النَّشِـيدُ الإسـلامي … إلى أين ؟! بين فقهِ الأصل .. وضرورةِ البدائل .. ونُذُر العولمة

يبدو أن كل الأمم تتنبه إلى الذوبان وتحاول البحث عن جذورها ، ولكن في الأمة المسلمة نوعاً ليس من التعاطي الإيجابي مع مكونات الثقافات الأخرى ، بل من التماهي السلبي والذوبان …. وتضخ وسائل الإعلام ومواقع التوجيه وحتى المنابر نوعاً من التمييع للأمور .. ولا بد من مكافئ ومقابل وقد كتب العالم الفاضل الأستاذ الشيخ محمد مجير الخطيب الحسني مقالة نافعة ، ليست موجهة لعموم الناس بل للدعاة والعلماء والموجهين للأمة لعلهم … يتوازنون …

بسـم الله الرحمـن الرحـيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على معلم الناس الخير سيدنا محمد و على آله و صحبه و أتباعه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين .
النَّشِـيدُ الإسـلامي … إلى أين ؟!
بَينَ فِقْـهِ الأصْلِ … و ضَـرورَةِ البَدائِلِ … ونُـذُرِ العَولمـةِ …

ما هو الفهم الأمثل للإسـلام ؟! وكيف ندعو إليه في عصر انقطع فيه التوارث العملي لبعض أحكامه ، وكاد أن ينقطع التوارث لبعضٍ آخر ، وبقيت تلك الأحكام في الورق المعلَّق فمن الناس من يؤمن بما فيه ، ومن الناس من يجحده ، ومن الناس من يجادل فيه أو يخاصم ؛ لشبهة يجدها أو لهوى يتبعه ؟
هل علينا أن ندعو الناس ببساطة إلى الالتزام بكل جزئيات ذلك الإسلام فضلاً عن كلياته كي يكونوا الآن فجأة صوراً تحاكي سيدنا مصعب بن عمير رضي الله عنه ؟ يعني باختصار أن نُسلم العصر! وهل عندنا عِدَّة لذلك ؟ وهل نستطيعه ؟ وهل يتقبل الناسُ ذلك – من المسلمين قبل غيرهم - ؟! …
أم إن علينا أن نسلك سبيل الراحة في الدنيا ! وأن نعصرن الإسلام ونتخفف من شموليته التي تسبب كثرة الأعداء و المتوجسين خيفة ، ونتخلى بالجملة عن كثير من تفاصيله ، ونتهاون في العناية بخصائص الـمجتمع المسلم و الشخصية المسلمة التي لا تنسجم بحال مع أغلب القيم الثـقافية المعاصرة ؟! بل أن ننسى تماماً أن الإسلام دين له نظام دولة و أحكام مجتمع ؟! أو هل علينا أن نبحث في ركام الفتاوى الشاذة عبر التاريخ لنظفر بشيء نتعلق به تعلق الغريق بالخشبة لينقذنا من ورطتنا مع الغزو الثقافي بدلاً من البحث الشاق المضني عن سفينة النجاة ؟! …
أم إن علينا أن نعي الرسالة بتـدبر القرآن والفقه في السُّـنَّة ، فنعلم مراد الله عزَّ وجـلَّ ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونعرف أصل دين الإسلام ، وكيف فهمه الجيل الأول الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم إبان نزول الوحي وكأننا بين ظهرانيهم ، ونعتقد ذلك الأصل في قلوبنا وتشتاق إليه أرواحنا و نجتهد في تحقيقه و العمل به ، ثم علينا بعد ذلك أن ندرك أننا لسنا في زمان عافية ؛ فنعرف الفرق بين الظروف … بين الأصل والضرورة ، و بين القاعدة والاستثناء ، وبين الأمثل والمتاح … ، ثم نجتهد في إمضاء الأصل ونستعين بالله على ذلك ، فإن عجزنا كان حال الضرورة – وهي تقدر بقدرها - عذراً لنا عند الله تعالى و عند رسوله صلى الله عليه و سلم ؟! …
لعل من يتبرع بالجواب عن هذه الأسئلة و أمثالها هم أكثر ممن يسألها !! …
والمتبرعون أصناف متنوعة ، وكثير منهم إنما يَعرفون الإسلام من خلال المُتاح منه في عصرهم هذا ، ويفهمون الرسالة المحمدية وفق الأسس الثقافية و الفكرية للقرن العشرين و الذي يليه ، وليس في أذهانهم إدراك لأبعاد التاريخ الممتد أربعة عشر قرناً و زيادة ، وكل ذلك يؤدي بهم إلى فهمٍ جزئي للإسلام ، مقيَّدٍ بالزمان و المكان ….

إن حلَّ القضايا الكبرى المشكلة يتطلب دراية واسعة قد لا تقتصر على العلم الديني وحده ، كما لا يكفي أبداً لحلِّها مجرد المعرفة – تامة أو ناقصة - بأحوال الناس وواقع المجتمعات …
و لقد تعرضت هذه الأمة خلال تاريخها الطويل لموجات من التبادل الثـقافي مع الأمم الأخرى ، كان لعلماء المسلمين جهد كبير ملموس في تنقيته مما يتعارض مع أصول الإسلام ، ومع ذلك فقد ثبتت رواسب من ذلك التبادل كان لها آثار خطيرة في الأمة على حين غفلة منها ؛ إذ اكتسبت بسبب التساهل معها على مرِّ السنين و العقود و القرون مصداقية بل قدسية أحياناً في أذهان العامة و بعض الخاصة ، مع أنها وافد ثقافي لا ينسجم مع أصول الإسلام انسجاماً كافياً ليُسمح له بالدخول في ثقافة المسلمين ، كما قال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه : (( كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ، ويربو فيها الصغير ، ويتخذها الناس سنة ؛ فإذا غُيِّرت قالوا غُيِّرت السُّنَّة ؟!!… قيل : متى ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : إذا كثرت قراؤكم ، و قلَّت فقهاؤكم ، وكثرت أمراؤكم ، و قلَّت أمناؤكم ، والتمست الدنيا بعمل الآخرة ، و تفقه لغير الدين )) ( رواه الدارمي و الحاكم ) ، و في هذا درس للأمة أن لا تتهاون مع أي وافد لا ينسجم مع خصائصها كي لا يزاحم بمضي الوقت مسلَّماتها …
من المعلوم أن الغـناء و الموسيقى لا يدخلان في نسغ ثقافة المجتمع الإسلامي ، و إن وجدا فيه بِقِلَّة ، لقد كان دخولهما محل ممانعة قروناً طويلة ، و لم يجد الغناء و الموسيقى الوافدان بدّاً من التستر بغطاء ديني أحياناً ليُقبلا تحت مسمى النشيد والسماع حتى اتخذهما الناس سنة كما في كلام ابن مسعود رضي الله عنه .

وفي العصر الحديث كان مما جلبته الثقافة الغربية ( اليونانية الرومانية الوثنية ، الإفرنجية الكنسية ، الأوربية اللادينية ) إلى العالم : الولع الشديد بالغناء و الموسيقى التي لم تدع مجالاً إلا وحشرت أنفها فيه بمناسبة وبدون مناسبة ، وهاجم العالمَ الإسلامي على حين غفلة وضعف منه سيلٌ جرار من أبنائه المفتونين بذلك : ( ملحنين ومغنين وعازفين ورقّاصين …) مرافقين لمرحلة الغزو الاستعماري الأوربي الذي شجَّع بحماس بالغ تلك المظاهر الغريبة على المسلمين وكأنها إحدى رسالاته المهمة إليهم ! . وكان من دور ورثة الاستعمار متابعة العناية بذلك الوافد الثقافي بحماية السلطة وتشجيعها له !! ، فلما انتشرت وسائل الإعلام المسموعة و المرئية و اكتسحت قطاعات الجماهير المختلفة : دخل الغناء و الموسيقى كل بيت بترحيب أو بدون ترحيب .. المهم : دخـلا رغماً عَـنَّا…
العلـماء و المشـايخ في تلك المرحـلة نهج كثير منهم ( وخاصة جمهور علماء الشام وبعض المصريين ) كأسلافهم منهج الممانعة لذلك الوافد العنيد ، التي لم تستمر طويلاً بعدهم ، وضعف موقفها العملي رويداً رويداً أمام التحدي الإعلامي الهائل الذي فُرِض بقوة .
وجـنح بعضهم ( كبعض المصريين و بعض الشاميين ) إلى القول بما ظفر به مسطوراً في الكتب من الترخيص والتساهل … دون أن يُمَيِّز بين ما هو سلوك فردي قد يُترخص فيه و لا يتعدى أثرُه صاحبَه ، وما هو سلوك اجتماعي يصبغ ثقافة الأمة و يهدد معالم شخصيتها …. ، ومع مضي الزمن و تعاقب العقود صار هذا الرأي يكتسب مزيداً من الأنصار – سواء أكانوا من علماء الشرع أم لم يكونوا _ ، وكثير من أولئك الأنصار لا يعتمد في قوله على القواعد العلمية المقررة ( سواء أكان في ثبوت النصوص أم في دلالاتها ) ، بل مجاراة العصر و إرضاء الناس صار عند كثير منهم منطلقاً نحو المقاصد ! . فأباحوا ما لا يخطر ببال سلفهم ابن حزم رحمه الله أن يكون مباحاً .

عوام المسلمين أحياناً يكونون بفطرتهم أسعد بالصواب من بعض العلماء ، و خاصة فيما يتعلق بالمسائل العامة الواضحة ، و هم و إن وقعوا في الخطأ لا يقولون إنه صواب حتى يأتيهم من يُلَبِّس عليهم … وهكذا كان الغناء والموسيقى عند عوام المسلمين المتدينين ( بل وغير المتدينين ) نِدّاً لكتاب الله و ذِكر الله خـلال التاريخ ، إلا ما كان قد تسمى بالنشيد والسماع ، وكان له عند من يبيحه قيود وضوابط لا بد من تحققها ورعايتها ، و إلا فإنه غير جائز حتى عند من يبيحه .
لست أقصد من هذه المقالة الدخول في جدال فقهي عقيم مع هؤلاء المترخصين المجيزين للغناء و الموسيقى - أداء أو استماعاً – بدون أي ضابط ، و لا مع أولئك الذين يتشددون فيمنعون كل شيء حتى حُسن الصوت بالأذان ! .
السبب الأول في كتابة هذه المقالة : منظر هزَّ كياني و أزعجني و أقلقني ، و أُراه يهز و يزعج و يقلق كل من يغار على مستقبل الصبغة الثقافية لأجيال هذه الأمة !… ذلك المنظر قد رآه كثيرون فأعجبهم وخطوا خطوات في محاكاته ! ، نعم و استدلوا به على ماهم فيه ! و رآه كثيرون غيرهم دون أي مبالاة إذ لم يروا فيه شيئاً ذا خطر ! .
سامي يوسـف شاب بريطاني مسلم ، قد امتهن صنعة الغناء المتناول للمواضـيع الدينية ،كان أول ما رأيت و سمعتُ له أغنية ( المعلم ) … وقلت في نفسي : لعله يريد بهذا النمط الغنائي الذي يمزج فيه بين الذوق و الإيقاع الغربيين و المعاني الإسلامية ، ويمزج فيه بين لغة القرآن و اللغة الإنكليزية أن يجذب أبناء الجاليات الإسلامية إلى دينهم ، و أن يقدم لهم بديلاً غنائياً طاهراً يصرفهم به عن الفرق الموسيقية المستعلنة بالفجور دعارة أو كفراً … هكذا ظننت !! وأحسنت ظني ووطَّنت نفسي أن لا أتعرض لنقده (وإن كنت لا أوافقه) إن كان يعمل للإسلام باجتهاد في ظروف لا أعيش فيها ! … لكني فوجئت بأغنية أخرى كنسية الذوق ، تركية النغم ، مصرية المكان في مسجد محمد علي باشا سفير التغريب الأول إلى العالم الإسلامي !…
ثالثة الأثافي : أغنية تبدأ في لندن ، تدور أحداثها في إصطنبول و الهند ، و تنتهي المسرحية في القاهرة … حملت تلك الأغنية رسائل خجولة إلى المجتمع الغربي أن المسلم يساعد الناس و يفسح لكبار السن أن يجلسوا على مقاعد الحافلات العامة … ، و أن المسلم منفتح يذهب إلى عمله بتفاؤل و نشاط …
لكن تلك الأغنية حملت رسالة مريـبة إلى المجتمع الإسلامي في ذلك المنظر الذي هزَّ كياني وأزعجني وأقلقني شاب يأتي من لندن إلى إصطنبول التي قال فيها الشاعر :
كأن قبابها خوذات صلب لمعن على رؤوس مجاهدينا
ومن ينظر مآذنها يجـدها حراباً في صدور الكافرينا
ويمشي ذلك الشاب في شوارع العاصمة الأخيرة للخـلافة حاملاً الكمان على ظهره ، و تبدو خلفه المـآذن و القباب ، ومقصده دار للَّهو ، حتى إذا آوته دار اللهو : اغتنم الوقت ريثما يتجهز العازفون يتلو ورده من القرآن الكريم من المصحف بين يدي معازف الشيطان ؟!!!!! ثم يشارك بعد ذلك مباشرة في العزف على الكمان بتميّز !!.
ماذا تريد بهذا أيها المطرب ؟ ألا تتم الأغنية إلا بهذه اللقطة العابرة الأثيمة ؟!
هل هذه رسالة من إصطنبول إلى لندن ؟! أم إنها رسالة مريـبة من لندن إلى إصطنبول ؟!

إني أخاف و أحذَر أن تكون هذه الرسالة من نُـذُر الدين العالمي الجديد ! الذي لم يقنع بما فعل الاستعمار الأوربي وخلـفاؤه - الذين من جلدتنا - من إقصاء السياسة و القانون و الاقتصاد و التعليم و الإعلام و ما يتبع ذلك عن الإسـلام ، بل يريد ذلك الدين الجديد أن يجوس خلال البنى التحتية … يريد أن يُقنع المسلم بالتخلي عن قناعاته و لو كان لا يعمل بها …
لسان حال رسل الدين العالمي الجديد يقول : (( أيها المسلمون .. فقهاؤكم يكذبون عليكم !! .. ولا دليل في دينكم على كثير مما علموكم إياه ، إنها مجرد مفاهيم قرون غابرة لا تملك من وسائل المعرفة ما تملكون ، ولا تفقه المتغيرات و متطلبات الحياة ، فافهموا دينكم بعيداً عن تراثهم … )) ؟!

(( إنها قضايا تافهة )) : جواب بعض الناس ممن ليس لديهم القناعة بأن الجراثيم الصغيرة التي لا يدركها الطرف – ويعتني بها ذلك الدين الجديد عناية بالغة ، و يولي لها الأهمية ، و يبذل لها الجهود و الأموال - قد تكون أشد فتكاً بالإنسان من أنياب السباع !…
بهذا أدركت أن أغاني ذلك الشاب شكلاً و مضموناً ليست موجهة إلى الجاليات الإسلامية في الغرب ، بل هي رسائل العولمة توجه إلى شباب المسلمين و فتياتهم في مصر و الشام و العراق و السند و الهند و شمال إفريقية بل حتى إلى شباب الجزيرة و الحرمين الشريفين ؟! .. إنها من نُـذُر العولمـة .. حقيقة عندي لا تصمد في وجهها أي مكابرة.
ليست المشكلة في شخص سامي يوسف أوغيره ( والله تعالى هو أعلم بالمقاصد والأعمال وهو المجازي عليها).
نعم ، ليست المشكلة في الأسماء … المشكلة في هذه الظاهرة .. في النمط الغنائي الديني الذي غزا المسلمين وقت غفلتهم وجهلهم بدينهم وتاريخهم وثقافتهم ، وقد سبقته أنماط مهدت الطريق لقبوله ، وكل تلك الأنماط تتستر بغطاء ديني رقيق أو صفـيق ….

في المغرب : قامت فرقة بوقاحة تؤدي القصيدة المغربية المشهورة : (( الله يا مولانا … )) مع حركات الراقصات الداعرات.
وفي مصر : حدِّث و لاحرج … اختلاط وقينات و معازف ، منذ ما يزيد على نصف قرن ، ثم ماذا ؟ يناجون الله و يمدحون نبيه ! (( مدد يا رسول الله )) ! … (( حبيبي سيدنا النبي .. ودقي يا مزيكا … )) !؟
وفي لبنان : تعرِضُ في المناسبات الإسلامية بعضُ القنوات الهابطة - المخصصة لنشر الفواحش _ ( فيديو كليبات ) ، مثل تلك التي كلماتها : أحمد يا حبيبي …. يا عون الغريب … سلام عليك … ، و مناظرها : رحلة يقوم بها كشافة مراهقون – بعد البلوغ – من شباب و فتيات ، يرقصون و يأكلون و يتحلقون حول نار موقدة تشبه تلك التي يتحلق حولها عبدة الشيطان !! … ولا ينسى المخرج أن يوجه الكاميرا إلى الدموع الاصطناعية التي في مآقي إحدى الفتيات ؟! … والله ثم والله لا يرضى بهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وفق ما بلغنا من سنته و شريعته !! .
وفي الخليج أخيراً : يُكرَّم (الـ …) في مهرجان جوائز المحبة ( محبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ! ) بمباركة بعض الأقطاب ، و يقول القائل في أحد المواقع الإلكترونية : (( تميز المهرجان بحضور عدد من الفنانين الذين أكرمهم الله تعالى بتذوق حلاوة حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والرغبة في نصرته ، منهم الفنان …، والفنانة …، والفنانة … )) ؟؟؟؟؟؟؟!!.[ وهم من نجوم الـ …. كما يعلم المطَّلعون ] ويتابع القائل: (( إن مهرجان جوائز فن المحبة والذي له موقع الكتروني : …… يتيح الفرصة المناسبة لكل من يرغب في التعبير عن هذا الحب الراقي للحبيب صلى الله عليه وآله وسلم بلغة عصرية حديثة ، هي ( لغة الفن ) التي تفهمها كافة شعوب العالم ، وذلك في احتفال سنوي عالمي يتم فيه تكريم الأعمال الفنية المبدعة النابعة من معين محبة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم )) … هكذا يقول القائل ! ، و لا أدري ماذا سيكون قوله إذا وقف بين يدي الحبيب صلى الله عليه وسلم فعاتبه أن جعل لغة الفن بأصوات شياطين الإنس مفهومةً عند شعوب العالم كافة ! … فأين لغة القرآن التي خاطب بها الحبيبُ صلى الله عليه وسلم الناسَ كافةً (( إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون )) ، وهي لغة الإسلام الذي يخاطب عقول الناس ، ولا يستخدم ما تستخدمه الأديان الأخرى من لخم الناس و اللعب بمشاعرهم واستثارة أحاسيسهم عن طريق المؤثرات الصوتية !!… أيُعَبَّر عن حب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بمزمار الشيطان ؟! أنى يستقيم هذا ؟

أكبرتُ قدرَكَ عن قوافٍ قُيِّدتْ        ورَفعتُ ذِكركَ عن لُهىً وأغاني
ثم فازت بجائزة المهرجان أفضل أغنية عربية (( إلا رسول الله )) للفنان إيهاب توفيق [ المشهور بالـ … إلخ ، وصوره و أغانيه معروفة لم نسمع أنه تاب منها ، وهو على ذلك كله محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة الدعاة ! وإنها لشهادة زور يكذبها العيان ، وستكتب شهادتهم و يُسألون ] ، وأفضل أغنية أجنبية (( الصلاة على النبي )) لفرقة ‘Native Din’ من أمريكا [ مرحى .. مرحى .. إسلام أمريكي راقص في جزيرة العرب !! ] ، وفاز بأفضل فيديو كليب : أغنية (( لوعرفوه حَيْحبوه )) أداء أبي صياح ! ، [ وغفل الأقطاب عن قوله تعالى (( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم و إن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون )) ] ، ولقد كان أولى بهذا الإكرام آلاف من طلاب العلم في العالم الإسلامي في أقطاره كافة ، أوصى بهم محبهم ومحبوبهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم آثروا تعلم دينهم على الالتفات للدنيا ، ولو أرادوها لأرادتهم ، ولكنهم آثروا الباقي على الفاني ، فهؤلاء أولى بالإكرام ممن هم في كل واد يهيمون و يقولون ما لا يفعلون … فيتبعهم الغاوون !.

أما في الشام : فقد كانت تلك الظواهر إلى عهد قريب محل إنكار العلماء والعامة و لم يكن لها أي رصيد في المجتمع إلا عند بعض المتحللين ! نعم إن الأناشيد الدينية في الشام هي عريقة جداً وتحتل مساحة كبيرة من اهتمام المتدينين رغم اختلاف مشاربهم ، فالأناشيد الذوقية عند الصوفية ركن ركين في طرقهم ، و أناشيد المناجاة والمدائح النبوية والحنين إلى الرحاب المقدسة و المواسم المباركة معلم من معالم المجتمع الشامي في أفراحه و مناسباته ، و الأناشيد الحماسية التي صدَّرتها إلى العالم بلادُ الشام كانت مسعراً ألهب عواطف كثير من الشباب …. ولكن مع انصرام العقد الأخير من القرن العشرين و بدء موجة التغيـير في الأفكار الدينية وما ينبني عليها من قيم اجتـماعية و أخلاق فردية ، و في غمرة ذلك تسلل في تلك الآونة إلى الإنشاد الديني أنماط لم تكن مألوفة من قبل كاستعمال بعض الآلات الموسيقية أو إيقاعاتها من الأجهزة الحديثة ، و أقبح من ذلك : أداء المعاني الدينية بألحان بعض الأغاني الهابطة المشهورة المتداولة التي يغنيها نجوم الإغراء و تجارة الأجساد !!.. و أقبح من ذلك : ما يفعله مطرب مفسد من الغناء رجالاً ونساءً للرب المشترك ( تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً ) …
ومع ازدياد هبوط الغناء الماجن وظهور أسراب كالجراد من المطربين و المطربات وتدني الذوق الغنائي والموسيقي إلى حد القرف : تأثر الإنشاد الديني بذلك وظهرت أفواج من المنشدين ! فيهم المحسن ، و فيهم المسيء ، وفيهم من خلط عملاً صالحاً و آخر سيئاً …
وصار الإنشاد وسيلة رزق تُحترف بعيداً عن أذواق المحبة ومواجيد المحبين وأخلاق الاتِّباع وسلوك المتبعين …

أما موقف الكثير من المشايخ إجمالاً في مرحلة كاد أن يسيطر فيها على الاتجاهات الدينية الشعبية نمط عامي من التفكير فلم يكن على مستوى الأحداث !!.
منهم من يكتفي بالسكوت و لزوم البيوت و لا يعنيه أمر هذه المستجدات ! ، ولا يخرج الشاب الحائر من عندهم بطائل بعد طول سؤال وشدة إلحاح .
ومنهم من يبحث الأمور دائماً بنـظر جزئي فقـهي سواء أكان ممن يمنع أم ممن يبـيح ؛ فهذا يحشد الأدلة على المنع ، وذاك يقيم الحجج على ضعف ثبوت تلك الأدلة أو دلالاتها ، وكل منهما يستنجد بقافلة سبقت من أهل العلم ولو لم يكن بعضهم من جِمال المحامل ! ، و الجميع - فيما أعلم – يُغفِل إن لم يكن يَغفل أن هذه المسألة الآن ليست مجرد حكم جزئي فقهي بحظر أو إباحة لشخص ما ، بل هي مسألة أمر كلي يمس الروح العامة للأمة و الكيان العام لها ، و يمس صبغة الأمـة في هويتها و طابعها …. إننا أمام لون من الاجتياح للأرضية الثقافية يكمل ما سبق من الاجتياحات !.

قد يقول بعـض العامة : أليست هذه الأنماط المتطورة للأناشيد بديـلاً مناسباً يصون الشباب عن الغناء الماجن ؟ ، أليس الاهتمام بها خيراً من الاهتمام بالثقافة الغنائية الهابطة ؟ هذه هي الأنماط التي تجد آذاناً صاغية الآن ! أليس خيراً لنا أن نجاري الواقع المفروض ؟! بل بعضهم تجاوز هذه الأسئلة ليقول : وهل في الإسلام ما يمنع التعبير عن هذه المعاني الدينية بلغة عصرية حديثة هي لغة الفن التي تفهمها شعوب العالم كافة ؟! بزعمه ! …
أقول : هذا المنطق العامي يعتمد على المقولة الشعبية : ( الرمد أحسن من العمى ) و هي مقولة تفترض أن لا غنى عن الشر و السوء ! تفكير انهزامي دائماً يفترض العجز عن التغيـير ، ويفترض العجز عن إبقاء الأصلح ! …
ياجـماعـة : نحن لا نريد رمداً و لا نريد عمى بل نريد بصراً و بصيرة …. و بصراحة : هذه الأنماط الغنائية التي تتستر بمسمى الإنشاد قد يكون فيها شيء من الخير لنفر من الناس ، و قد ينتفع بها بعضهم .. هذا واقع لا ينكر ، ولكنها في حق الأمة فساد عريض !!.. نعم قد يهتدي بسببها إلى الدين ألف شخص ، لكنها في المقابل تضلل ألف ألف شخص ، ولا نضحي بعافية أمة من أجل شفاء ألف مريض ! ( بل ربما مريض واحد هو المغني أو الفنانة التائبة التي لم تع الإسلام جيداً فإذا بها تفتن الناس بخمارها كما فتنتهم من قبل بعُرِيِّها ! ) إن المعصية قد تكون في قدر الله لإنسان معين طريقاً إلى الطاعة و الهداية ، و لكن … هل يجوز في شرع الله تعالى أن يدعى أحد إلى تلك المعصية التي كانت قدراً من الله في هداية إنسان ما ؟!.. اللهم لا..
وقد أدرك الأطفال بفطرتهم أن لا فرق في الأسلوب بين كثير مما يُسمى بالأناشيد وبين سائر الأغاني ، وهم لم يدركوا بعدُ الفروق في المعاني … إذن لماذا لا نستمع إلى الأغاني ؟! … وكلما كبر الطفل كان سؤاله أشد إفحاماً …
وتباهت فتاة جامعية من أسرة مسلمة في بلد إسلامي عريق بأنها تحمل (الكيتار) خلف ظهرها في الطريق رغم أنها محجبة (عفواً : حجاب البنطلون الجينـز) ! لم تجد المسكينة أي تناقض في ذلك ، بل أضافت أنها تلتزم حلقة من حلقات العلم ، وتحفظ عشرين جزءً من القرآن الكريم ! لقد وصلت رسالة عازف الكمان ! حتى قبل أن يرسلها !.
وفتاة أخرى تتبع المذهب نفسه ، و تزيد الاستدلال ( بالمطرب … عفواً : الشيخ ) سامي يوسف !…
ثم أقيم في دمشق مهرجان النشيد الإسلامي في ربيع الآخر 1428 ولم أشهده ، وكان في بعض فقراته ما أزعج الحاضرين ، حتى قال أحد العلماء الذين حضروا طرفاً منه في وصف إحدى فقراته : إنها ( ديسكو ) إسلامي !.

ومن أواخر المفاجآت أن المخنث العالمي ( مايكل جاكسون ) له أغنية : (( الله غفور .. الله رحيم ..)) باللغة العربية ، ليس فيها ما يدل على إسلامه حشرها المرتزقة مع غيرها من الأغاني الدينية ! بأصوات المنشدين و المنشدات والمطربين والمطربات و بعضهم من نجوم البرنامج الداعر ( ستار أكاديمي ) ! وذلك في CD واحد على غلافه صور بعضهم مع صورة للكعبة صانها الله … أليس هذا استخفافاً بشعائر الله تعالى ؟! .

بعد هذا كله نعود لنتساءل : أحقاً نحن نحتاج إلى بديل في هذا المجال ؟! وماهو ؟ … أخشى أن يكون البديل ( الذي يطلبون ) بالعكس ! يعني أن يكون البقل و القثاء و الفوم و العدس و البصل بديلاً عن المنِّ و السلوى ! .
وقبل الخوض في الحديث عما يسمونه ( البدائل ) ، يجب الإلمام بفـقه الأصـل في هذا الباب ؛ على أن العودة إلى الأصل يقلق منها كلُّ من جعل نفسه عدواً لهذا الدين ؛ لأن فيها حقيقة الإسلام ، ويقلق منها أيضاً كل أجير يتاجر بهذا الدين ؛ لأنها تفضح زيفه و نفاقه !.
والله عز وجل أمرنا بالردِّ إليه سبحانه و الردِّ إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : (( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلاً )) .

فأقول مستعيناً بالله تعالى :

النشـيد في لغة العرب هو رفع الصوت بالشِّعر ، فكانوا يتناشدون أشعارهم في مسامراتهم ونواديهم وأسواقهم و مواسمهم ، فإذا كان ذلك مع تطريب صوت الحناجر ( وهو مد الصوت وتحسينه ) فهو الغِـناء ، وله أسماء كثيرة عند العرب بحسب ما يكون فيه ، أما صوت الآلات المصنوعة ( الموسيقية ) فهو اللـهو و المعازف ، فإذا نتج عن سـماع شيء من ذلك نشوةٌ تعتري البدن كان الاهتـزاز و اللـعب و الرقـص و الزَّفن ، وله كذلك عند العرب أسماء كثيرة بحسب ما يكون فيه .

و لما أرسل الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى و دين الحق و أنزل عليه القرآن الكريم نَزَّهه صلى الله عليه وسلم عن الشعر فقال سبحانه : (( وما عَلَّمناهُ الشعرَ و ما ينبغي له إن هو إلا ذكرٌ و قرآنٌ مبين )) ، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يمنع أُمَّتَه منه ، بل استمع صلى الله عليه وسلم إلى الشعر و إنشاده في الأغراض المباحة ، بل كان إنشـاد الشعر جزءً مهماً من المعركة الإعلامية بين المسلمين و المشركين ، فقال صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت رضي الله عنه : (( اهج المشركين فإن روح القدس معك )) .

و أما الغناء و اللهو واللعب فهو منـزَّه في ذاته الشريفة المقدسة صلى الله عليه وسلم عن فعل ذلك ، كما هو معلوم ضرورة عند كل مسلم . و أما في حق الأُمَّة : فلا يُنكر أن النفس البشرية بفطرتها تهوى التَّرنم وتطربُ للأصوات الجميلة وقد يتحرك لها البدن ، لكن الإسراف في ذلك قد يُخرج الإنسان عن خاصيته التي يتميز بها عن سائر الحيوان وهي كرامة (العـقل ) التي يبقى معها وافرَ ( المروءة ) شأنه في ذلك شأن المُسكر من الشراب ؛ لذا فمن تأمل نصوص السيرة و الحديث وجد أن تلك الأشياء ( الغناء و اللهو و اللعب ) قد تقلصت في مجتمع النُّـبُوَّة عما كانت عليه في الجاهلية – ولم تكن عناية العرب بذلك أصلاً كعناية الأمم الأخرى - ، ووجد أن ما نُقل من فعلها وإجازة النبي صلى الله عليه وسلم لبعضها كان من باب السعة على الناس في ظروفهم أو مناسباتهم الخاصة كالأعياد والأعراس وعرض القوى مع اعتبار القيود الشرعية ؛ بأن يكون الكلام مباحاً ، و أن يكون المُغَنِّي رجلاً أو جارية صغيرة لم تبلغ ، ولا يُعرف البتة أن امرأة حرة بالغة كانت تغني أمام الرجال في ذلك العصر الميمون ، ولم يكن من شأن ذلك المجتمع الكريم تطوير تلك الفنون و الاعتناء بها ، و لا يُعلم البتة أنها استخدمت في الدعوة إلى الإسلام في العصور الراشدة .

بل ورد في السُّـنَّة الصحيحة ما يفيد تحريم المعازف ( كما في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه ، ولم يطعن فيه إلا ابن حزم الظاهري بشبهة واهية ، و جرى على تقليده من ذهب مذهبه في إباحة المعازف ، وذلك منهم مصداق لخبر من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه و سلم ، ومن أشد العجائب تقليد بعض المتهكمين بابن حزم رحمه الله تعالى له في ذلك ، إنها موافقة الهوى لا التقليد ! ) .
روى الإمام البخاري في كتاب الأشربة من صحيحه ، باب ما جاء فيمن يستحل الخمر و يسميه بغير اسمه ، من حديث عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري والله ما كذبني سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : (( ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ و الحرير و الخمر و المعازف …. )) .
وورد من تفسير الصحابة رضي الله عنهم لبعض الآيات القرآنية الكريمة ما يفيد تحريم الغـناء ، ووردت نصوص أخرى كثيرة في ذلك من الحديث المرفوع والموقوف ، و هي وإن كان كثير منها مثار جدل في ثبوته ودلالاته ، إلا أنها تفيد بمجموعها - على الأقل - دون مراء أن الغناء واللهو واللعب في الإسلام غير محمود على إطلاقه .
أما النصوص التي تذكر وقائع في عصر النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه رضي الله عنهم تدل على سماعهم لشيء من ذلك فهي أيضاً كانت مثار جدل في ثبوتها و دلالتها ، لكنَّ ما صحَّ منها يفيد – على الأقل – دون مراء أن ما جاز من ذلك الأمر إنما هو مقيد بالضوابط الإسلامية التي ألمحنا إليها قبلاً .

ولما اختلط العربُ المسلمون بالأمم الأخرى التي دخلت في دولة الإسلام ، تسللت عن طريقهم إلى المجتمع المسلم عادات و أنماط لم تكن مألوفة ، أو لم تكن ظاهرة عندهم كما هي عند الأعاجم ، ومن ذلك تطور فنون الغـناء و اللهو وما يتبعهما عما كانت عليه ، وقد كان موقف جمهور العلماء مفسرين ومحدِّثين وفقهاء بل و الأمراء أيضاً واضحاً في إنكار ذلك و عَدِّه من صور الفسق و المعاصي المخالفة للإسلام ، روى النسائي في كتاب قسم الفيء من سننه : كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن الوليد كتاباً وفيه : (( …. وإظهارك المعازف و المزمار بدعة في الإسلام ، ولقد هممت أن أبعث إليك من يجز جمتك جمة السوء )) .
أما ما يُنقل عن بعض من سَلَف من التسهيل في أمر صنعة الغناء واللهو ، أو إقرارهم لما يجري منه بحضرتهم ؛ فالأكثر منه مما لا تصح نسبته وفق القواعد التي يستند إليها أهل العلم في تمحيص الأخبار ، وما صحَّ منه عُـدَّ من شواذ المسائل والفتاوى ، وقد تقرر في المنهج العلمي الإسلامي التنفير الشديد من تتبع غرائب العلماء ، على أن كثيراً ممن أجاز الغناء إنما أجازه مفرداً عن آلات اللهو الموسيقية .
وحتى ذلك العصر كانت مواضيع الغَزَل و التشبيب وسائر ما يتعلق بالنساء هي الوجه العام للغناء و اللهو ، أما ذكر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم و المغازي و الشوق إلى الآخرة وأراجيز المجاهدين والحجيج فلم تكن صنعة الغناء تتناوله ولم يكن شيء من اللهو يمتزج به، إنما هو إنشاد ورجز وحداء .
وفي آخر المئة الثانية تناول الغـناء شيئاً من المواضيع الدينية ، لكن ذلك لم يرض عنه الفقهاء في ذلك الوقت ، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لأصحابه بمصر : (( خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة يسمونه التغبـير يصدُّون به الناس عن القرآن ! )) ، و التغبير عبارة عن شعر مُزَهِّد في الدنيا إذا غنى المغني به ضرب الحاضرون بقضيب على جلد أو مخدة ضرباً موافقاً للأوزان الشعرية .
أما بعض الصوفية فقد وجدوا أن في الألحان سواء أصدرت من الحناجر أم من الآلات محركاً للقلب ومهيجاً لما هو الغالب عليه ، فتوسعوا في السماع على وجه التقرب إلى الله عز وجل باستجلاب صلاح القلوب وإزالة قسوتها وتحصيل رقتها ؛ لكن كان لهم فيه شروط صارمة ، وكانوا يُسمون من يَستمعون إليه : ( القوَّال ) .
ثم بدأ الخلاف منذ المئة الرابعة يشتد و يتفاقم بين الفقهاء و الصوفية في مسألة السماع ، الفقهاء يشددون فيه و الصوفية يترخصون به ، وقد يوافق الفقهاءَ بعضُ الصوفية ، وقد يوافق الصوفيةَ بعضُ الفقهاء و المُحَدِّثين ، وذخرت المكتبة الإسلامية بثروة ضخمة من المصنفات المفردة في هذه المسألة ، فضلاً عن ذكرها في مظانها من كتب التفسير والحديث والفقه والتصوف بين مانع ومجيز ومفصِّل خلال القرون التالية .

على أن الفقهاء و الصوفية معاً كانوا ينكرون ما يقع على وجه اللهو و اللعب وإبلاغ النفوس حظوظها من الشهوات واللذات من السماع الذي كان غالباً ما يقترن بالخمر و الفواحش .

كان العلمُ أميراً على التصوف في المجتمع الإسلامي خلال القرون الزاهرة التي ظهر فيها علماء أفذاذ نُقَّاد ، محققون في العلم ، متحققون بالولاية ، مشهود لهم بالإتقان في علمهم وفقههم ، مشهود لهم بالإحسان في مقاماتهم وأحوالهم … ولما دبَّ الضعفُ في الأمة ، وأَبَقَتْ من إمارة العلم في القرون الأخيرة ساد في الأمة منطقٌ عامي تتحكم فيه العواطف الصادقة ( مع بعدها عن منهج العلم ) أحياناً ، وتتحكم فيه غالباً المصالحُ والأهواء خدمة للامتيازات والمكاسب … ، وعند ذلك تسامح بعضُ المتأخرين في المسائل التي شدد فيها المتقدمون ، و في مسألة سماع الآلات واتخاذها وسيلة قُرْبٍ ، يحشد المنتصر لذلك أسماء عدد كثير من العلماء الفقهاء المبيحين للأمر ، وهذا لا يعني الكثرة حقيقة ؛ فهم وإن كثروا أفرادٌ في مقابل مدارس فقهية حاشدة تضم آلافاً من الفقهاء على مرِّ التاريخ كانوا يرون منع ذلك … نعم : لقد ظهر أخيراً في المجتمع الإسلامي ما كان العلماءُ يمنعون ظهوره من قبل ! ، و أمسى بالإلف و التسليم سُـنَّةً إذا تعرض أحدٌ لنقدها قالوا : غُيِّرت السُّـنَّة ! .
و في ذلك الوقت العصيب وصـل الغُـزاة !… غزاة الفكر والثقافة … وغزاة الجيوش و الجحافل ، والمدافع والقنابل … وغزاة التغيير السياسي والقانوني والاقتصادي والتعليمي والاجتماعي …
فما عسى الراقع أن يرقع و قد بليت خيوط الثوب بين يديه ؟! ما هي الأولويات في مجابهة التحديات ؟!

مثلنا كمثل قوم في حصن يحيط بهم الأعداء ، وبحجة حراسة الحصن ومناوشة العدو : غفلنا عن ترميم ما وهى واهترأ من أسوار الحصن ، فاستغل العدو تلك الثغرات ، ودخل الحصن على حين غفلة منَّا ، فكانت له الغلبة ! وهذا ما جرى للعالم الإسلامي في أواخر أيام دولته العثمانية ، وتسلط الحلفاء المستعمرين عليه … وما جرى بعد أن زُرعت إسرائيل في قلبه … وصار ذلك الهاجس عقبةً كؤداً في وجه كل إصلاح تستنـزف كل الطاقات و الإمكانات ! . وعلى المستوى العامي الشعبي سيطرت عقلية التوجس خيفة من العدو الخارجي رغم أنه قد سيطر فعلاً على الحصن من زمان ! وأدت تلك العقلية إلى تعطيل كل نقد داخلي ( وكلما رأوا من يريد إصلاح أسوار الحصن أو إصلاح عقول أهله قالوا له : مو وقـتها .. مو وقـتها هللأ .. مش وءتها دي الوءت ) …
بالمقابل أيضاً : ليس من الصواب أن ينشغل أهل الحصن جميعاً بترميم ما وهى منه عن حراسته ، و الانتباه لتحركات الأعداء المتربصين و العملاء الخونة !

إن الفقه و البصـيرة أن تستنفر الأمة جميعاً فينصرف بعض أبنائها إلى إصلاح ما تصدع من بنائها وتجديد ما وهى من أمرها أو زَرَعَه عدوُّها في داخلها ، و أن ينصرف آخرون إلى حراستها و رصِّ الصفوف في مجابهة أعدائها … كلٌّ يسد الثغرةَ التي يُحسِنُ سدَّها دون أن يُشغِّب هؤلاء على أولئك ، أو أولئك على هؤلاء . ينبغي أن يكون في الدعاة من يدعو غير المسلمين ، وأن يكون فيهم من يدعو الشاردين من المسلمين ، وأن يكون فيهم من يدعو المسلمين إلى الثبات ، و أن يكون في الأمة من يذود العدو عنها ، ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ؛ لتكون الدعوة إلى الحق متكاملة دون تضخم في جانب على حساب آخر .
وفي مسألتنا هذه ( مسألة السماع و النشيد و الغناء و الموسيقى ) اختلطت الأوراق بل كادت أن تضيع في زحمة المشاكل و الهموم ، وهي أوراق مهمة تمس هوية الأمة و طابعها ، وليست من الأوراق الفردية التي يُعطى صاحبها بديلاً عنها عندما يفقدها !

و قبل يومين اطَّلعتُ في إحدى الجرائد الإعلانية ( ضمن الدعايات لنغمات الهواتف المحمولة من الأغاني الهابطة الماجنة ) على دعاية لأغنية ( دعوة للتعايش ) للـ … تامر حُسْني ، التي شهرها برنامجٌ لداعية إسلامي مشهور !! . فما هي قيمة المفاهيم و الأفكار و القيم التي يراد بَـثُّها في الأمة عن طريق أولئك المُغَـنِّين المفسدين .. ؟! .
إنَّ التعايش مع المعصية و أهلِها مرفوض ما داموا عالمين بها مُصرين عليها ، و أخشى أن يصل ذلك البرنامج فيما يرمي إليه – و أرجو أن لا يصدق ظني هذا ، و العلم عند الله علام الغيوب - إلى إقناع الناس بذلك النوع من التعايش الذي يهدم البقية الباقية من القيم الإسلامية حبيسة الأذهان التي لا يجد أصحابها مجالاً لتكون على أرض الواقع .
ثم إن ذلك المغنِّي أصدر شريطاً دينياً عامياً تلقفه الدهماء من الرجال و النساء مع أن فيه سخفاً وفساد اعتقاد وسوء لغة …. و الرجل على حاله من المجون و الإفساد لأبناء الأمة و بناتها ، وصوره المخزية الفاضحة تملأ واجهات متاجر الخنا . فهل يريدنا مقدم البرنامج أن نتعايش مع ذلك الماجن ؟! نعوذ بالله من الخذلان .

ولست أريد الآن الحديثَ عن الغِناء الماجن و التنفير منه وعن أهله المفسدين و التحذير منهم ، و بيان الآفات المهلكات التي حاقت بالأمة من جراء الفن الهابط الساقط الفاجر الداعر ؛ لكني أريد الآن أن أحذِّر أهل الإسلام من هذا التسلل الفني إلى الساحة الإسلامية ، فهو على طريقة الخمر ( المصنوع على الطريقة الإسلامية ) !!!
إني لأغار غيرةً شديدة عندما أسمع اسم سيدي وحبيبي محمد صلى الله عليه وسلم وعظم وكرَّم من مخنَّث يثير شهوات الناس ويفسد بنات المسلمين و أبناءهم !
و إني لأغار غيرة أشد عندما أسمع ذكر ربي وإلهي وخالقي جل جلاله من كاسيات عاريات مائلات مميلات متنمصات مغيرات خلقَ الله ملعونات على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم !
إني لأغار على الحرمين الشريفين بل وسائر المساجد أن تقترن صور مناظرها بالملاهي و المعازف و أصوات القينات وهن يذكرن الله في الوسائل الإعلامية !
وعملاً بمقتضى تلك الغيرة ، وسمعاً وطاعة لأمر سيدنا و حبيبنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وشرَّف وكرَّم وعظَّم ، القائل فيما رواه الإمام مسلم من حديث تميم الداري رضي الله عنه : (( الدين النصيحة )) فقالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : (( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )) …
نصيحةً لله جل جلاله كي لا يُذكر اسمه تعالى و تقدَّس بمزامير الشيطان …
ونصيحة لكتاب الله الكريم كي لا تضاهيه في النفوس مزامير الشيطان …
ونصيحة لرسول الله المعظم صلى الله عليه وسلم كي لا يقرن مدحُه بما لا يرضاه هو ولا أصحابه ولا تابعوه .
ونصيحة لعلماء المسلمين ولاةِ أمورهم كي لا يسكتوا عن باطل ؛ فتتعلق بسكوتهم أجيال تبني عليه ديناًَ محرَّفاً.
ونصيحة لعامة المسلمين كي يستقيموا على بيضاء نقية ليلها كنهارها تركنا عليها نبينا صلى الله عليه وسلم .
ونصيحة لمن يسيء وهو يظن الإحسان أن يفقه دينه كي لا ينشر في المسلمين ثقافةَ غيرهم مما لا يلائم ثقافتهم
ونصيحة لمن يتعمد الإساءة للأمة من أبنائها أن يكفَّ عن أذى الأمة في ثقافتها , وأن يتوب إلى الله مما جنى ، فإن خصمه رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل فيما رواه الإمام مالك في الموطأ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : (( … فلا يُذادنَّ رجال عن حوضي كما يُذاد البعير الضال ، أناديهم: ألا هَلُمَّ .. ألا هلم .. ألا هلم .. فيقال : إنهم قد بدَّلوا بعدك ، فأقول : فسُحْقاً .. فسحقاً .. فسحقاً )) .
نصـيحةً أقـدِّم هذا التصور في مسألة النشـيد الإسـلامي ، بياناً للأصـل ، وحذراً من العولمـة !

ومن خلال البيان والحذر تكون ضوابط البديل المناسب المشروع ، الذي لا ينافي الأصل ، ويتجاوب مع المتغيرات وتطور الأذواق ، وإني حريصٌ في نصيحتي هذه على القصد و التوسط في الأمور بما يُقرُّه الدليل ، وأرجو أن يكون ما أُقدمه هو أوسط صيغة يمكن الاتفاق عليها بين المختلفين في هذه المسألة ، و إلا فالوفاق غير مُتصور ، وما التوفيق إلا من عند الله تعالى . فإن أحسنت فإن الحمد لله تعالى وحده ، و إن أسأت فإني أستغفر الله و أتوب إليه وأبرأ من حولي وقوتي إلى حوله وقوته .
وقد جعلتُ هذه النصيحة في فقرات – مواد – ليسهل فهمها ، وليناقش فيها من يريد النقاش مادةً مادة تحريراً لمحل النـزاع ، كي لا تختلط الأوراق أو تضيع أو تُخفى أو تُمزَّق !!..
وقد ضمني في العام الماضي لقاء مع نخبة معنية بالأمر من الفضلاء العاملين للإسلام ؛ فلم أجد عند واحد منهم وضوحاً في الرؤية أو التصور لهذه المسألة … فكيف يكون الشأن عند الشباب الحيارى ؟! .
أجد هذا البيان فرضاً عليَّ الآن ؛ فإن أحسنت فبتوفيق الله تعالى أرجو الأجرين ، وإن أسأت فأستغفر الله جل جلاله راجياً طامعاً من جوده وكرمه ولو أجراً واحداً .
اللهم رب جبرائيل وميكائيل و إسرافيل فاطر السماوات و الأرض عالم الغيب و الشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك لتهدي من تشاء إلى صراط مستقيم .

الضَّوابـطُ الشَّـرعِـيَّةُ للنَّـشِيدِ الإسـلامي
1. قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي المتوفى سنة 505 رحمه الله تعالى في كتابه ( مكاشفة القلوب المقرب من علام الغيوب ) في آخر فصل السماع : (( هذا ما نُقل من الأقاويل ، ومن طلب الحق في التقليد فمهما استقصى تعارضت عنده هذه الأقاويل ؛ فيبقى متحيراً أو مائلاً إلى بعض الأقاويل بالتشهي وكل ذلك قصور ، بل ينبغي أن يُطلب الحق بطريقه ، وذلك بالبحث عن مدارك الحظر و الإباحة )) .

2. ليعلم أولاً أن طريق البحث العلمي المجرد لا تلتقي مع كثير من طرق التفكير و العقليات المعاصرة ، التي تعتمد على التشهي للملائم لظروف الحياة المعاصرة دون التفات إلى رجحان دليل على دليل أو قول على قول وهذا ما يُسمَّى : الهوى .

3. قال تعالى : (( ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله )) . فكل هوى يجب أن يطرح قبل أي نقاش علمي .

4. إنما يُعتمد من الأدلة الشرعية ما تقوم الحجة به ، وفق المقرر في علوم الحديث وفي أصول الفقه ، أما أن تعتمد الأخبار الواهية مما لا زمام له ولا خطام ، أو المعاني الباطلة التي لا يعرف الحلال بها من الحرام ، أو يُلجأ إلى النقل من أمثال كتاب (( الأغاني )) لأبي الفرج الأصبهاني أو من دواوين الأدب ؛ فهذا هو الجهل المُرَكَّب .

5. لابد في البداية من تحرير معنى المصطلحات التي أقصدها : الأصل أن ( الغِناء ) : هو تطريب الصوت من الإنسان ، و ( الإنشاد ) : هو رفع الصوت بالشِّعر ، و ( اللهو والمعازف ) : هي الآلات الموسيقية وأصواتها .

6. ثم جرى للناس عُرفٌ في تسمية ما يتعلق بالمواضيع الدينية من الغِناء بـ ( الإنشاد ) ، و تسمية المُغَنِّي بذلك : ( المنشد ) [ وقديماً سُمي : القوَّال ] ؛ من أجل التمييز عن سائر ( الغِناء ) الذي غالباً ما يدعو إلى الفواحش ، ويكون ( المُغَنِّي ) من المخانيث و فاقدي المروءة ، و كثيراً ما يقترن بـ ( اللهو و المعازف ) وربما صاحــبه ( الرقص و اللعب ) .

7. ثم حصل للناس عرف آخر في إطلاق ( الغناء ) على ما يشمل الغناء و اللهو حتى لا يكادون يفهمون معنى غيره ، وليس الغناء بهذا الإطلاق مراداً في كلام العلماء و الفقهاء ، بل حقيقة الغناء منفكة عن حقيقة الملاهي ( الآلات الموسيقية ) فمن الجهل البَـيِّن ما يفعله بعض المثقفين و المثقفات من تنـزيل أقوال من يجيز الغناء من العلماء السابقين على الغناء المعروف في عصرنا هذا الذي لا ينفك عن الملاهي .

8. حكم ( الغناء ) من حيث هو صوت الإنسان المطرب بدون آلة مطربة : قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في الأم 7 : 518 : (( في الرجلِ يغني فيتخذ الغناءَ صناعَتَه ، يؤتى عليه ويأتي له ، ويكون منسوباً إليه مشهوراً به معروفاً ، والمرأةِ : لا تجوز شهادة واحد منهما ، وذلك أنه من اللهو المكروه الذي يشبه الباطل ، وأن من صنع هذا كان منسوباً إلى السَّفه و سقاطة المروءة ، ومن رضي بهذا لنفسه كان مستخفاً ، و إن لم يكن محرَّماً بيِّن التحريم )) .

9. فهذا حكم ( المُغَنِّي و المغنِّية ) ممن صنعته الغناء أن تُرَدَّ شهادتهما ، لارتكابهما ما يخل بالمروءة من الكلام والحركات ، و حكم ( الغناء ) أنه مكروه ، ليس مباحاً و لا محرماً . فقد وردت أدلة يستفاد منها تحريمه ، فيها مقال ، لذلك قال الشافعي : ( وإن لم يكن محرماً بَيِّن التحريم ) ، ووردت أدلة أخرى تفيد جوازه ، لكنها في محل التأويل جمعاً مع سائر الأدلة .

10. وهذا القول بكراهة الغناء هو سبيلُ الجمع بين الأدلة ، وهو متوسط بين القول بالتحريم و القول بالإباحة .

11. قال الشافعي رحمه الله : (( ولو كان لا ينسب نفسه إليه ، وكان إنما يعرف أنه يطرب في الحال فيترنم فيها ، ولا يؤتى لذلك ولا يأتي عليه ، ولايرضى به ، لم يُسقط هذا شهادته ، وكذلك المرأة )) .

12. هذا حكم من يتغنى منفرداً أو في أمر عارض ، رجلاً كان أو امرأة .

13. قال الشافعي رحمه الله : (( وهكذا الرجل يَغشى بيوت الغناء و يغشاه المغنون إن كان لذلك مدمناً ، وكان مستعلناً عليه مشهوداً عليه ، فهي بمنـزلة سفه ترد به شهادته ، و إن كان ذلك يقل منه لم ترد به شهادته ؛ لما وصفت من أن ذلك ليس بحرام بَيِّن )) .

14. هذا حكم من يستمع إلى الغناء : إن أكثر منه و أدمن عليه ترد شهادته ، لإخلاله بالمروءة ، و إن كان مقلاً من ذلك لم تسقط مروءته لأنه ليس بحرام بَيِّن .

15. قال الشافعي رحمه الله : (( فأما استماع الحُداء و نشيد الأعراب فلا بأس به كثر أو قلَّ ، وكذلك استماع الشعر … وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحداء و الرجز … فالحداء مثل الكلام و الحديث المُحَسَّن باللفظ ، و إذا كان هذا هكذا في الشِّعر : كان تحسين الصوت بذكر الله و القرآن أولى أن يكون محبوباً ..)) .

16. علة كراهة الغناء إذن أمران : أحدهما من جهة ألفاظ الغناء ومعانيه … ، و الآخر من جهة كيفيات أداء الغناء و ألوانه وهيئاته ….

17. أما العلة الأولى : العائدة إلى الألفاظ و المعاني ، فهذا يرجع إلى حُكْمِ الشِّعْرِ بحسب أغراضه : استحباباً ، أو إباحة ، أو كراهة ، أو تحريماً .

18. الشعر الذي يُغَنَّى غالبه ألفاظ الغزل وما يؤدي إليه من معاني الفحش ، ومن الشعر المُغنَّى أيضاً ما يتضمن المدح أو الهجاء أو الرثاء ، وكثير من ذلك يدخله الكذب .

19. لذلك فإن كثيراً من شعر الغزل و المدح و الهجاء و الرثاء إذا سُمع مجرداً عن الغناء حاكَمَه العقلُ؛ فعلِمَ كذبَه.

20. و أما إذا سُمع ذلك الباطل مُغَنَّىً فإنه قد يهجم على القلوب ؛ فيستقر فيها مع ما حواه ذلك الغناء من الكذب دون إذن … ولعل هذا معنى قول سيدنا عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه : (( الغناء يُنبت النفاق في القلب كما يُنبت الماءُ البقلَ )) ، فإن الكذبَ الذي أقرَّه الغناءُ في القلب وجعله مقبولاً لا شك أنه يُنْبِتُ النفاقَ و يثمر التهاون في الصدق .

21. فإذا تضمنت ألفاظ الشعر و معانيه كفراً أو مخالفة لكتاب الله تعالى أو لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهذا شعر محرم و غناء محرم ، لا يكابر في ذلك أحد .

22. فإذا خلا الشعر المُغنَّى من تلك المحظورات كان مباحاً إذا انتفت العلة الثانية ( وستأتي 23) ، فإن الشعر كلام يحرم حرامه بألحان و بغير ألحان ، ويحل حلاله بألحان و بغير ألحان .

23. و أما العلة الثانية : فإنها تعود إلى كيفية أداء الغناء و ألوانه وهيئاته ، ويرجع ذلك إلى صفة المغني ، وحاله عند الغناء ، وصفة الغناء وحال أدائه .

24. أما صفة المُغني : فلا يجوز غناء المرأة للرجال الأجانب عنها . قال القاضي أبو الطيب الطبري ، المتوفى سنة 450 رحمه الله : (( سواء كانت مكشوفة أو من وراء حجاب ، و سواء كانت حرة أو مملوكة )) ، وذكر الإمام أبو حامد الغزالي في (( إحياء علوم الدين )) العوارض التي يحرم السماع بسببها ، و أولها : (( أن يكون المسمع امرأة لا يحل النظر إليها و تُخشى الفتنة من سماعها ،

25. و في معناها الصبي الأمرد الذي تُخشى فتنته )) انتهى كلامه .

26. لا يُعرف في الصدر الأول من الإسلام أن امرأة مسلمة حرة بالغة كانت تغني أمام غير محارمها .

27. و أما حال المُغني فالمكروه منها : يشمل كلَّ ما يُخرِج الإنسان عن مروءته وسمته . و كل ما يُعد عُرفاً هتكاً للمروءة فإنه مكروه ، ومن ذلك : ما يكون من حركات المغني و إشاراته ، و المضحكات من اهتزازاته واضطراباته ، يفغر فاه تارة ، ويلوك لسانه تارة ، و يشخص بصرُه تارة ، و يطير حاجباه تارة ، ويعصر جبينَه تارة ، وينشر شدقيه تارة ، ويضرب برجليه تارة ، ويهز عطفيه تارة …!!!

28. قال ابن قدامة في كتابه المُغني 9: 175 : (( وكان الخلال يحمل الكراهة من أحمد على الأفعال المذمومة لا على القول بعينه )) .

29. تلك الأفعال المذمومة منها الأمثلة التي ذكرتها مما يخرم المروءة عند أهل الاعتدال و التوازن .

30. فأما صفة الغناء : فإن لأهل الفسق والمجون لحوناً و أنغاماً تدل عليهم ، وكذلك لأهل الأديان الأخرى لحوناً وأنغاماً هي من خصائصهم ، وإذا كان أهل الفسق من أهل لغات أخرى فقد زاد الطينُ بِلة ..

31. فهذه الألحان والأنغام مكروهة ؛ فلا يجوز التشبه بهؤلاء ولا بأولئك ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (( من تشبه بقوم فهو منهم )) و التشبه يحصل باتحاد الفعل ولو بدون قصد . ومخالفة المشركين مقصد من المقاصد العامة للشريعة الإسلامية يستفاد من الأدلة الكثيرة المتضافرة .

32. ومنها ما ورد من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها ، وإياكم ولحون أهل الفسق ولحون أهل الكتابين ، و سيجيء بعدي أقوام يُرجِّعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح ، لا يجاوز حناجرهم ، مفتونة قلوبهم و قلوب الذين يعجبهم شأنهم )) أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان ، وله شواهد . والنهي عن تلك اللحون لا يختص بقراءة القرآن ، بل تلك اللحون مرغوب عنها غير مرحب فيها.

33. أفاد الإمام الغزالي رحمه الله أن من شرب شراباً مباحاً على هيئة الخمر من إدارة الكؤوس ونحو ذلك وما يتبادله أهل المنكر بينهم من الألفاظ فإن ذلك الشراب يحْرُم .

34. وبعض الأغاني الدينية التي تشاع الآن : كثير منها على نمط أغاني أهل الفسق والمجون والخلاعة ، بل بعضها على نمط أوربي أو أمريكي خليع معاصر يأباه متذوقوا الفن الغربي التقليدي من الغربيين أنفسهم .

35. والرطانة بالأعجمية في الغناء لمن يحسن العربية أمر ممجوج مرغوب عنه فكيف إذا كانت اللغات الأوربية بدلاً من الأعجميات الشرقية ؟.

36. وأما حال الغناء وما يقارنه ، ففيه مسألتان :

37. المسألة الأولى : اقتران الغناء بالآلات الموسيقية :

38. المسألة طويلة وهي من المسائل التي كثر الجدال حولها في هذا العصر الذي تسلطنت فيه الموسيقى في الوسائل الإعلامية ، ونشأت أجيال لا تُصَدِّقُ أن أجيالاً قبلها كان الواحد منهم قد يعيش عمره كله دون أن يقرع سمعه شيء من الموسيقى التي لا يتصورون العالم يعيش بدونها اليوم !.

39. فمن العلماء المعاصرين من هو ثابت على ترجيح المعتمد في كتب الفقه على المذاهب الأربعة من القول بتحريمها عموماً ، أو على الأقل تحريم المزامير والأوتار وطبل الكوبة ، ويقول : إن هذا من الحرام البَيِّن .

40. ومن العلماء من يحاول أن يلتمس للأمة ما يدفع عنها حرج المعصية التي شاعت وذاعت ، وعمت وطمت ؛ فيجد في بعض الأقوال المرجوحة بحبوحة في تجويز الموسيقى إذا سلمت من محرمات تقارنها !.

41. لست الآن بصدد النصرة لأحد القولين ، فليس البحث في مجرد سماع الموسيقى ، وإنما البحث في تسللها إلى النشيد الإسلامي المعاصر .

42. فإنه لو كان سماع الموسيقى يقع على وجه اللعب واللهو وإبلاغ النفس حظوظها من الشهوات واللذات المباحات ؛ لهان الخطب ، ولقيل تجوزاً : … مسألة خلافية .. يثاب فيها المصيب ويُعذر المخطئ عن اجتهاد .

43. ولكن أن تمازج الموسيقى ذكرَ الله تعالى وذكرَ نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأن ترافق الدعاء و المناجاة و المديح والثناء ، وأن يدعى إلى الله تعالى وتقدس بمزمور الشيطان ، فهذا لا يتسع له قلب المؤمن ، واستفت قلبك ولو أفتاك الناس و أفتوك .

44. المسألة هنا متعلقة بالأفعال لا بالمقاصد .. فلو قال أحدهم أنا لا أتعبد الله بذلك ! قلنا : هذه مغالطة في القول، وعبث في الفعل .

45. أيضاً المسألة متعلقة بالصوت لا بالآلة ، فسواء صدر ذلك عن آلة خشبية أو تقنيات إلكترونية فالأمر واحد . وقصر المسألة على الصادر من الآلات الخشبية ظاهرية محضة لا تليق بالفقيه .

46. أصوات الناس التي تضاهي الموسيقى عن طريق التحكم الإلكتروني ، وتستعملها بعض الفضائيات الإسلامية راجعة إلى الغناء لا إلى الموسيقى فافترقا .

47. لا خلاف أن الموسيقى في لغة العرب تسمى لهواً ، وأن آلاتها تسمى آلات اللهو ، والله عز وجل يقول في كتابه (( وذَرِ الذين اتخذوا دينَهم لعباً و لهواً )) ، والعبرة بعموم اللفظ .

48. لا يجوز للموسيقى أن تدخل المساجد ، وهذا إجماع عملي متوارث أربعة عشر قرناً ، لا تخرقه تصرفات شاذة هنا وهناك ، وعوام المسلمين تقشعر أبدانهم من ذلك فضلاً عن العلماء . ومعلومٌ النهي عن رفع الأصوات في المساجد . قال تعالى : (( قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة )) والتجارة ممنوعة من دخول المسجد ، واللهو أولى بذلك منها قال تعالى : (( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب )) .

49. إنما شأن المؤمن الورع ، والخلاف في الموسيقى أخف ما فيه أن تكون من المشتبهات عند العوام ممن لا يستطيعون النظر في الأدلة .

50. وقد علَّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّتَه أن (( من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرضه ، وأن من وقع في الشبهات وقع في الحرام )) .

51. أما الدف خاصة ، فقال ابن قدامة في المُغني 7: 10 : (( والدف ليس بمنكر لما ذكرنا من الأحاديث فيه ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم به في النكاح )) ومن الأحاديث فيه : حديث الجاريتين المتفق عليه .

52. شدد بعضُ الفقهاء رحمهم الله في الدف فاقتصروا على تجويزه في الصور التي وردت فيها النصوص ، وذلك يكون ( للنساء في النكاح ) .

53. وتوسع فيه آخرون ، و في هذا القول بحبوحة و دفع حرج عن الناس .

54. فلا بأس على هذا القول باستعمال الدف للرجال أيضاً في الأفراح والمناسبات المباحة ، والمدائح النبوية ونحوها من الأناشيد ، وسائر ما يباح من الغناء .

55. لكنْ لا ينبغي جواز استعمال الدف في مناجاة الله تعالى ودعائه وسائر ما يلتحق بذلك من الأذكار والتسبيح ونحوه من التعبدات ، لأنه آلة لهو – و إن كان مباحاً - لا ينبغي أن تقترن بالعبادة ، (( قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة )) .

56. أقصد بالعبادة : العبادة المحضة ، كتلاوة القرآن هي عبادة ، ولا أقصد ما يصير عبادة بالنية ، فالمدائح النبوية مثلاً ليست عبادة في ألفاظها ، لكنها عبادة إذا اقترنت بنية صالحة كالتعبير عن محبة المصطفى صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى سنته وهديه . أما التسبيح والتحميد والتهليل و التكبير والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه و سلم فهي ألفاظ متعبد بها ؛ من أخلص فيها أُجر ومن لم يخلص كان مرائياً أو منافقاً .

57. المسألة الثانية : فيما يقترن بالغناء من الأحوال :

58. اختلاط النساء بالرجال على الصور التي ترى في الأغاني في هذا العصر مجون و خلاعة لا يرضاها من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ، لقوله تعالى : (( ولا يبدين زينتهن … )) وقوله تعالى : (( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم … )) ؛ فإذا بدت زينة النساء وأطلق الرجال أبصارهم فهذا مجلسُ منكرٍ ، يجب تغييره باليد فاللسان فالقلب (( وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل )) كما قال صلى الله عليه وسلم .

59. الإكثارُ من الغناء لمن لا يستفيد من معانيه الحسنة و جعلُ سماعِه ديدناً وهِجِّيراً تضييعٌ للأوقات بقلة الحظ من العبادات ، و الانشغالُ به عن الطاعات تفريط في القربات وتفويتٌ للآجال .

60. ذكر حجة الإسلام الغزالي من العوارض التي يحرم السماع بسببها أن تكون الشهوة غالبة على المستمع .

61. تلخص مما سبق أن الغِناء يكون مباحاً بشرط خلوِّه من المحظورات و المحاذير التي ذكرناها ، لعدم وجود علة الكراهة أو التحريم عندئذ .

62. فإن كان الشعر أو الكلام المُغَنَّى - بما سبق من شروط _ يتضمن ذكر الله تعالى و ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بذلك من أمور الدين والدعوة إليه فلا بأس به .

63. و هذا الغناء المباح يتضمن الحداء والأراجيز ونشيد الأعراب ولا يقتصر عليه .

64. ويعسر الفصل الحاد بين الحداء وبعض الغناء مما قد لا يدخل في مسمى الحداء .

65. قال الشافعي رحمه الله تعالى : (( فأما استماع الحُداء و نشيد الأعراب فلا بأس به كثر أو قلَّ ، وكذلك استماع الشعر … وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحداء و الرجز … فالحداء مثل الكلام و الحديث المُحَسَّن باللفظ ،

66. و إذا كان هذا هكذا في الشِّعر : كان تحسين الصوت بذكر الله و القرآن أولى أن يكون محبوباً .. )) .

67. والتغني بكتاب الله تعالى مما لا يخرجه عن صفة أدائه لا ينكره الآن أحد ، وكذلك التغني بالأذان – الذي لا يخرجه عن صواب ألفاظه - لا ينكره أحد في أمصار المسلمين ، حتى من جفا فإنه يتغنى بما يناسب جفاءه !.

68. قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى : (( إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة فأما التشديد فكل أحد يحسنه )) .

69. فإذا سمي هذا الغناء المباح المتضمن لأمور دينية (الإنشاد) وسمي ما يُغنى به (النشيد) وسُمي المغني به (المنشد) فلا مشاحة في الاصطلاح خصوصاً إذا صار حقيقة عُرفية .

70. نعم (الإنشاد) بالمعنى العرفي الحادث ليس مقصداً دينياً في ذاته ، والتعبد به لا يُعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمقتدى بهم من أئمة المسلمين .

71. لكنه إذا صار في عصر من العصور وسيلةً إلى أمر مستحب ، كترقيق القلوب بتحريكها ، أو الدعوة إلى الله عز وجل ، أو المنافحة عن دين الإسلام ، أو غير ذلك من المقاصد المشروعة ؛ فيكون ذلك الإنشاد مستحباً لا لذاته ، وإنما لمصلحةٍٍ فيه تدخل في المصالح المرسلة ، وإن للوسائل حكم المقاصد إن لم تكن تنافيها .

72. ومع ذلك نقول إن التدين الراسخ لا يبنى على الأناشيد ؛ فهي إنما تنفع من كان ذا دين في تحريك قلبه ورفع همته ، كما قال أبو سليمان الداراني : (( السماع لا يجعل في القلب ما ليس فيه و لكن يحرك ما هو فيه )) . وقال الغزالي رحمه الله : (( فلا يظهر من القلب عند التحريك إلا ما يحويه كما لا يرشح الإناء إلا بما فيه )) .

73. فالألحان لا تقدر على تشييد الحق في القلوب ، لكنها إن صادفت في القلب حقاً حركته ؛ بخلاف ما تقدم من أن الباطل يُقِرُّهُ الغِناءُ والألحانُ في القلب فيُشْرَبُه .

74. لذلك فإن الأناشيد الدينية لا تعتبر وحدها دواءً شافياً لمن ابتلي بداء الإدمان على الأغاني ينقله إلى ميادين الطاعات ، وإنما أحسن أحوالها أن تكون جرعات مُسَكِّنة لها أمد ينقضي بانقضائها .

75. ومن هنا فإن البديل الحقيقي الذي يصرف الناس عامة والشباب والفتيات خاصة عن الثقافة الغنائية الماجنة إنما هو الإيمان بالله عزوجل والمحبة له و الانقياد لأمره ونهيه وانشراح الصدر بذلك ، فتتحقق عندئذ حلاوة الإيمان التي لا تضارعها لذائذ الدنيا مجتمعة… ومن لم يذق لم يدر … قال صلى الله عليه وسلم : (( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار )) رواه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه .

76. فالمؤمن يتمتع باللذائذ التي أباحها الله تعالى له في الدنيا ، ويمتنع عن المحظورات التي زجره الله عنها ، وبين المباح والمحظور يكون الابتلاء الذي ذكره الحق عزوجل إذ يقول : (( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً )) .

77. فلا يجد المؤمن للشهوات المحرمات لذةً بعد أن ذاق طعم الإيمان وحلاوته . فلن يبحث إذاً عن عوض لما فاته من التمتع بالشهوات .

78. وقد لا تبلغ قوة الإيمان ذلك المقام ؛ فتكون عند ذلك المجاهدة والمصابرة طمعاً فيما عند الله تعالى من العِوض في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين .

79. إذن : بدائل المحرمات : هي المباحات من جنسها ، فالزواج المشروع حصن من الفواحش كلها ، وما أباح الله من الأشربة يغني عن المسكر منها ، وأحل الله البيع وحرم الربا ، وفي ما يباح من الغناء غُنية عن المحرم والمكروه منه .

80. فهي بدائل إجمالية ، ولن يجد المتعمق المتفيهق بدائل تفصيلية مباحة نظير كل أمر محرم ، إذ لا تكون عند ذلك حكمة للابتلاء !

81. وأما أن تكون البدائل بقلب الأسماء فهذا أمر لا يُشرع ، ولن يجد التلاعب سعة له في هذا الدين .

82. فتسمية الخمر مشروبات روحية ، والربا فائدة ، والرشوة هدية ، واتخاذ الأخدان صداقة و زمالة ، والتبرج أناقة ، والدياثة حرية ، والمجون فناً … كل ذلك لا يجدي في قلب الحقائق و زخرفة الأباطيل .

83. ومن ذلك تسلل المحظورات إلى الإنشاد تحت أقنعة مزيفة لا تجدي شيئاً في تسويغها و إجازتها .

84. ومجاراة أهل الباطل في كل شيء وقلبه إلى مسمى إسلامي ، أو زَجِّه في إطار إسلامي ، يصدق عليه حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى حنين مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط ، يعلقون عليها أسلحتهم ؛ قالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( سبحان الله ! هذا كما قال قوم موسى : (( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة )) والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم )) . رواه الترمذي وقال : حسن صحيح .

85. لقد وصل الإسفاف المزري إلى درجة ( المكياج الإسلامي ) و ( المايوه الإسلامي ) و ( الديسكو الإسلامي ) و ( البريك دانس الإسلامي ) … ( وهلم جراً.. الإسلامي ) … فكل ذلك ( موضة الإسلامي …) .

86. و التفكير بالبدائل بهذه الطريقة التي تريد التعويض المادي الدنيوي العاجل : أثر من آثار الهزيمة في نفوس المنهزمين من أبناء الإسلام . وهو ترقيع لا يزيد الثوب إلا خرقاً .

87. كما قصَّ علينا تعالى من خبر بني إسرائيل : (( وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم )) .

88. أما البدائل عند أهل الإيمان فهي في ضمن منظومة شاملة لا ترى الحياة الدنيا إلا طريقاً يستظل فيه السالك إلى الدار الآخرة ونعيمها وما أعَدَّ الله فيها للمتقين . فلا يحمل منها إلا الزاد المباح الذي يغنيه عن التطلع إلى غيره من الأزواد .

89. نتيجة الكلام : أن الغناء المباح ومنه ( الأناشيد الدينية ) هو :
* الذي سلمت معانيه مما لا يجوز شرعاً .
* و ينبغي ألا تغني به امرأة بالغة فيسمع صوتها الرجال سواء أكان ذلك مباشرة أم كان بالوسائل الحديثة …. وعلى هذا : فمن باب أولى أن لا تظهر صورتها وهي تغني أو تشارك في الغناء في ( الفيديو كليب )
* و ينبغي ألا يكون فيه هتك مروءة يُرجع في تقديرها إلى العُرف السليم .
* و ينبغي ألا يشابه في هيئاته وأدائه و ألحانه وأسلوبه أغاني الفساق أو ما تختص به الملل الأخرى . وينبغي الحرص فيه على اللغة العربية السليمة ، و الابتعاد عن العامية و الرطانة باللغات الأخرى من أهل العربية .
* و ينبغي ألا يقترن بالآلات المحرمة ،
- فإن كان في ذكر الله عز وجل ومناجاته وتسبيحه وتحميده ودعائه والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك من العبادات فلا ينبغي أن يقترن التغني بشيء من الآلات .
- وإن كان فيما سوى ذلك من المدائح النبوية و الحنين إلى مواطن المناسك وسائر المعاني الدينية و الدنيوية فلا بأس أن يقترن بالدف على القول بالتوسعة في ذلك .
- أما أناشيد الحرب والحماسـة ففيها توسعة عند الفقهاء بما يبعث الرهبة في قلوب الأعداء .
- وأما أناشيد الأطفال فالأصل أن يربى الأطفال على الذوق الإسلامي السليم الخالص لكننا لسنا في زمان عافية ، وأذواق غيرنا محيطة بنا من كل جانب لا نستطيع التعامي عنها ، فإذا ارتُكب أخفُّ الضررين في التوسع في استعمال الآلات في أناشيد الأطفال فليكن بقدر الضرورة مما يثنيهم أو يغنيهم عن الضرر الأثقل من الاستماع للأغاني ، فإن الأطفال يرغبون في مجاراة واقعهم ، و يرغبون خصوصاً في برامج الأطفال التي تتحكم في عقولهم وميولهم ، وهي مليئة بالمؤثرات الصوتية فليكن ذلك بقدر الضرورة مع غرس الذوق الإسلامي فيهم وعدم الانجراف إلى أذواق الآخرين . و الواجب على من يعمل في برامج الأطفال من المسلمين أن يتقي الله تعالى فيما يقدمه للأمة وأن لا يقدِّم أي مصلحة تجارية قد تتعارض مع الأمانة التي تحمَّلها .
- ولا ينبغي لأصوات الآلات المحرمة أن تدخل المساجد ، أو أن تقترن في وسائل الإعلام بصور المصاحف والمساجد وخاصة الحرمين الشريفين زادهما الله تعالى تقديساً وأخص ذلك الكعبة البيت الحرام صانها الله .
* و ينبغي ألا يقترن الغناء بمنهـيات أخرى من اختلاط الرجال بالنساء ونحوه ، و المكاء و التصدية ( الصفير والتصفيق ) .
* و ينبغي ألا يكثر الإنسان منه بحيث يغلب عليه و يشغله عن واجب أو مستحب .

90. فالغناء ( ومنه الأناشيد الدينية ) بهذه الضوابط مباح ولا حرج في استعماله في أغراض الدعوة إلى الإسلام ، وهو بديل لما لا يباح من الغناء الذي لا تتحقق فيه هذه الضوابط ، ومما لا يباح : الغناء الديني المُحدَث الوافد الذي يشابه أغاني الفسق والمجون ، ويدغدغ أحاسيس شباب الإسلام وفتياته ؛ ليفقدهم الحس والشعور بالذوق الإسلامي الخالص ، فتميل قلوبهم ومواجيدهم إلى أنماط العولمة الغازية ، التي تريد هدم كل أصل من أصول الإسلام .
هذا ما وفَّق الحق عز وجل لبيانه ، وأنا أسأل أخاً انتفع بشيء من ذلك أن يدعو لي بظهر الغيب بما يفتح الله تعالى به عليه ، وأنا سائل أخاً آخر لم يعجبه بعض الكلام أن يعود فيتأنى في النظر فيه ، فإن رأى خطأ فرحم الله امرءً أهدى إلي عيوبي ، وإن رأى صواباً فليرجع إليه ، وأنا سائل أخاً ثالثاً لم يعجبه الأسلوب كله أن يبادر هو إن كان من أهل العلم وأن لا يقف متفرجاً مكتوف اليد فليجد الأسلوبَ الملائم في نظره لإنقاذ الأمة من ذوبان شخصيتها وهو أمر أرى أنه لا اختلاف بيننا فيه ، وأما ذلك الأخ الذي يسيء الظن وينبذ بالألقاب ويلصق التهم و يطلق الشتائم ( سواء أكان من هؤلاء أم من أولئك ) فإني لا أُعَوِّلُ عليه و لا ألتفتُ إليه ، فإن الإسلام يؤتى من قِبَلِه ، ولطالما قَدَّم الهوى على الهدى ، فحسبنا الله ونعم الوكيل .
اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ، و ردنا إلى دينك ردّاً جميلاً .
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك . اللهم صل على عبدك ورسولك نبي الرحمة و هادي الأمة سيدنا محمد بن عبد الله ، صلى الله وسلم وبارك عليه وزاده فضلاً وشرفاً و تكريماً لديه .

كتبه المفتقر إلى عفو الله تعالى
محمد مجير الخطيب الحسني
غفر الله له ولوالديه

بدمشق حرسها الله تعالى ، وتم ذلك في شهر ربيع النبوي الأنور سنة 1429 هـ

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف المناهج. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.