الجمود للأستاذ المفضال الشيخ محمد سعيد العرفي (الجزء الثاني)

للأستاذ المفضال علامة الفرات الشيخ محمد سعيد العرفي أحد الداعين باستمرار إلى اليقظة الإسلامية
(نشرت هذه المقالة في السنة الأولى 1935م) من مجلة جمعية التمدن الإسلامي

لولا جمود العقل الذي جرد الإنسان من الشجاعة الأدبية والجرأة لما نقل التاريخ أن الشخص الواحد من العدو كان يومئذ يأتي إلى القافلة المسلحة رجالها فيأمرهم بالوقوف وأن يربطوا أنفسهم بالحبال ويغلوا أيديهم فما أسرع ما يلبون طلبه ويفعلون بأنفسهم ما يريده منهم وعندئذ يكر عليهم فيقتلهم بسلاحهم عن بكرة أبيهم .
وهذا ليس بغريب فقد حصل الكثير منه في عصرنا هذا لاستيلاء الوهم على النفوس الصغيرة ـ وهي الأكثر أفراداً ـ فلم يُبق فيها جرأة على مقاومة الباطل ومناصرة الحق المشروع الواضح والاستبسال في سبيل الدفاع عنه ، وهكذا كلما انتشر الجمود استعرت نار الفتنة واستفحل الوهم وكثرت الأماني فتمزقت الأمة وأضاعت كيانها وصارت غير مستحقة للحياة .
على أن الجمود أجاز لتيمور في أواخر القرن الثامن وأول التاسع أن يزيل من عالم الوجود أنقاض الآثار المادية والأدبية التي هدمها التتر والأتراك حينما كانوا في خدمة البلاط العباسي وفي انقراضه من بغداد عام 656 هـ .
والجمود هو الذي أوهى قوى الأندلس فتقوض عز العرب منها واندرست معالم الإسلام وطمست معظم آثاره القيمة العظيمة لاشتغالهم بالأمور التافهة عن الأمور المتعلقة بحياة الأمة واستبدالهم الظن باليقين .
والجمود هو الذي سهل للسلطان سليم في الربع الأول من القرن العاشر أن يستحوذ على الخلافة الإسلامية من عباسي مصر ويسعى لتثبيتها بإيجاد حرب مذهبية بين السنة وبين الشيعة في محارباته مع إسماعيل شاه الصفوي وما بعدها فما زلنا نتجرع مرارة هذا النزاع حتى الآن رغماً عن أن البلاء قد أحاط بنا فعظم الكرب واشتد الهول وضاقت على المسلمين الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم فزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ، لأن الجمود يحول دون التفكير بأن هذا نزاع تافه في الحقيقة ما دام الجميع يؤمنون بكتاب واحد مصون من التغيير والتحريف .
وأنى لهم أن يتفقوا ؟ ومن أراد الوقوف على معاني الآيات والتدبر بها فإنه يحجر عليه ويمنع من تفسيرها وإن كان وفق القواعد العربية ولا يباح له إلا ما ورد من أقوال العلماء المدونة تفاسيرهم قبل قرون ونحن نقول : جزى الله المفسرين أفضل الجزاء ولكن ألا يجوز أن تكون الوجوه التي أوردوها كانت ملائمة لأفكار عصرهم أو لظروف اقتضت ذلك ولكن تلك الآراء غير صالحة لهذا العصر
ولربما توجد بعض أقوال لا توافق معنى الآية الصريح وغير منطبقة على روح الدين ولكنها مضى على تدوينها مرور زمن أو أزمان وهو حجة وإن كان خطؤه واضحاً في حين أن كتاب الله منزه عن الخطأ وصالح لكل شخص وأمة في كل زمان ومكان .
لولا الجمود لما بقي القرآن كنزاً مخفياً تحتاطه الطلاسم الكثيرة وأقل ما فيها التهويل على المسلم المستطيع بالإقدام على تفسيره وتخويفه من هذه الجريمة حتى لا يجرأ على الخوض في معانيه وإن كانت واضحة جلية .

أما السُنَّة فحدث عن الجمود فيها ولا حرج ومن أغرب أنواعه أن المقلد الجامد يستدل بجزء من الحديث ويرفض بقيته لأنه غير موافق لمذهبه ومع هذا فهو مقتنع بهذه العقيدة جازم بصحتها لأن الجمود أوجب عليه ذلك وتلقاه عن بعض الشيوخ أو وجده في كتاب فما وسعه إلا الرضاء والقبول وإن كان غير معقول .
ولقد تغلغل الجمود في أذهان كثير من المقلدين الجامدين حتى بلغ الأمر بأحدهم أن لا يتجرأ على الفتيا بقول إمام الذي قلده إذا قرأ في بعض كتب المتأخرين خلافه لأنه متيقن أن ذلك المتأخر قد اطلع على أقوال إمامه حتماً فهو أعرف منا بها لأن الجمود جعله يعتقد أن كل متأخر قد اطلع على جميع التفاسير وعلى الأحاديث النبوية كلها ووقف على أقوال جميع من سبقه وعرف الغثَّ من السمين فهو لا يخفى عليه شيء من ذلك ، وفي هذا من البلاهة ما تمج العقول سماعه فضلاً عن الإيمان به ولكنك لو ناقشته بالدليل تريد هدايته إلى سواء السبيل رماك بالطعون والقذف والشتائم هيلاً بغير كيل .
وبالأحرى أن يرفض أقوال أئمة المذاهب الأخرى أو يطعن فيها أو يشمئز منها فعلاً وإن زعم التسليم بها قولاً بل إن بعضهم لم يسلمها إلا مرجوحة وإن وافقت قول إمامه .
قال في جمع الجوامع وشرحه للمحلي في الكتاب السادس في الترجيح والتعادل في ترجيح أحد قولين للمجتهد :
ثم قال أبو حامد الإسفرايني : مخالف أبي حنيفة منهما أرجح من موافقه فإن الشافعي إنما خالفه لدليل أهـ
وقال البناني محشيه : الظاهر أن غير أبي حنيفة كمالك مثله أهـ . ج 2 ص 230 ونقل المحشي العطار مثله عن الشهاب عميرة أهـ ج 2 ص 367
ولا سيما أن أمثال هؤلاء الذين ابتلى الله بهم الأمة ، المفرقين لكلمتها الدينية والدنيوية ، يغذيهم أناس غير قليلين يريدون وراء ذلك دوام انقسام الأمة وافتراق كلمتها لتكون للعدو لقمة سائغة ، وقد تم لهم من بعض النواحي ما أرادوه غير أن خشية انتباه الأمة يضطرهم إلى التشديد في الجمود والمبالغة فيه حتى يطول نومها فتبقى راكدة خانعة ذليلة أو أنها تفيق فيضطرها الضغط إلى الانفلات والخروج على الدين والمروق منه فالطعن فيه وهذا بغية شعوب غير قليلة من أعداء الإسلام لأن الجمود إذا بقي معشعشاً في أدمغة المنتمين إلى العلم ورئاسة الدين ففي أدمغة العوام أكثر فتحصل نفرة عامة من الدين ويبقى الإسلام في معزل عن الأمم الأخرى أو أنهم ينظرون إليه نظرة استخفاف وازدراء عندما يرون المسلمين أضعف الأمم قاطبة بين أجناس أهل الأرض .

لا شك في أن شخصاً ينتمي إلى دولة ذات كيان في الهيأة الاجتماعية قد تأنف نفسه من الانتماء للإسلام وإن درس أحكامه وتبين له وجه حقيقتها ومطابقتها للعقول لأنه يظن الدين سبب انحطاطهم وتقهقرهم فيقول : ” لو كان في هذا الدين خير لاستفاد منه المتمسكون به ولسابقوا الأمم التي تقدمت في ميدان الحياة ” ، وهذا الذي حذرنا منه الله منه بقوله : { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } سورة الممتحنة ـ الآية 5 مع أن جمود المسلمين على العادات ونبذهم كتاب الله وراءهم ظهرياً وجعلهم العلاقة مع الدين اسمية فقط لتمسكهم بالقشور وتركهم اللباب هو الذي أخرهم وأورثهم ذلة وصغاراً على أن المقارنة بين كثرة المسلمين الحاضرين مالاً ورجالاً مع الحقارة والهوان وبين قلة المسلمين الأولين مالاً ورجالاً مع العزة والسيادة على العالم تبين الحقيقة واضحة ملموسة.
هذه بعض المصائب التي أحاطت بالدين من الجمود وفروعه فأصبح معتقداً صورياً جامداً بعد ما جعله الله سمحاً سهلاً ليناً كافلاً لسعادة الدنيا والآخرة يتسع لكل نقد وبحث لأنه نظري عملي في آن واحد .
وعلى هذا نقدر أن نقول : إن الجمود قد أوهى القوى وهدم أركان الدين وأخرجه من نافع مصلح روحاني إنساني محض خاطب العقل والروح والبدن معاً إلى هيكل صوري أجوف ذو طقوس ظاهرة وتكاليف شاقة تعلقت باللسان والأعضاء الظاهرة فوقفت عند الحناجر ولم تصل إلى القلب حتى يظن الجهول به أنه عدو لدود للعقل والنفع العام في حين أنه جاء محرراً للعقل من قيوده ورحمة للعالمين .
ثم بلغ بنا الجمود في فهم الحياة أن أحدنا إذا وجد كسرة يسد بها رمقه في حياة ذليلة وعيش نكد ظن أنه قضى لبانته من هذه الحياة الدنيا وأثنى على تلك الحال المؤلمة بأبلغ عبارات المدح والإطراء اعتماداً على ما دعت إليه الحمقى والمغفلون من المتسمين بالعلم والدين ، أو استمداداً من أفكار الملاحدة الذين اتخذوا دين الله هزواً ولعباً فركنوا في تنفيذ خطتهم وترويج عملهم إلى المتنطعين والجامدين الذين جعلوا دين الله وسيلة للارتزاق فحسنوا للمسلم القعود والبطالة وشوقوه إلى الكسل والرضاء بالذلة فاعتقد الأبله أن هذا قصارى ما يرتجيه من الحياة وبذلك تأخر المسلمون ولا سيما العرب منهم أشواطاً بعيدة عن غيرهم في حين أن دينهم أوجب عليهم أن يكونوا السابقين في مضمار الحياة ويبقوا الدماغ المفكر للبشرية حتى يكون مقامهم أمام شعوب العالم أجمعه كي يمثلوا الشرف والرفعة والفضيلة والعلم والعدل والسمو والكمال بأتم معانيه في الأزمنة والأدوار كلها .
لكن الجمود قد سيطر على العقول وقيدها بالعادات السافلة والأخلاق المنحطة وأطلق عنان الجهل وأخرجه من سجنه الذي حبسه فيه الدين الإسلامي فانتشرت الضلالة وعم الفساد وهجر المسلمون المقاصد واستعاضوا عنها بوسائل غير مثمرة لا علاقة لها بالمقصود فتفرقوا شيعاً وأحزاباً يلعن بعضهم بعضاً وتباعدوا عن الاتحاد والاتفاق لأن عين الحقيقة طمس الجهل معالمها فأصبحت لا تَرى ولا تُرى .
أما ما يعود على الأمة بالنفع وعلى صاحبه بالخير فإن معرفته أو دوام العمل به أشبه بوميض البرق لكثرة المرجفين والمفسدين فيحولون دون رواجه إلا إذا اختبأ وراءه الدمار والهلاك وبذا قضوا على تقديس المصلحة العامة ومحوا أثرها من أدمغة الرأي العام الإسلامي حتى لم يعودوا يتصورونها فضلاً عن أن يحترموها أو يعملوا لأجلها بعد ما كانت هدف كل مسلم وكانت سر نجاح المسلمين في جميع الأدوار والشئون .
واستحكم الجهل في الأدمغة فأفسد خيالها وعطل تصورها الصحيح فلم يستطع واحد منها أن يخترع شيئاً ينفع الأمة أو يكون له أثر في الهيئة الاجتماعية .
نعم قد تشذ بعض الأدمغة الجبارة بإيجاد شيء ذي نفع ولكن أمامه ألوفاً من المفسدين يهدمون ما بناه ويبنون على أنقاضه أماني لم تتعد حدود الخيال والتصور المستحيل الوقوع أو الشبيه به .

واستولى الجمود على الأعضاء فلم تصلح لأن تعمل فيما خلقت له وبذلك قصرنا عن مجاراة غيرنا من الأمم الراقية ولم نقلدهم إلا في السفاهة والأمور التافهة فصرنا ننتقل من سيء إلى أسوء حتى ضاق العيش بنا ولم نقدر على الاستفادة من أراضينا الخصبة الواسعة بعد أن كان يعيش على ظهرها أضعافنا عشرات المرات .
أما معادننا الكثيرة فحرام علينا أن نستحصل منها ثمرة لأن الجمود قد حكم ـ وحكمه واجب الإطاعة ـ بأنها وقف على غيرنا وهدية لعدونا نقدمها له عن طيبة نفس ورضاء خاطر وبلغ الأمر بنا أن أصبحنا نعد ذلك من المآثر التي نباهي بها ويفاخر بها المتزعمون منا الذين قدمتهم ظروف معلومة وهم أعضاء غير نافعة لا يستحقون إلا بتراً .
ذلك جزء يسير من أضرار الجمود الذي دخل في شئوننا كلها فعطلها وألقى الأمة في هوة سحيقة فلم تعد تسمع صوت مصلح ولا وصراخ مرشد ولا إهابة هاد لأن كل تشبث يتعلق بنهضة هذه الأمة هو عقيم الإنتاج ما دام الخمول ضارباً أطنابه .
إذاً يسوغ لنا أن نصارح حضرات القراء بالجملة الآتية : إن هذه الأمة لا يصلحها إلا ما أصلح أولها والذي أصلح أولها تحرير العقل من عبودية الهوى والركود ونبذ العادات المضرة وإن تأصلت ، وهجر الأعمال المفسدة وإن قدست .
فأول الواجبات بعد التوحيد الحقيقي كسر قيود الجمود وتمزيق شمله تمزيقاً لا يتمكن بعده من العودة والالتئام كما فعل به الدين الإسلامي فإنه لو لم يجعل الجمود هباء منثوراً لما استطاعت الأمة العربية أن تقوم بتأسيس مجدها العظيم الخالد (1).

دير الزور ـ محمد سعيد العرفي

(1) (التمدن الإسلامي) نرى أن من خير الوسائل للقضاء على الجمود تعارف المتألمين منه وسعيهم المنظم الأدبي المستمر للتنبيه على أضراره بإلقاء محاضرات وكتابة مقالات في شتى الأنحاء ، وقد أخذت وطأة الجمود ـ حسبما يتراءى لنا ـ تضمحل بفضل تنبيه فريق من مفكري الأمة على أخطاره ومعاداته ولو عن حسن نية إلى الشريعة الإسلامية التي تبرأ منه وهي السمحة الخالدة التي كانت خاتمة الشرائع السماوية لأنها تتعهد بما يكفل للبشرية الحياة السعيدة التقية ، فالإسلام يأبى الجمود كما تأباه الحياة .

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف من كنوز التمدن الإسلامي, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.