رســالة غـيرة وغيــظ مـن تركيـــا …الاستاذ فهمي هويدي

كلما زرت تركيا عدت مسكونا بمشاعر الغيرة والغيظ‏,‏ وهو ما انضافت إليه هذه المرة مسحة حزن لا أستطيع كتمانها‏.‏

(1)‏ كانت مناسبة زيارة الأسبوع الماضي أنني دعيت للمشاركة في مؤتمر للحوار المصري التركي‏,‏ نظمه برنامج الدراسات الحضارية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالتعاون مع منتدي‏’‏ ابانت‏’‏ التركي المختص بإدارة الحوار مع الثقافات الأخري في الشرق والغرب‏.‏ وكان المؤتمر بمثابة حلقة في سلسلة الحوارات المستمرة بين المصريين والأتراك منذ الفتح العثماني لمصر في عام‏1517‏ م‏,‏ والتي تخللتها مراحل من الفتور النسبي‏(‏ إبان عهد محمد علي باشا وما بعده‏),‏ ومراحل أخري من الجمود خصوصا في عقب ثورة يوليو عام‏1952.‏ إلا أنه من الثابت أن الصلات الاجتماعية لم تنقطع طوال الوقت‏,‏ حيث ظلت استانبول مقصدا للطبقة الأرستقراطية المصرية‏,‏ حيث يذكر صاحب كتاب‏’‏ الأتراك في مصر‏’_‏ الدكتور أحمد البحيري‏_‏ في دراسته التي كانت أطروحته لنيل الدكتوراه‏,‏ أن المصريين الذين زاروا المدينة في عام‏1910‏ وصل عددهم إلي خمسة آلاف شخص‏.‏

خلال السنوات الأخيرة نشطت السياحة بين مصر وتركيا‏.‏ لكن التجار المصريين أصبحوا ينافسون السياح في العدد‏,‏ بعدما حققت الصناعة التركية قفزات بعيدة أهلتها لدخول السوق الأوروبية والتوغل في جمهوريات آسيا الوسطي‏.‏ وغزو العالم العربي من أقصاه إلي أقصاه‏.‏ وهي الطفرة التي تستثمرها منظمات رجال الأعمال الأتراك وعلي رأسها منظمة‏’‏ الموصياد‏’‏ التي وجهت نشاطها للعالم الإسلامي وحققت نجاحات كبيرة في أرجائه‏.‏

لا يقصر الأتراك في التعبير عن الزهو بما حققوه في المجال الاقتصادي‏,‏ الأمر الذي أهل بلادهم لأن تصبح من أهم‏15‏ دولة صناعية في العالم‏,‏ إلي جانب أنها تحتل المرتبة السادسة بين أفضل الدول المنتجة والمصدرة للمنسوجات‏.‏ إلي غير ذلك في المعلومات التي تبهر الزائرين‏,‏ في حين أنها تشعر أمثالي من المصريين بالخجل‏,‏ لأن السلطان سليم حين فتح مصر في أوائل القرن السادس عشر انتابه ذات الشعور بالانبهار إزاء ما وجده بها من حيوية وتقدم في الفنون والعلوم‏,‏ فاستقدم إلي الأستانة عاصمة الدولة العلية‏.‏ أعدادا كبيرة من الحرفيين والمهنيين المهرة كما جلب معهم بعضا من أهل العلم‏,‏ علي ما يذكر المؤرخ المصري‏’‏ ابن إياس‏’,‏ وبقي هؤلاء هناك عدة سنوات نقلوا خلالها خبراتهم ومهاراتهم إلي الأتراك ثم أعادهم السلطان سليمان الأول إلي مصر بعد ذلك‏,‏ في حين فضل بعضهم البقاء هناك‏.‏

تضاعف شعوري بالخجل واختلط بفيض من الحزن والانكسار‏,‏ حين قرأت في الصحف التركية ذات صباح أن سفينة محملة بالمصريين الفارين من البطالة والفقر حاولوا التسلل إلي تركيا‏.‏ لكنها لم تصمد أمام شدة الأمواج‏,‏ فغرقت بهم علي سواحلها‏,‏ وأغرقت معها أحلام‏90‏ شابا مصريا‏.‏ وهي فاجعة دفعتني إلي المقارنة بين زمن ذهب فيه المصريين إلي تركيا لينقلوا إليها فنون الصناعات والحرف والعلوم‏,‏ وزمن آخر قصدها فيه المصريون عاطلين ليغرقوا علي سواحلها‏.‏ وكان وفد الباحثين المصريين المشاركين في مؤتمر الحوار من أبناء ذلك الزمن الثاني‏.‏

(2)‏ ضمت المجموعة ثلاثة عشر شخصا‏,‏ كانوا خليطا من أساتذة العلوم السياسية والمتخصصين في الشأن التركي والمهتمين به‏,‏ تقدمتهم الدكتورة نادية مصطفي أستاذة العلاقات الدولية ومديرة برنامج حوار الحضارات‏.‏ أما الفريق التركي فقد كان أغلبه من الأكاديميين وقلة منهم جاءوا من عالم السياسة‏,‏ وفي المقدمة من هؤلاء السيد يشار ياكيش‏,‏ السفير الأسبق في مصر‏,‏ الذي عين لاحقا وزيرا للخارجية‏,‏ وهو الآن عضو في البرلمان عن حزب العدالة والتنمية‏.‏

شأن كل نجاح يأسر الناظرين ويجعلهم يصرفون النظر عن كل ماعداه‏,‏ فإن إنجازات التجربة التركية ظلت مخيمة علي الحوار طوال الوقت‏.‏ وهي هيمنة مستحقة‏,‏ ترشح الواقفين وراءها لنيل مختلف جوائز التقدير والإعجاب‏.‏ إذ في عالم السياسة فإن الجائزة الكبري التي ينالها أهل الحكم في أي بلد هي رضا الناس‏,‏ واقتناعهم بأن استمرار الحاكمين في مواقعهم يضيف إلي حياتهم ويقلل من معاناتهم ويعطيهم أملا في مستقبل أفضل‏.‏ وهذا بالضبط ما فعله حزب العدالة والتنمية‏,‏ حين خاطب المجتمع بلغة الإنجاز‏,‏ التي تردد صداها في بيوت الناس وجيوبهم‏.‏ من ثم فإنهم لمسوا ذلك الإنجاز ولم يقرأوا عنه في الصحف فقط‏.‏ وهو ما حدث حين تضاعف متوسط دخل الفرد في أربع سنوات من‏2500‏ دولار في الشهر إلي خمسة آلاف دولار‏,‏ وحين انخفضت نسبة التضخم في الفترة ذاتها من‏37%‏ إلي‏9%,‏ وحين استقر سعر الليرة التركية

وتجاوزت مرحلة التقلبات المفاجئة‏,‏ وحين وزعت الكتب والكراريس بالمجان علي عشرة ملاين تلميذ بالمدارس الحكومية في المرحلة قبل الجامعية‏,‏ وحين تم بناء‏300‏ ألف مسكن للعائلات الفقيرة‏.‏ وحين تم توزيع مليون ونصف المليون طن من الفحم علي المعوزين في شتاء كل عام‏.‏ ذلك غير زيادة قيمة الصادرات من‏36‏ مليار دولار إلي‏95‏ مليارا‏,‏ وتخفيض ديون تركيا لدي صندوق النقد الدولي من‏23‏ مليار دولار إلي‏9‏ مليارات فقط‏(‏ رئيس البنك المركزي في أنقرة صرح بأن بلاده لم تعد بحاجة إلي صندوق النقد‏),‏ وشق طرق في أربع سنوات بطول‏6500‏ كيلو متر في حين أن كل ما تم شقه منذ قيام الجمهورية قبل‏80‏ عاما لم يتجاوز‏4500‏ كيلو متر‏…‏ إلخ‏.‏

حين يكون الإنجاز بهذه الصورة فإن أي قادم إلي تركيا وأي متحدث عنها لا يملك سوي أن يحني رأسه تقديرا لتجربتها‏,‏ ولابد أن يعذر إذا ظل بصره مشددا إلي الوجه الإيجابي في التجربة‏,‏ ويصبح النظر إلي ما هو سلبي فيها من قبيل التصيد والتنطع غير المستساغين‏.‏ بوجه أخص فإنه حين يكون الزائر قادما من مصر فإن تعامله مع التجربة ينبغي أن ينطلق من منظور التدبر والتعلم قبل اي شئ آخر‏.‏

(‏ 3)‏ تطرقت المناقشات إلي ملفات عديدة في التجربة التركية‏,‏ التي استأثر ملف‏’‏ العلمانية‏’‏ بالقسط الأكبر منها‏.‏ وللعلم فإن العلمانية في تركيا ولدت دينا له قداسته وكهنته‏,‏ وله معتنقوه المتطرفون والأصوليون ومنهم‏’‏ الوسطيون‏’‏ والمعتدلون‏.‏ إلا أن مفهومها تطور بمضي الوقت‏.‏ وكان أهم ما في ذلك التطور أنها تحولت من مخاصمة الدين إلي مصالحته‏.‏ وهو ما دعا السيد يشار ياكيش إلي اعتبارها علمانية‏’‏ إيجابية‏’‏ في موقفها من الدين وليست سلبية‏.‏ فهي لا تعزل الدين عن المجال العام‏,‏ وإنما تحدث تمييزا بينه وبين السياسة‏.‏ وهذا الحضور للدين في المجال العام تمثل في الدور الكبير الذي يقوم به الوقف في المجتمع التركي‏,‏ علي ما سنري بعد قليل‏,‏ الأمر الذي حوله إلي رافعة مهمة في تنمية المجتمع والنهوض به‏.‏

والمقصود بالتمييز بين ما هو سياسي وما هو ديني‏,‏ أن القرار السياسي لا يعتمد علي المرجعية الدينية‏,‏ لكنه لا يتصادم معها‏.‏ وبهذا التطور في مفهوم العلمانية‏,‏ الذي في ظله تم عبور مرحلة الخصومة مع الدين ومحاربة المتدينين‏,‏ فإنه تم فض الاشتباك بين العلمانيين والمتدينين‏,‏ الأمر الذي مكن حزب العدالة من أن يعبر عن التزامه بالعلمانية في صيغتها المعدلة‏.‏

في استجلاء هذه النقطة‏,‏ ذكر بعض المتحدثين الأتراك أنه حين تكون نسبة المسلمين في البلد‏99.6%,‏ وحين تبين استطلاعات الرأي أن ثلثي الشعب التركي من المتدينين‏,‏ وأن الثلث فقط قريب من العلمانية بتنويعاتها المختلفة‏,‏ فإنه يتعذر علي العلمانية المخاصمة للدين أن تستمر فيه‏.‏

استطرادا من هذه النقطة قال متحدثون آخرون إن التطوير أو التعديل لم يكن مقصورا علي مفهوم العلمانية‏,‏ ولكنه أيضا طال أفكار الناشطين الإسلاميين‏,‏ كما كان له صداه في موقف الجيش‏.‏ وهو ما يشهد به مسار الحركة الإسلامية التي قادها نجم الدين أربكان في السبعينيات وحققت نجاحات محدودة‏,‏ لا تقارن بالنجاح الكبير الذي حققه حزب العدالة والتنمية‏,‏ الذي خرج قادته من عباءة أربكان ومشروعه‏,‏ الامر الذي مكن الحزب من الحصول علي أغلبية كبيرة في الانتخابات‏,‏ ومن ثم الوصول إلي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة‏.‏ والفرق الجوهري بين مشروعي أربكان وأردوغان‏,‏ أن الأول خاطب المجتمع بلغة الداعية الذي يتطلع إلي إصلاحه‏,‏ في حين أن أردوغان وجماعته خاطبوا المجتمع بلغة الفاعلين المنجزين الذين يتطلعون إلي خدمته والنهوض به‏.‏ وكانت النتيجة أن الناس انحازوا إلي الفاعلين المنجزين وليس إلي الدعاة القوالين‏.‏

الجيش كانت له لغته التي اعتاد أن يتعامل بها مع الأنظمة التي يشك في صفاء علمانيتها‏,‏ وله ثلاثة انقلابات شهيرة في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات‏,‏ أطاح فيها بثلاثة أنظمة وأعدم واحدا من رؤسائها‏(‏ عدنان مندريس‏).‏ وانقلابه الرابع الذي تم في التسعينيات ضد نجم الدين أربكان أعتبر أبيض‏,‏ لأنه اضطرهم للاستقالة وأسقط حكومته مستخدما في ذلك عضلاته دون سلاحه‏.‏

هذه المرة لم يكن الجيش سعيدا بحكومة حزب العدالة‏,‏ حتي قاطع رئيس أركانه حفل تنصيب رئيس الجمهورية عبد الله جول‏,‏ لكنه لم يذهب إلي أبعد من التعبير عن الامتعاض لا أكثر‏.‏ وهذا موقف غير مألوف من جانب قادتهم‏,‏ ربما كان يمثل استجابة لضغوط الاتحاد الأوروبي الذي تتطلع تركيا للإنضمام إليه‏,‏ لكن أحدا لا ينكر أن المناخ الجديد الذي حل بالبلاد له دوره الأكبر في تغير موقفه‏.‏

المناقشة المهمة جرت حول تفسير ذلك التحول‏,‏ ففي حين قال أحد الأتراك إن تطبيق النظام العلماني هو الذي أدي إلي تهذيب مختلف الأطراف‏,‏ فإن أكثر من متحدث اعتبروا أن الديمقراطية هي صاحبة الفضل فيما جري متحفظين علي الربط التلقائي بين العلمانية والديمقراطية‏,‏ ومذكرين بأن الاستبداد في العالم العربي‏_‏ ماضيه وحاضره‏-‏ مرتبط بالنظم العلمانية‏.‏

(4)‏ لا يتسع المجال لاستعراض المناقشات التي جرت حول بقية الملفات‏,‏ لكنني لا استطيع أن اختم دون أن أتوقف عند موضوعين اثنين حظيا بقدر غير قليل من الاهتمام أثناء المؤتمر‏.‏ الأول يخص وضع المجتمع المدني في تركيا‏,‏ والثاني يتعلق بمسألة الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي‏.‏ ذلك أن قوة المجتمع المدني في تركيا أصبحت احد أهم مميزات تجربتها‏.‏ وهذه القوة لا ترجع فقط إلي تعدد الأحزاب والمنظمات الحقوقية‏,‏ ولكنها مستمدة بالدرجة الأولي من الحضور الكبير لمؤسسات الوقف الأهلي‏,‏ التي أصبحت عصب التنمية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في البلد‏.‏ ذلك أنه ما من مجال لحركة المجتمع إلا وله وقف يموله و يدعمه‏.‏ حتي بلغ مجموعها‏780‏ ألف وقف أهلي وخيري‏,‏ اغلبها يغطي الأنشطة الاجتماعية والخيرية‏,‏ والبعض الآخر يختص بأنشطة مغايرة‏,‏ مثل وقف التصحر وتعزيز القوات المسلحة والبحث العلمي والنشاط الثقافي والمتحفي ومعالجة الأطفال المصابين بالسرطان و العمل الصحفي‏…‏ الخ‏.‏

وهذه الأنشطة المتغلغلة في مختلف نواحي الحياة‏,‏ جعلت المجتمع شريكا وفاعلا في صياغة حاضره ومستقبله‏,‏ فضلا عن أنها وفرت له قدرا من العافية والمناعة جعلته في موقف الند من السلطة‏,‏ وليس التابع لها‏.‏

موضوع الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي الذي أفاض فيه المتحدثون الأتراك باعتباره إحدي ركائز السياسة الخارجية‏.‏ و قد كان واضحا من كلماتهم أن الأمل في تحقيق الانضمام يتضاءل بمضي الوقت‏.‏ ليس فقط بسبب التسويف الأوروبي المستمر منذ عام‏1959(‏ الذي انضمت فيه تركيا إلي المجمع الاقتصادي الأوروبي‏),‏ ولكن أيضا بسبب تزايد الاعتراض من جانب الحكومات الأوروبية ـ الرئيس الفرنسي ساركوزي احدث المعترضين ـ التي يتحفظ بعضها علي انضمام دولة تضم‏72‏ مليون مسلم إلي الاتحاد‏.‏ حتي أن احد المتحدثين قال أن بعض المتعصبين الأوروبيين يعلنون أن أوروبا لم تسمح لتركيا في الماضي بأن تدخل إلي أوروبا بقوة السلاح‏,‏ وأولي بها أن ترفض دخولها الآن وهي مسالمة وبغير حرب‏.‏

في هذا السياق فان احد الأتراك لفت النظر إلي أن رؤساء دول الاتحاد الأوروبي الـ‏27‏ حين وقعوا في لشبونة أخيرا معاهدتهم الإصلاحية‏_‏ التي حلت محل الدستور‏-‏ فان احتفالهم بالمناسبة أقيم في دير‏’‏ جيروتيموس‏’‏ بما يشير ضمنا إلي الطابع المسيحي للاتحاد‏,‏ الامر الذي قد يراد به توصيل رسالة تعلن انه لا مكان لتركيا في المنظومة الأوروبية‏.‏ يشار ياكيش وزير الخارجية السابق حين تحدث في الموضوع قال إن حسم مسألة الانضمام للاتحاد الأوروبي سوف يستغرق عشر سنوات‏.‏ ونقل عن رئيس الوزراء طيب اردوغان في هذا السياق قوله أنه خلال هذه الفترة ستستمر تركيا في إصلاح أوضاعها الداخلية‏.‏ وقد لا يكون الرؤساء الأوروبيون المعترضون الآن موجودين في السلطة وقتذاك‏,‏ وربما تكون تركيا في وضع يسمح لها بالعزوف عن الانضمام للاتحاد‏.‏

إن ما فعلته تركيا ليس فيه سر‏,‏ لان التقدم له أسباب من اخذ بها فاز‏,‏ ومن تخلي عنها خاب وانتكس‏.‏ ولا يقف الأمر فيه عند حدود الرغبة‏,‏ وإنما لابد لتلك الرغبة من عزيمة قوية وإرادة مستقلة‏.‏ وذلك سبب إضافي لما عانيته في الرحلة الأخيرة من غيرة وغيظ وحزن‏.‏

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف ركن الدعوة. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.