وبدأ البساط يسحب من تحت أقدام الإقطاعيين ومُلاك الأراضي ليصبح السيد فيها أصحاب البنوك والمصانع والسياسيين البورجوازيين.

واجهت نظرية سميث تحديات كبيرة ولكنها صمدت ثم كانت لها الغلبة وأصبح الجميع (يسار ويمين ووسط) يتحدثون عن فضائل اقتصاد السوق.

تتحدث الرأسمالية [وبمكر] عن عدم التدخل في السوق عندما تربح ، وتتخلى عن عدم التدخل جزئياً إذا كان الأمر سيزيد من أرباحها في المرحلة التالية.

أعجب أمر في كتاب سميث [الاقتصادي الصرف] أن يتحدث عن عالم الغيب عندما قال أن هناك يداً خفية! (invisible hand) تقوم بتنظيم أحوال السوق … وتلك اليد الخفية تقوم بتحويل عمل الأفراد الذين يهدفون إلى مصلحتهم الذاتية فحسب ، إلى مصلحة المجتمع! ولم تكن تلك الكلمة شطحة فقد كررها مرات ، وصار هناك من يكتبها بالأحرف الكبيرة أي (Invisible hand) ولم يكن مصادفة أن بعض الموسوعات العلمية تشير إلى آدم سميث على أنه نبي الرأسمالية!![ انظر على سبيل المثال: Adam Smith;capitalism\’s prophet by Robert L.Formanini (RePEc:fib:feddei:y:2002:n:v:7no1) ].

قد يُظن أن الدين في حضارة الفردوس المستعار ليس سوى أمر مادي ، ولكن لا بد من شيء ما غيبي المصدر فالعقيدة و(الإيديولوجيا) وحدها لاتصنع ديناً وإلا لصارت الشيوعية أو الديمقراطية ديناً!

ويبدو أن الحد الفاصل بين (الإيديولوجيا) والدين هو عالم الغيب …شيء خفي ، تماما مثل اليد الخفية! وتلك اليد الخفية والغيبية جعلت من الرأسمالية ديناً ، وله مسميات أخرى [وكما نقول عن الإسلام أنه دين الفطرة ودين التوحيد] فإن للدين الرأسمالي مرادفات مثل : دين الاقتصاد ، ودين السوق!

رغم أن معتنق الرأسمالية ينظر إليها كما ينظر إلى قوانين الفيزياء أو [الرياضيات] أي أنها تفسر الوجود ولا تبتدعه من العدم ، وهي حيادية ، ولم تقدم نفسها كفكر إيديولوجي ، لذا فإن أهم مبدأ عند آدم شميث هو الحيادية ، أي ترك الباب مفتوحاً ، وباختصار: عدم التدخل! لتجري القوانين في سياقها الطبعي من دون تدخل [أي حماقة نرتكبها مثلاً إذا حاولنا إعاقة الطيف المغناطيسي الموجود والذي نقوم نحن فقط بالاستفادة من آثاره] فالتدخل أمر ضد الطبيعة ، وعواقب التدخل كارثية مهما كانت عواقب عدم التدخل مؤلمة!

إن العقيدة تقوم على التغيير وهو يتطلب التدخل لإعلاء ما يعتقد أصحابه أنه حق وأفضل وأطهر ، أما مبدأ عدم التدخل فيقوم على شيء آخر [في غاية الخطورة] وهو وجه [لدين ماكر جداً] نستطيع أن نقول عنه وبراحة للضمير أنه الخضوع والاستسلام والانصياع [بل والعبودية] لليد الخفية!! [هل أدركت خطورة الأمر أخي القارئ!].

إن قوانين الكهرباء لم تتحرك يوماً لتعطينا رؤانا وقيمنا ونمط حياتنا ومنظوماتنا الأخلاقية ، [وحلالنا وحرامنا] وأبعاد تفكيرنا وتصورنا للوجود ، ولكن الرأسمالية[الحيادية والقائمة على عدم التدخل!!!] تفعل ذلك !

الرأسمالية منظومة كاملة عقدية وأخلاقية وسلوكية [ بل ووجدانية أيضاً] شعرنا أم لم نشعر ، أقررنا أم أنكرنا! وهي تزودنا بمنظار ذو لون خاص نرى الوجود كله من خلاله! ونبحث في منظوماتنا الشرعية عن مؤيدات له ، [فالشيوعية كفر محض والرأسمالية تتقاطع مع إسلامنا في كثير بل الأكثر من جوانبه!] وباختصار فلنقم بالطقس الأساسي لذلك الدين الأميركي وهو الخضوع ، [ولنحمل عقيدة وفكر وسلوك ووجدان مبدأ عدم التدخل] ، ولنتأله لمعبود ما [وإن لم ندرك ونفهم ] ، [ولا يهم ماذا تسمي ذلك المعبود بعدها] : هل تسميه السوق! أم نقول لك أنها اليد الخفية الذي بشر بها [نبي الرأسمالية] سميث. [هل تتذكر ذلك المثل العامي البشع : سوق حسب السوق … أو ضع رأسك بين الرؤوس وقل ياقطَّاع الرؤوس … وهل تستطيع أن تفطن إلى كم ألف مرة ضاع فيها الحق وظهر الباطل من وراء مبدأ عدم التدخل والانصياع الذي استثمر إلى حد مرعب في تحويل مجتمعات كاملة إلى مجرد سوائم للعلف والتسمين لتذبح!! وبقية القطيع يتفرج ثم يعود إلى الاجترار والاستهلاك للعلف!].

كم يبدو الأمر رومانسياً عندما كانوا يقولون: فتش عن المرأة! ففي الرأسمالية فتش عن المال [وهي منظومة مغايرة لنا مهما بدا أن لها بعض تقاطعات ظاهرة لن نعدم من يفتي بتطابقها مع الإسلام]. وكل ماجرى ويجري وماسيأتي سببه المال ثم الزيادة من المال!

الرأسمالية تزعم أنها لم تبتدع الأمر بل وضحته ، فالمال هو الذي يجعل العالم يتحرك في طواف مذهل وضمن عالم شكلت أخلاقياته وقيمه الرأسمالية.

الأديان التقليدية وجدت نفسها في مواجهة خاسرة مع الوحش الكاسر فانسحبت مؤثرة أن تقوم بدور المواسي الروحي! للضحايا ، [لعل ذلك الوحش يبقي لها بعض الفتات أوالمواقع التجميلية و الاستثمارية في ساحته الطاحنة ، والتي تعيد الرأسمالية الاستفادة منها في إلقاء الوهم في النفوس أنها لا تمس القيم والأخلاق بشيء فهي قائمة على عدم التدخل!!!!!].

وانسحبت المفاهيم الدينية والأخلاقية ، فصارت الساحة خالية ، وكنتيجة طبيعية كانت الرأسمالية هي البديل الذي لا بديل غيره بحال بعد أن التفت على الجميع ومكرت بهم مذ زعمت أنها تفسر الموجود فقط ولا تبتدعه ، ومع الوقت استبدلت الرأسمالية [دينها وبكل منظوماته] بالأخلاق والقيم التقليدية ، ومع عجز [كثير من] المؤسسات الدينية وفسادها [وارتباطها التلاحمي مع السياسيين والظالمين] صارت الرأسمالية هي دين هذا العصر بلا منافسة ولا نزاع!!

وكما أن بعض المتدينين مثلاً يقولون وبصدق أن الإسلام هو الحل دون أن يكون عند كثيرين منهم تصور عميق لذلك ، فكذلك أتباع الدين الجديد يبشرون بأن الاقتصاد هو الحل [وهو الذي سيوفر كل الضمانات ويحل كل المشاكل ، وهناك دول عديدة انهمكت أنظمتها بعمليات تجميل (اقتصادية) ظانة أن ذلك سينسي شعوبها حرمانها من أبسط حقوق الإنسان ومن الضمانات القانونية وسيلغي من ذاكرتها الجماعية كل الاضطهاد والسجن والتعذيب والمذابح والنهب والسلب والظلم الذي قامت به تلك الأنظمة ، والتي توهم الشعوب أن الأمر كان مجرد خطأ فني يمكن تعويضه بسهولة عن طريق نثر بعض النقود (المنهوبة أصلاً) فوق رؤوس الخارجين (كمجتمع أو أفراد) للتو من حمامات الرعب والدم والاضطهاد ، ويمكن للشعب الذي ترك منظومته الأخلاقية لصالح الدين الاقتصادي الجديد أن يستسلم بسهولة مثل ….. تبيع نفسها وتنسى أنها بيعت في سوق النخاسة بمجرد التلويح لها بالنقود ، أما الشعوب ذات المنظومة الدينية والأخلاقية والقيمية المغايرة ، فهي رقم صعب ومتعب وتذليله يحتاج إلى جهد طويل وقد لا ينجح في النهاية].

[ليس الدين الرأسمالي شيئاً سهلاً وإن تظاهر بالليونة وعدم التدخل بل هو ماكر ويتدخل في كل شيء ، و يزرع فيروساته في كل جزء حي ، بحيث لا ترجى له العافية بعد ذلك ، منتهكاً بل ومغتصباً قيماً وأخلاقاً كثيرة في طريقه] ولعله أكثر الأديان أتباعاً وأوسعها انتشاراً ، فالمليارات من البشر يدينون به ، مع أنهم يظنون أنفسهم مسيحيين أو بوذيين أو حتى مسلمين .. أو لادينيين ..[ فالفيروس سكن في كل خلية منهم وإن لم يدركوا ذلك].

في الدين الرأسمالي وسائل الانتاج يجب أن تكون ملكاً لأفراد ، ودور الحكومات ينحصر في حماية الأفراد وهم يتنافسون على المزيد من الأرباح.

الربح و[قداسة] الفرد وعدم التدخل هي الأقانيم الأساسية لدين الرأسمالية! هل تشعر أن ذلك لايكفي ! وهل مازلت تحس أن الدين يحتاج إلى خضوع واستسلام لقوة عظمى … وبحيث لايكون الأمر مقصوراً فقط على مصطلح اليد الخفية بل يضم عقيدة دينية مذهلة تابع تسللها معي إذا سمحت.

[هل أنت عالم ، مفكر ، مخترع ، طبيب ، داعية ، كنز مخفي … كل ذلك لايهم] فالحقيقة أنه إذا كان معك قرش فأنت (بتسوى) قرش …. لاغير .

الخضوع ليس تابعاً لمجرد الفكرة [الغامضة] بل لآثارها! ومنها : ازدياد الهوة بين الفقراء والأغنياء ، ودمار البيئة ، واحتكار الأغنياء لمصادر الثروة ، والحروب الطاحنة والقلاقل الاجتماعية ، والأمراض القاتلة [لاحظ أن هناك من يعتقد أن مرض الإيدز ، وربما جنون البقر ، وحتى حمى الطيور إنما سببها تجارب جرثومية قامت بها الولايات المتحدة ثم أفلت الزمام من يدها …] والتدخل لإيقاف نهب الشعوب ، ولمنع الحروب ، ولإسقاط الأنظمة الديكتاتورية كله وإيقاف جنون التسلح .. ومنع الدول التوسعية من العدوان ، والإصرار على اتفاقيات حماية البيئة ، وغير ذلك … كله هرطقة وكفر بالدين الرأسمالي وهو ضد مبدأه الأساسي (عدم التدخل) اللهم إلا إذا قررت (اليد الخفية) التدخل فذلك ممكن ولو أدى إلى نهب ثروات الأرض ، أو ابتلاع الشركات الاحتكارية العالمية لآلاف الشركات الأصغر ، وازدياد معدلات الفقر والبطالة ، وإشعال الحرب بين العراق وإيران (لتأكل أكثر من مليون شاب إيراني وأقل منهم بقليل من العراقيين) ، أوذبح أكثر من مليون أفريقي من التوتسي والهوتو ، أو احتلال جزر الفوكلند ، أو أفغانستان بحجة وجود دولة إرهابية ، أو العراق بحجة أسلحة الدمار الشامل (والجارة (إسرائيل) تملك من أسلحة الدمار الشامل مايفني العالم العربي كله ، بل إنها قصفت المفاعل النووي العراقي وهددت بضرب الباكستاني - قبل أن يتاح لها حاكم شديد الإخلاص والانصياع فيفكك برنامج بلاده النووي بالمجان - ولولا الخشية من انفجار المنطقة لما ترددت بضرب المفاعل الإيراني) … وكذلك المجازر في فلسطين ولبنان فيجب فيها عدم التدخل التزاماً بمبادئ الدين الماكر الجديد] .

يجب عدم التدخل لأن مصالح الأفراد! [نعم ياسيدي الأفراد] مصونة ويجب على الجميع حمايتها ولو وصل العالم إلى الفناء الأكيد!

مليارات البشر يضعون نصب أعينهم الفردوس المستعار ، فردوس النمو والرفاهية ، ولابد لكل دين من إيمان وتضحية لذا لابد أولاً من الخضوع لليد الخفية التي تحرك السوق فهي الأدرى والأبعد نظراً ، وثانياً : لابد من الصبر والتحمل لمشاق الطريق [أعرف أخاً هاجر إلى الولايات المتحدة منذ ثلاثين عاماً وكان لديه نقود يمكن أن يبدأ بها مشروعاً متواضعاً يكفيه هنا ، ولكنه ذهب يبحث عن الفردوس، ولم تبق مهنة لم يزاولها ، وهو الآن شحاذ تماماً ، وطالما قلت له لايوجد ضرورة لسفرك ، وأن تعمل في كناسة القمامة في بلدك خير لك من أن تعيش شحاذاً في وطن غريب عنك فلم يلتفت إلى ذلك وسمعت أنه يفكر بالرجوع بعدما فنيت حياته هناك في غسل الصحون …. وهناك آخرون صاروا أصحاب ملايين وشهادات ، ولكنهم خسروا أولادهم … وآخرون خسروا أنفسهم! وقال لي احدهم : هل تحرم السفر؟ فقلت له: إذا استجمعتَ ظروفه الشرعية فسافر! فقال: وماهي؟ فقلت له: أن يكون لك دين حقيقي تعيشه في كيانك وروحك ثم في حياتك ما استطعت ، فهو الضمان الوحيد لبقائك ، وإلا التهمك الدين الجديد حتى دون أن تدري!!).

وثالثاً : ينبغي القبول بما يجري لأن الرأسمالية قانون كوني [قدر] لا سبيل لتغييره ! ومن يعترض فهناك محاكم تفتيش جاهزة التهم ، بداية من الاعتداء على الحق الخاص وانتهاء بالأصولية والإرهاب!

مفهوم الحرية الشخصية انتهى منذ أصبحت بضعة شركات احتكارية هي المشرع الحقيقي للقوانين الأميركية ، ثم صارت مبادئ تلك الشركات هي مبادئ أميركة كلها ، وعبر محامين قديرين فإن حرية تلك الشركات الاحتكارية المرعبة هي بعينها الحرية الفردية التي يكفلها الدستور [ويقدسها كل مواطن أميركي صالح].

الملاحظ أنه كلما كان هناك تدخل اقتصادي أصيب النمو بالتراجع ، وكلما ازدهر عدم التدخل ازداد النمو الاقتصادي.

ولكن ما شأني أنا وما شأن مؤلفنا الفاضل الدكتور العمري ، فإن للقوم كامل الحرية في اعتقاد مايريدون و ((لا إكراه في الدين)) .. ما شأننا نحن؟ ولماذا التدخل؟

[سؤال مهم جداً! وتدخل سافر لولا أمر أساسي! وهو أن القوم لا يوجد عندهم ((لا إكراه في الدين)) كما عندنا (مهما كانت غلظة بعض دعاتنا وغلط تصورهم لبعض الأمور) ، وهم يعتبرون أن دينهم يجب أن يسود الأرض بالإكراه ، سواء في كورية الشمالية أو إيران أو أفغانستان أو العراق أو جورجية أو دارفور أو جنوب لبنان ، وهم لهذا مستعدون للتدخل حتى النهاية ، أما ما يحصل للشعوب من مآس ودمار وويلات فمبدأ عدم التدخل مبرر كاف للتفسير!].

[الفوضى الخلاقة مصطلح مرعب استخدمته الإدارة الأميركية ، لأنها حقاً تريد وبالإكراه نشر دينها (وهو ليس النصرانية بالتأكيد لا السهلة ولا الأصولية بل الرأسمالية) وهي تريد نشر الديمقراطية على طريقتها والحرية على طريقتها والعدالة على طريقتها ، وهي تقول وبفم ملآن أنها تريد الإكراه في الدين، وذلك بزرع الفوضى الخلاقة التي قالها البعض وعلى وجوههم إمارات نشوة سادية لا ترى إلا في أفلام مصاصي الدماء المرعبة] .

فلنكن عاقلين بل في منتهى الحكمة ونحن ندرس ذلك الدين الجديد لنرى نهاية (السيناريو) المرسوم لنا ، لعل فيه بعض الخير فنستفيد منه! أو أنه عين الهلاك فنرفضه رفضاً قائماً على دراية وبصيرة ، لأنه ينقض الإسلام عروة عروة من لم يعرف الجاهلية كما يقول الفاروق رضي الله عنه].

لن نركز على الاستغلال الموجود في العالم ، ولن نحمل الدين الأميركي تبعته ، سنذهب إلى الفردوس المستعار المليء بالشعارات والمطلي بألوان زاهية ، وسنزيل القشرة تلو القشرة عن تلك الجنة الأرضية لنرى حقيقتها [ سنقدم المعلومات والأرقام هنا باختصار ، ومن شاء فليرجع إلى الكتاب الأصلي للأستاذ العمري والذي وثق فيه كل المعلومات المذكورة من مراجعها الأميركية].

عندما ازداد معدل الدخل العائلي بين عامي 1979-1992 فإن 98% من هذه الزيادة ذهبت إلى 20% من العائلات الأميركية الأكثر ثراء ، وبقي فقط 2% لتتقاسمها ال 80% من العائلات الأفقر.

أغنى 20% من الأميركيين يسيطرون على 83% من مصادر الثروة .

من نسبة العشرين بالمائة الأغنياء هناك 1% فقط يمتلك 40 – 60% من كل مصادر الدخل (الأميركي الهائل).

لوركزنا فقط على وسائل الإنتاج وغدارة الأعمال فإن نخبة من 1% فقط ستحصل على 90-95% من كل مصادر الدخل!

العشرة بالمائة الأغنى سيحصلون على (ومنهم النخبة الأولى 1%) يحصلون على 99% من مصادر الدخل!!

كل من في الفردوس الأرضي الآخرون لهم فقط [وفقط] 1% واحد بالمائة من كل مصادر الدخل!

الزيادة في الدخل القومي الأميركي GNP بين عامي 1983-1998 ذهبت كلها لطبقة 1% حصرياً والتي تمتعت بزيادة صافية قدرها 17% بينما باقي ال99% جميعاً هبط دخلهم بنسب متفاوتة.

يبدو أنه ليست هناك يد خفية بل قبضة حديدية ، قبضة ال1% ، والتي تجعل 12.5% من الأميركيين يعيشون تحت خط الفقر الفيدرالي الرسمي (أي حوالي 36 مليون شخص).

الخط الرسمي ليس هو الحقيقي فكلفة النقل في مجتمع لايمتلك وسائل نقل عامة كافية والضمان الصحي وغير ذلك يجعل خط الفقر الحقيقي أعلى ، حيث تذكر بعض الدراسات أنه يشمل 30% من السكان جلهم من الأطفال والنساء والسود!

أليست هناك أرض الفردوس ومنابع الثروة وبلاد من جد وجد ….

نعم ذاك زعمهم ولكن الأرقام تشير إلى أن 70-80% من الثروة مركوز في يد 10-20% الأغنى طوال التاريخ الأميركي ، وظلت تلك النسبة تتقلص باستمرار إلى أن تركزت الثروة في يد طبقة الواحد بالمائة (ذوي اليد الخفية).

كانت الرأسمالية تروج إلى أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء هي مرحلة عابرة من التطور وسينتهي الأمر برخاء عميم ، أما اليوم فالأدبيات الرأسمالية تروج لإبقاء الفجوة لأن ذلك مفيد للاقتصاد ، ولكن كيف يسكت الناس والملايين عن ذلك الوضع؟

يجب أن نفهم الوضع الطبقي للمجتمع الأميركي! ففيه ثلاث طبقات :

الطبقة الأولى: هي الطبقة التي لا تعمل لأنها لا تستطيع أن تعمل ومكونة من المشردين والمعاقين الفقراء والمنبوذين والذين ليست لهم بيوت ، ويقدر عددهم بما يقارب ثلاثة ملايين إنسان ، هم ال1% الأفقر.

الطبقة الثانية : وفيها أربع فئات أولاها العمال اليدويون غير المهرة ولهم حد أدنى من الأجور بالكاد يبقيهم على الرمق ولهم أقل الضمانات ، والفئة الثانية هي العمال اليدويون المهرة (أصحاب الياقات الزرقاء) وأجورهم منخفضة ويكافحون لعدم السقوط إلى الفئة الأولى! أما الفئة الثالثة فهم الأشخاص الذين يستخدمون عقولهم وليس أيديهم (أصحاب الياقات البيضاء) ومنهم الصحفيون والأساتذة والأكاديميون ويحاولون الصعود إلى المرتبة الأعلى! والفئة الرابعة تستخدم أفواهها كالموظفين الكبار والسياسيين والمحامون والأطباء الكبار ورجال الأعمال المستقلون … وعادة يتخيلون أنهم يقودون العالم ويقفون على قمته ، وفي الحقيقة فهم يعملون عند الطبقة التالية ، طبقة العاطلين عن العمل!

الطبقة الثالثة: هذه الطبقة لاتعمل لأنها لا تحتاج إلى العمل! ولكنها تحصل على أموال طائلة ، إنها طبقة الواحد بالمائة الأغنى ، صاحبة اليد الخفية، وهي التي تحوز على أرباح الطبقات كلها ، وقد يكون لبعضهم وظائف ولكنها مجرد طقس شكلي فالدخل الشخصي ليس من العمل نفسه بل من استثمارات رأسمالية ضخمة!

قد تتداخل بعض الطبقات ولكن بحدود ضيقة ، وكما في بعض الديانات الشرقية فالطبقة التي تلدك فيها أمك هي طبقتك النهائية بشكل عام ، ماعدا استثناء مدهش وأخاذ! وهو أن أصحاب المرتبة الثالثة (وهم أصحاب الشهادات العليا عموماً) يمكن لهم أن يتحولوا إلى المرتبة الرابعة [مع ملاحظة أن المرتبتين الثالثة والرابعة تقعان في الفئة الثانية].

هذه الإمكانية في الصعود تفسر كل السكوت على الاحتكار الذي تمارسه نخبة [اليد الخفية] والتي لاتتجاوز 1%.

إنه الوعد بالصعود والحلم بالثراء المدهش انتقالاً إلى المرتبة الأعلى ومع وجود عقيدة الفردية [أو عبادة الذات إن شئت] التي يستنشق الجميع وجودهم من خلالها يصبح قبول ذلك الظلم شرطاً من شروط اللعبة ، فلا بأس أن يحتكر الواحد بالمائة من الأفراد تسعين بالمائة من المقدرات مادام هناك احتمال [ولو وهمي] أن يصبح من نخبة [اليد الخفية].

اللعبة الذكية هو أن الواقفين عند المرتبتين الثالثة والرابعة هم الطبقة التي تصنع الرأي العام ، وستبقى تنقل قواعد اللعبة وتعممها على كل الطبقات

هناك استثناء آخر [واسع الطيف عمودياً شديد الضيق أفقياً] ، وهو الانتقال من الحضيض إلى القمة لبعض الفنانين أو الرياضيين ، ولكنه محدود جداً ولأصحاب مواهب خاصة [ويبقون مهما ارتفعوا غير ذي جذور مثل الطبقة العليا].

النجوم الذين يمكنهم الانطلاق بسرعة الصاروخ إلى القمة تسوقهم آلة الإعلام الجبارة كأيقونات وثنية ، ورموز تعين الوثنية الفردية على زيادة التجذر في النفس ، [فهم عملياً مجرد أدوات فنية لترسيخ الفكر الفردي أحد أركان الدين الجديد!].

تابع معي عزيزي القارئ هذه المعلومة المدهشة: إذا تأملنا قائمة فوربس Forbes list التي تشمل أغنى 400 شخص في أميركة لوجدنا أن 43.4 % من الأسماء ولدت أساساً في القائمة ، عبر إرث وثروات لم تبذل أي جهد للحصول عليها.

14% ولدوا قريبين جداً من القائمة ، و6% ورثوا ثروات ضخمة، ولكنها أقل من ثروات الأوائل .

7% بدؤوا من ثروة تفوق خمسين مليون دولار .

الباقون [الذين صنعوا أنفسهم] ولدوا غالباً في الشريحة التي تمثل أغنى 20% من الأشخاص ، وحصلوا على تعليم متميز مبكر جداً [أحد تلاميذي تباهى يوماً بأن مدرسته تخرج العباقرة ، وهي من أغلى المدارس رسوماً وقتها وهو منحدر من عائلة غنية ومحفوف بالعناية الدراسية والرفاهية في الحياة ، فقلت له ثق تماماً لو أننا أحضرنا من سوق الخضار صبياً عادياً ووضعنا له من الإمكانيات مثلما وضع لك لفاقك وكل رفاقك العباقرة ، ولو أننا جعلناك محله وحرمناك من زهرة الحياة الدنيا التي تنعم بها لكنت أكثر منه جهلاً وقد يصعب عليك أن تفرق الشمال من اليمين].

وهناك نسبة قليلة من الفنانين والرياضيين والذين لولا دعم المؤسسات الضخمة لهم لم يصلوا إلى ماهم فيه.

بيل غيتس غني العالم الأكبر العصامي المكافح الذي رُوج له [بل روج للدين الذي يستثمره] بأنه بدأ من مرآب منزله المتقدمين ، وأنه مثال عظيم للمكافحين العصاميين ، هذا العبقري لم يذكر للناس انتماؤه الطبقي! فوالده من أهم المحامين في ولاية سياتل ، ووالدته مديرة بنك مهم ، أما جد أبيه فكان حاكم الولاية! أما جد أمه فهو مؤسس أحد أهم البنوك الأميركية ، وغيتس نفسه الذي درس في أغلى الجامعات (جامعة هارفرد) كان قد درس في ثانوية كلفتها أكثر من كلفة الجامعة نفسها!! [ياللعصامي المسكين].

قد تحصل تغييرات طفيفة إلى الأعلى قليلاً أو إلى الأسفل ولكن (تداول الثروة) لايكون إلا بين الأغنياء والأغنياء فقط!

وهذا الأمر معاكس تماماً للتوجيه القرآني الذي يأمر بالإنفاق والبذل والجماعية ((كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم)) الحشر: 59/7.

هل نزلت هذه الآية للأميركان أم للمسلمين؟ إن الدين أساساً للعالمين ، ولكن فوق ذلك فنحن تحت خطر القصف الرأسمالي الذي ينشر جراثيمه أينما تحرك ، وهو أعلن صراحة (نظرياً وعملياً) أن الإكراه في الدين مبدأ رئيس يعمل من خلاله!

عندما وجدت زيادة كبيرة في الدخل حدد القرآن إلى أين يذهب المال ، إنه يذهب إلى الطبقات الأفقر ((كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم)) ، ومايلي تلك العبارة واضح تماماً … تماماً … بلا أي لبس : ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)) الحشر 59/7.

تتمة الآية استثمرتها المؤسسة الدينية التقليدية في جوانب ضيقة ، وقد يكون الحرص على اللحية عند البعض وعدم نتف حواجب النساء عند آخرين أكثر خطورة من تصدع الأمة ، ويقول الأستاذ العمري أنه لم يحصل ولا حتى مرة واحدة أن تحدث أحد عن تداول الثروة واحتكار الأغنياء لها [تحدث عن الأمر بطرق مختلفة أشخاص (قد لايكونون من التقليديين) مثل سيد في العدالة الاجتماعية والإمام الغزالي –المعاصر- في كثير من كتبه، والأستاذ راشد الغنوشي في كتابه الحريات العامة في الدولة الإسلامية ، والدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه الإسلام والوعي الحضاري ، والعلامة القرضاوي في سفره العظيم عن فقه الزكاة ، وآخرون … كما أعرف خطيباً كان يؤكد على تلك المعاني في كثير من خطبه يوم الجمعة قبل أن يعزله الظالمون … ولكن ينبغي الإقرار أن كل ذلك الحديث شيء بسيط جداً أمام مرارة المأساة].

لماذا تنتصر الهوامش على المتون ، وهل ارتبطت المؤسسة التقليدية بالسلطة [السياسية أو المالية] فآثرت إغراق الناس في التفاصيل كي تلفت الأنظار عن احتكار السلطة أو المال [مقابل فتات وطموح الصعود إلى فئة أعلى وعدت به اليد الخفية!!] أم الأمر مجرد خطأ فني …. لايهم فالنتيجة واحدة!

إن الإسلام لا يترك مسألة توزيع الثروة والتوازن الاقتصادي والعدالة الاجتماعية من دون تدخل!

[إن الإسلام أيها الناس يتدخل ، نعم يتدخل في توزيع المال] ، ((كي لايكون دولة بين الأغنياء منكم)).

الإسلام يتدخل لإيجاد توازن اجتماعي ويقلص الفجوة بين الأغنياء والفقراء …شاء آدم سميث أم أبى … فالتدخل من أركان الإسلام وليست الزكاة التي يطلبها الإسلام من الغني ويعطيها الفقير هي 2.5% أو العشر أو نصف العشر .. الزكاة هي نقطة التوازن وهي حق معلوم وشعيرة عبادة ويد ظاهرة في إقامة الحق ، وعندما تتخلف الزكاة لسبب ما ، فإن في المال حقاً سوى الزكاة ، والتي تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم كما جاء عن النبي الهادي صلى الله عليه وآله وسلم.

لايمنع الإسلام الملكية الفردية بل يصونها [وإلى حد الأمر بقطع يد من يعتدي عليها] ، ولكنه لا يجعلها وحشاً كاسراً يلتهم كل مافي طريقه ، ولا يضع الإسلام حداً أعلى للملكية الفردية ولكنه لايسمح أبداً بالهبوط في الحاجات الأساسية حتى لأفقر العباد […(فما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جواره وهو يعلم) وهي ليست فلسفة خيالية بل بعدٌ تنفيذي صارم حريص على حقوق المستضعفين : (فمن أعطى الزكاة مؤتجراً فله أجره ومن منعها فإنا آخذوها وشطر مال ، عزمة من عزمات ربنا لايحل منها لآل محمد شيء) ..كما ورد عن النبي الهادي].

ليست الزكاة فضلاً من الغني بل واجباً شرعياً ، وليس لأحد مال فالمال مال الله ونحن مستخلفون فيه ، والزكاة صمام أمام ، وتسديد لدين المجتمع على كل فرد منا ، والأنا في الإسلام تبرز بقوة لتندغم في الجماعة لا لتلتهمها ، فالفرد للجماعة والجماعة للفرد والكل للإسلام!

نمو الرأسمالية يتجه نحو المال ، ونماء الإسلام يتجه لما هو أكرم ، يتجه إلى الإنسان ، ولن يكون في مجتمع الإسلام طبقة 1% تلتهم كل شيء ، لأن الكل يتدخل: الغني والفقير فيحصل التوازن في الأرض قبل أن تحويه جنة السماء.

فردوسنا أيها المسلمون مضمون على الله ((إن لك ألا تجوع فيها ولاتعرى * وأنك لاتظمأ فيها ولا تضحى)) طه:20/118-119. وليس ذلك فقط في الفردوس الأخير بل بدايته الفر دوس الأرضي الذي تظلله التقوى ويحفه الإيمان.

 

ملاحظة : في الكلمة الشهرية القادمة الحلقة الأخيرة من الحديث عن الدين الرأسمالي.

- من المواد الجديدة في هذا العدد : (يرجى عند عدم توفر المادة الرجوع إلى الصفحة في اليوم التالي فبعض الفقرات لم نتمكن من تحميلها بعد) وجزاكم الله خيراً مع الاعتذار للتأخر.

1- عامان على رحيل الإمام المظلوم المحدث الشيخ عبد القادر الأرناؤوط (انظر في الأعلام – الراحلون)

2- الإمام الجويني وغياث الأمم (ركن الدعوة).

3- أزمة القيادات في العالم الإسلامي للعلامة الدكتور عبد العزيز القاري (المناهج).

4- قصيدة للشاعر د. عبد الغني بن أحمد التميمي (تذكرة).

5- أسئلة وأجوبة إضافة إلى بعض الأناشيد التي أنزلت في العدد الماضي وفقرات أخرى

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كلمة الشهر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.