تفعيل مقاصد الشريعة في العمل الدعوي (الشيخ الدكتور أحمد السعدي)

إنني أظن أنَّ أهمَّ موضوعٍ ينبغي أن يتصدَّى له علماء الدعوة اليوم هو علاقة مقاصد الشريعة بالدعوة إلى الله عزَّ وجل
ذلك أنَّ علم المقاصد ـ إن صحَّ جعله علماً مستقلاً ـ تطوَّر على أيدي علماء كبار من محققي الأصوليين كالعز بن عبد السلام والقرافي وابن رجب والشاطبي إلى ابن عاشور وعلال الفاسي . . . وقد بقي هذا العلم ـ أو الاتجاه العلمي ـ ينحو منحى التعميم حيث حُصِرَت المقاصدُ في الغايات الكبرى للرسالات السماوية جمعاء بحفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال ، مرتبةً على ثلاث مراتب هي الضروريات والحاجيات والتحسينيات ، وقد تحصَّل من جهود المتقدمين سلَّم للأولويات يتألف من خمس عشرة درجة هي الغايات الخمس مضروبةً بمراتبها، فيقدَّم مثلاً ما كان ضرورياً للدين على ما كان حاجياً ، ويقدم ما يكون حاجياً للدين على ما يكون كذلك للنفس وهكذا . . .
غير أنَّ هذا التنظير العام بقي محلِّقاً في العموميات ، وهذا بدهي حسب نظرة المتقدِّمين ؛ لأنَّ مرادهم بالمقاصد الغايات الكبرى . على أنَّ الذي يريده المسلم العادي ، والذي يتوجه إليه الدعاة والعلماء في وعظهم وخطبهم بل وبيانهم لمعالم الحلال والحرام هو المستوى الأخص ـ إن صحَّ التعبير ـ . وقد تنبه العلماء المعاصرون لهذا [1] ، ومن ثمَّ حاولوا أن ينظروا للمقاصد من جهة علاقتها بالجزئيات وذلك سعياً منهم لتفعيل هذه المقاصد في حياة الناس ، فصاروا يتحدثون عن مقاصد العبادات ومقاصد المعاملات ، ومقاصد العقوبات . . . بل راحوا يتحدثون عن مقاصد الطهارة ومقاصد الزكاة ومقاصد حد السرقة . . . ، أي أنَّهم عادوا بعلم المقاصد إلى جزئيَّات الأحكام ، والغاية من ذلك ربْطُ الأحكام بعللها والتشريعات بحكمها والفتاوى بأسبابها ومؤيداتها من العقل والنقل من جانب ، وتفويت الفرصة على مَنْ يريد العبث والإفساد مستغلَّاً عموم المقاصد ، من جانب آخر ، وتحويلُ المقاصد عبر ربط الجزئيات بها إلى مناهج مؤثِّرة في سلوك الناس.
ولو أنَّا نظرنا في هذه الغايات الثلاث لوجدنا أنَّ عمل الدعاة أحوجُ ما يكون للضبط بمقاصده الشرعية ؛ لأنَّ الدعوة هي التي تصوغ المسلم في شخصيته وسلوكه ، والعامة تَبَعٌ للعلماء ، لذا فتقويم عمل الدعاة سبيل لتقويم سلوك الأمة جمعاء من كان منهم من المسلمين أو من دخل في دين الإسلام حديثاً ، وأبسط مثال على ذلك أنَّ كثيراً ممن يسلم على أيدي الدعاة يصطبغ بصبغتهم الفكرية والسلوكية صوفيين أو سلفيين أو غير ذلك … ، و من ثَمَّ فعمل الداعية ( لا سيما في عصرنا الذي تأكَّد فيه وجوب الدعوة وجوباً عاماً من ناحية ، وصار للدعاة فيه مكانة حرَّكت في الشارع الإسلامي التعلُّقَ بالدعاة حتى في لباسهم ربما من ناحية أخرى ) أحوجُ ما يكون للضبط بالمقاصد الشرعية المقصودة منه . وإنني أعتقد أنه بردِّ مناهج الدعوة إلى بيانٍ وتفصيلٍ مقاصدي تتَّضِح معالم الطريق الدعوي و تتضاءل مساحات الخلاف و تتخلَّص الدعوة من بعض شوائبها وسلبياتها .
ولست أريد في مقال صغير أن أتحدَّث بتفصيلٍ وافٍ عن كيفية تفعيل مقاصد الشرع في جهود الدعاة ؛ لأنني أظنُّ أن ذلك يحتاج إلى مقامٍ آخر ، وحسبي أن أنبِّه على عملٍ يحرك همَّة أولي الأمر للنظر فيه ، ويثير بعض النقاط التي تحتاج إلى جهود مخلصة لفصل الخلاف فيها .
وبناءً على ما تقدَّم فإني أودُّ الحديث عن بعض القضايا المهمَّة في هذا الباب ، موجزاً لأهم ما أراه واجبَ البيان هنا ، مشيراً لبعض مناحي الاختلاف في هذه النقاط ، تاركاً التفاصيل وما يكون من قبيل إتمام صورة البحثِ وتكامل أركانه إلى بحث أو كتاب ، أو باحث وكاتب يجلو الصورة بكمالها .غير أني سأقدِّم مسألة مهمَّة جدَّاً لبيان أنَّ الفصل في هذه القضايا ليس بالأمر السهل ؛ لأنَّه يحتاج لاجتهاد علميٍّ رصين ، عمدته فهم مقاصد الشرع العامَّة و معرفة كيفيَّة تنزيلها على الحوادث و الجزئيَّات الخاصَّة .

العلم بالمقاصد شرط في المجتهد :

إنَّ النظر في الكلِّيَّات ، وربطَ ذلك بالجزئيَّات مهمَّة اجتهاديَّة ، أي أنَّها تحتاج إلى ملكات و أدوات لا يحصِّلها إلا نخبة من الناس ، وعلى رأس هذه الأدوات العلم بالمقاصد كما يرى الإمام الشاطبي رحمه الله حيث يقول : ” الاجتهاد إن تعلَّق بالاستنباط من النصوص فلا بد من اشتراط العلم بالعربية ، وإن تعلَّق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردةً عن اقتضاء النصوص لها، أو مسلمة من صاحب الاجتهاد في النصوص ، فلا يلزم في ذلك العلم بالعربية ، وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلاً خاصة “([2]) ، و يقول في موضع آخر : ” إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين، أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها. أما الأول: فقد مرَّ في كتاب المقاصد أنَّ الشريعة مبنية على اعتبار المصالح ، وأن المصالح إنما اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك ، لا من حيث إدراك المكلف… واستقر بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث مراتب، فإذا بلغ الإنسان مبلغاً فَهِمَ عن الشارع فيه قصدَه في كل مسألة من مسائل الشريعة ، وفي كل باب من أبوابها ، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزُّلِهِ منزلةَ الخليفةِ للنبي صلى الله عليه وسلَّم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله . وأما الثاني: فهو كالخادم للأول، فإن التمكن من ذلك إنما هو بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أولاً ومن هنا كان خادماً للأول ، وفي استنباط الأحكام ثانياً…” ([3]) ، فكأنه يجعل القدرة على الاستنباط فرع فهم المقاصد وبالتالي فلا شرط سوى معرفة المقاصد ، أمَّا القدرة على الاستنباط فهو وسيلة ولكن ” لا تظهر ثمرة الفهم إلا في الاستنباط ، فلذلك جعل شرطاً ثانياً ” . ([4])
ثُمَّ إنَّ النظر المقاصديَّ في اعتقادي ليس أمراً يتعلَّق بطبيعة الإنسان و تفكيره وأسلوب تربيته ، بحيث يمكن أن نجد عالماً لا يعتبر المقاصد ألبتة ، و آخر يعتبرها أبداً ، بل لا يكون العالم عالماً ما لم يكن له نظرٌ مقاصدي ، وهذا معنى اشتراطه في كلِّ مجتهد ، لكنَّ أسلوب التفكير مع البيئة و التربية ، كلُّ ذلك يساهم في تحديد مدى إعمال المقاصد والاعتماد عليها في النَّظر العلمي ، ولا بأس أن أناقش سريعاً ما ذهب إليه بعض العلماء المعاصرين من أنَّ شرطَ العلم بالمقاصد شرط صحة لا شرط ملكة([5]) ، أي أنه يمكن أن يكون العالم مجتهداً وإن لم يعرف المقاصد أو لم يعترف بها، حيث استدل على ما ذهب إليه بدليلين:
الدليل الأول : الحديث المشهور الذي رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وفيه يقول: ” قال النبي صلى الله عليه و سلَّم لنا لما رجع من الأحزاب : ( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ) ، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم بل نصلي، لم يُرِدْ منَّا ذلك ، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلَّم فلم يعنف واحداً منهم “([6]) .
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلَّم لم يَلُم أولئك الذي خالفوا ما يقتضيه ظاهر اللفظ دون إعمال المقصد ، فالذين لم يصلوا فاتتهم صلاة العصر، ومع ذلك لم يستجيبوا لما يظهر أنه المقصد من توجيهه صلى الله عليه و سلَّم وهو الإسراع دون تفويت الصلاة .
الدليل الثاني: أنَّ الظاهرية وبعض الشيعة والمعتزلة ينكرون تعليل الأحكام والقياس، وهم مع هذا مجتهدون على الصحيح ، وهذا دليل على أنَّ الإنسان يمكن أن يبلغ مرتبة الاجتهاد وإن لم يراع المقاصد ، لكن اجتهاده يغلب عليه الخطأ وإن كان صاحبه معذوراً بل مأجوراً.
وليس هذان الدليلان بِرادَّيْنِ ما تقدَّم من رأي الشاطبي الذي تعضده النصوص واالأصول والمؤيدات الشرعيَّة المختلفة ، كما أنَّ دلالتهما على قبول اجتهاد من لم يفهم المقاصد لا تسلَّم ، وذلك للأمور التالية:
1- إذا نفينا العلم بمقاصد الشريعة عن أصحاب رسول الله وهم الذين شاهدوا التنزيل وعاينوا أحواله وأقواله صلى الله عليه و سلَّم ، وتميَّزوا بفطرة سليمة ، وفهمٍ عميق ناجم عن طبيعة البيئة والمكان ، فمن يمكن أن نصفه بمعرفة المقاصد؟‍ وهل استدللنا على وجوب العلم بالأصول بغير مسلكهم في تعاملهم مع النصوص؟ لو كان صحيحاً أن في مجتهدي الصحابة من لا يعرف المقاصد ولا يراعي العلل والحكم لمَا كان معنى لاشتراط العلم بها لا لصحة الاجتهاد ولا لإيقاعه أو ملكته.
2- أساس الخلاف بين الصحابة في الصلاة في الطريق ناجم عن تعارض دليلين: الأول : أمر الله ورسوله بمراعاة وقت الصلاة، والثاني أمره صلى الله عليه وسلَّم بالصلاة في بني قريظة، ولكلٍّ وجهة نظرٍ في الترجيح ، وكلاهما مطبِّق لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في عموم أو خصوص.
3- إذا سلمنا أن مقصده صلى الله عليه و سلَّم من الأمر بالصلاة في بني قريظة هو الإسراع إليهم ، فلماذا نحكم بتحقيق هذا المقصد من الذين لم يسرعوا ، وبعدم تحقيقه من الذين أجَّلوا الصلاة لأجل الإسراع ؟ أمَّا إذا كان المقصد الحثُّ على الإسراع ، فهذا تختلف الأنظار في فهمه وتوجيهه ، والتزام النصوص عند الاحتمال أسلم إذا وجد الشك ، فإذا انتفى الشكُّ جاز العمل بمقتضى المقصد. وغاية ما في الحديث أنَّ من التزموا أمرَ رسول الله صلى الله عليه و سلَّم بالصلاة في بني قريظة شكُّوا في أن يكون مقصده هو الحث ، وهذا الشكُّ هو الذي دفعهم للأخذ بالأمر على ظاهره ، إلا أنهم لم يفهموا مقاصد الشرع ولم يعرفوا أهدافه العامة.
4- معرفة علَّة حكمٍ ما تتعلَّق بالقياس ، و إنَّما الحديث في وجوب معرفة مقصد كل مسألة عن طريق ربط ذلك بالمقاصد العامة ، وليس في الحديث أنَّ الصحابة الذين لم يصلُّوا في الطريق لم يفهموا المقاصد العامة للشرع ، فالدليل في غير موضع النزاع .
5- أما من لا يرى التعليل للنصوص فليس حجة في أنَّ المجتهد لا يشترط فيه علم المقاصد ، ذلك أنَّ نفاة القياس لا يجهلون مقاصد الشرع العامَّة ، فابن حزم مثلاً لم ينكر القياس إلا بعد معرفته ، والناظر في فتاوى ابن حزم رحمه الله يراه عالماً بمقاصد الشرع فاهماً لأهدافه العامة ، فإذا لم يطبق ذلك في مسائل فهذا خطأ الاجتهاد لا اختلال الشرط ، ونفيه رحمه الله للتعليل أوقعه كما قال العلماء في طامات ، ولكن تطبيقاته دالة على أنَّه إن لم يقل بالقياس في الجزئيات فهو معتبر لها من حيث جملة الشريعة ، ولهذا تفصيل ليس هذا مكان الإسهاب فيه، غير أنه وبالنتيجة كما أن ابن حزم رحمه الله ومن وافقه لا يصدُّون عن اشتراط العلم بالقياس فكذا الأمر هنا ، بل ههنا آكد .

النقطة الأولى ـ الدعوة إلى الله مقصد أم وسيلة :

هناك طرق وضعها الأصوليون لتحديد المقاصد ، ومع هذا التحديد لم يخلُ الأمر من اختلاف في التطبيق ، ولذا يبقى تحديد المقصد أمراً يحتمل البحث والتردد ، إلا أنَّ المهم هنا التنبيه على ضرورة حسم هذه المسألة ، ذلك أنَّ المقصد أهم من الوسيلة ، ولا يعني هذا أنَّ الغاية تسوِّغ الوسيلة ، لكن يعني أنَّه عند الترجيح للتعارض يقدَّم المقصد ، وعلى سبيل المثال : لو شعر داعية أن خلوته بامرأة يدعوها إلى الله ضرورية ( ضمن ضوابط وتحرير نية بلا شك ) فهل الدعوة كونها مقصداً يتعلَّق بالدين مقدَّمة على منع الخلوة كونها وسيلة قد تفضي لخرم مقصد يتعلَّق بالعرض ، والأمثلة على هذا كثيرة يمكن أن تخرَّج على أساس تحديد مكانة الدعوة في المقاصد الشرعية .
ولا شكَّ أنَّ الأمر قد يكون مقصداً لما هودونه في المرتبة ، ووسيلة لما هو فوقه ، أي أنَّ كون الشيء وسيلة لا يناقض كونه مقصداً من جانب آخر ، بالإضافة لذلك قد يكتسي الأمر ثوب المقصد للاهتمام الشديد من الشارع به ، و إن كان في الأصل وسيلة ، ويمكن أن تكون الدعوة من هذا ، أو ذاك ، أو من كليهما .

النقطة الثانية ـ هل الهداية مقصد شرعي ؟

يمكن أن يتعجَّل كلُّ فريقٍ الإجابةَ ، ذلك أنَّ الهداية بمعنى إيصال المدعو إلى طريق الحقِّ أمرٌ جعله الله عزَّ وجل بيده ، قال تعالى : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء } [ البقرة : 272] ، وقال سبحانه : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }[ القصص : 56] ، والآيات في هذا كثيرة معروفة . وللفريق الآخر أن يقول : إن لم تكن الهداية غايةً فلِمَ البيان ؟ هل يعمل المسلم في الدعوة لتوسيع علاقاته الاجتماعية ؟ ! !
ظاهر أنَّ المقصود من الدعوة هداية الناس ، لكن مَنْ أعرض فعليه وزره ، أما أنَّ الهداية بيد الله فهذا شأن كل حركة أو سكون في هذا الكون ، إنَّ مقصِدَ من يفتح متجره في الصباح إنَّما هو الرزق ، وكل مسلم يعتقد أنَّ رزقه بيد الله ، وبالتالي فالهداية مقصد الداعية في دعوته ، والسعي لتحقيقها بين الناس مقصد شرعيٌّ مقدَّم على الجهاد الذي هو سنام الإسلام ، بل إنَّ الجهاد ماشُرِع إلا ليكون وسيلة من وسائل الهداية ، وهو وسيلة دون الدعوة بلا شك ، وانظر إلى قول الخطيب الشربيني من كبار علماء الشافعيَّة ، في كتاب هو عمدة في المذهب ، وفي عبارة تزن الكتاب من الذهب ، : ” وجوب الجهاد وجوب الوسائل لا المقاصد ، إذ المقصود بالقتال إنما هو الهداية ، وما سواها من الشهادة ، و أمَّا قتل الكفار فليس بمقصود ، حتى لو أمكن الهداية بإقامة الدليل بغير جهاد كان أولى من الجهاد “[7] .
وبناء على الاختلاف بين الرأيين تبرز عدة مسائل كثيراً ما يتداول الدعاة بحثها ، فالفريق الأول يرى أنَّنا لسنا معنيين بهداية الآخرين ، و إنما واجبنا بيان الدين لهم عبر دعوة تقدِّم الإسلام تامَّاً غير منقوص ، أعجب الأمرُ المدعوِّين أم لم يعجبهم ، في حين يردد الفريق الآخر مع ابن تيميَّة : ” التائب من الذنوب و المتعلِّم و المسترشد ، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ، و يذكر له جميع العلم ، فإنَّه لا يطيق ذلك ، و إذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال ، و إذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم أو الأمير أن يوجبه جميعه ابتداء ، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان ، كما عفا الرسول صلى الله عليه وسلم عما عفا عنه إلى وقت بيانه ، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات ؛ لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل ، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط ” [8].
وثَمَّ مواقفُ من السيرة النبوية قد يستدلُّ كلُّ فريق لموقفه بها ، وعلى العالم أن يحرِّر محلَّ النزاع ويربط ذلك بالمقاصد ليتبين الحقَّ في المسألة . فمن هذه المواقف ما ذكره ابن إسحاق في السيرة من أنَّه لما قدم وفد ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا عنده طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم اللات ثلاث سنوات لا يهدمها فأبى ، فما زالوا يسألونه سنة سنة حتى سألوه شهراً واحداً فأبى أن يدعها إلى أي أجل ، وإنما كانوا يخافون ثورة الناس والسفهاء والذراري عند هدمها قبل أن يستقر الإسلام في نفوسهم ، غير أنَّ سياسة النبي صلى الله عليه وسلم الدعوية أبت الإمهال مهما كانت العواقب[9] .
وعلى الجانب الآخر لما أراد صلى الله عليه وسلم أن يعود بالكعبة إلى ما كانت عليه زمن إبراهيم عليه السلام ـ كما في البخاري وغيره ـ امتنع ممَّا أراد فعله خشيةَ افتتان قومه وقال لعائشة رضي الله عنها : ” لولا أنَّ قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها … “[10] . ويظهر فريق ثالث يستدل بموقف آخر ليوفق بين الأدلة فيذهب إلى أنَّ أحكام الإسلام على نوعين : نوع لا يكون الإسلام دونه كالصلاة ، وفي خبر وفد ثقيف المتقدِّم ، قال صلى الله عليه وسلم : ” لا خير في دين لا صلاة فيه ” ، ونوع من الفروع التي يمكن للداعية والأمير أن يؤخرها لأنها ليست جوهرية في الدين ، وفي حديث أبي داوود عن وهب قال : سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت ، قال : اشترطت على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد ، وأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا ) [11].
النقطة الثالثة ـ المداهنة والمجاملة وسيلةً لاستمالة الناس :

أنكر سبحانه على الدعاة مداهنة المدعوين ، بل أنكر كل الإنكار الإعراضَ عن الضعفة رجاء إيمان العظماء ، أوالانشغال بالعمل الدعوي الخارجي ـ كما يمكن أن يفسر ذلك بعض الناس ـ عن بيان الشرع وتثبيت المؤمنين ، كما يفعله كثير من الدعاة اليوم ، قال تعالى : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا {28} وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } الآية [ الكهف : 28 ـ 29 ] ، وقال جل من قائل : { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ }[ القلم : 9] ، فالمداهنة مرفوضة ، والإعراض عن طالبي الحق لهداية أقوامٍ يُظنُّ أنَّ لهم أثراً أكبر في حياة الناس مسألة قد يخالطها قصد الدنيا ” تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ” . وقد سافرت إلى الصين مرة ووقفت على حاجة الناس هناك للدعوة والإرشاد والنصح والبيان ، بل ما أسماه بعض الفضلاء إحياء أمة من أمم الإسلام ، ودخلت مسجداً أحاطني القائمون عليه بكثير من الاهتمام ، ولما سألت عن السرِّ قالوا : ” لا يزور هذا المسجد إلا غير المسلمين ” ، قلت في نفسي ـ وظني في الناس الإخلاص والصدق ـ لِمَ يُيَمِّم كثيرٌ من الدعاة شطر الغرب تاركين الشرق وهو بهم أحق . ولقائل أن يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكرم العظماء وربما جامل بعضهم ليثبِّته على الإسلام ، وفي حديث عائشة رضي الله عنها : ” أنَّ رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه و سلَّم فلما رآه قال بئس أخو العشيرة ، وبئس ابن العشيرة ، فلمَّا جلس تطلَّق النبي صلى الله عليه و سلَّم في وجهه و انبسط إليه “[12] .
ولا شكَّ أنَّ التقريق بين مدعوٍّ و آخر ، وبين المداهنة الممنوعة و المجاملة المحمودة ، تفريقٌ يحتاج إلى دقَّة و تروٍّ ، و إن كان الأول قريب ممَّا يسميه الأصوليون تحقيق المناط ـ وهو ليس خاصاً بالمجتهدين ـ ، في حين أنَّ الثاني من قبيل ما يسمُّونه تنقيح المناط[13] .
وتحرير المسألة لا يكفي فيه توجيه عارض ، بل لابدَّ من النظر في مقاصد الشرع ، وأساليب تعامله مع الخلق زمن النبوة ، ليوضع بذلك منهج يسير عليه الدعاة ، يكون مرجعاً في الخلاف ونبراساً يضيء طريق الدعوة إلى الله .

النقطة الرابعة ـ الدعوة والفتوى :

الناس في هذا فريقان أيضاً ، وهروباً من الخلاف جنح بعض الدعاة إلى التخلي عن وظيفة الإفتاء قائلين إنَّ منهجنا دعوي فلا نتعرض لفتيا ولا نخاصم في الفروع . وهذا ـ في اعتقادي ـ لا يتفق ومقاصد الشرع ، فالله عزَّ وجل يقول : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [التوبة : 122] فجعل الله الفقه والإنذار مقصدين بدليلٍ من أقوى أدلة التعليل ( اللام ) ، وقرنَهما في بيان الوظيفة التي أوجبها الله على الدعاة مجيزاً بل موجباً تخلفهم عن الجهاد لأجلها ، ذلك أنَّ الهداية مقصدٌ مقدَّم على الجهاد القتالي كما تقدَّم بيانه .
ثمَّ إنَّ العلماء يقولون إنَّ موضوع الدعوة هو دين الإسلام ، و ما دين الإسلام إلا مجموعة من الأحكام ، تلك الأحكام التي تترجمها الفتيا .
وأما الفريقان فقائل يقول يؤخَّر البيان عند الحاجة ، وقائل يرى وجوب بيان الحكم عند السؤال عنه ولو شعر أنَّ المدعوَّ قد ينفر منه . و ينبني على ذلك موضوع لطالما كان مجالاً لنقاشٍ طويل بين الدعاة ، هل تختلف وظيفة المفتي عن وظيفة الداعية ، و كيف ؟ وما حدود ذلك ؟ أسئلة تنتظر إجاباتها ، وبيان الصواب يرجع إلى ربطٍ محكم ودراسةٍ مؤصَّلة ، تربط أحكام الدعوة بمقاصد الشريعة ، لتفعِّل هذه المقاصد في المجال الدعوي ، وهي دراسة واجبة اليوم أكثر من أي وقت مضى ، والله الميسر وهو يهدي السبيل .
أحمد محمد سعيد السعدي
7 / 5 / 2007 م

[1] هذا لا يعني أنَّ المتقدِّمين لم يعيروا ذلك أيَّ اهتمام ؛ فالحكيم الترمذي ألَّف في المقاصد الشرعيَّة الجزئيَّة ـ وهو أقدم من الجويني و تلميذه الغزالي فضلاً عن الشاطبي ومن بعده ـ ، غير أنَّ ما كتبه المتقدِّمون كان أقرب إلى الحِكَمِ العامَّة منه إلى المقاصد المنضبطة .
([2])- الموافقات للشاطبي، كتاب الاجتهاد، المسألة الخامسة، المجلد الثاني 4/117.
([3])- الموافقات للشاطبي، كتاب الاجتهاد، المسألة الثانية، 4/76-77.
([4])- الاعتصام للشاطبي، الباب العاشر، النوع الثاني 2/339.
([5])- الاجتهاد، د. القرضاوي، ص 46.
([6])- رواه البخاري في صلاة الخوف، باب: صلاة الطالب والمطلوب راكباً وإيماء، رقم 904, ونحوه عند مسلم في الجهاد والسير، باب المبادرة بالغزو…، رقم 1770.
[7] مغني المحتاج للخطيب الشربيني ، كتاب السير ، 4 / 277 ( طبعة دار المعرفة ) .
[8] ينظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية ، ت عبد الرحمن بن محمد ، 20 / 60 .
[9] ينظر : فقه السيرة ، د. البوطي ، ص 460 ( الطبعة العاشرة ) .
[10] لفظه عند البخاري : لولا قومك حديثٌ عهدهم بكفر … ، كتاب العلم ، باب من ترك بعض الاختيار …. ، 126 ، واللفظ المثبت لمسلم في الحج ، باب نقض الكعبة و بناؤها ، 1333 .
[11] رواه أبو داود ، الخراج و الإمارة والفيء ، ما جاء في خبر الطائف ، 3025 .
[12] البخاري ، الأدب ، لم يكن النبي فاحشاً و لا متفحِّشاً ، 5685 .
[13] يقصد بتحقيق المناط : النظر في معرفة وجود العلة في آحاد الصور الفرعيَّة التي يراد قياسها على الأصل ، ينظر : الوجيز ، الزحيلي ، ص 82 ، و ظاهر أنَّ النظر في مناسبة المدعو أو قابليَّته للاستفادة من الدعوة من هذا القبيل ، و هذا النوع يعتمد على الذكاء و الفطرة المناسبة عند الداعي ، و لا علاقة مباشرة بينه و بين ملكة الاجتهاد . أمَّا تنقيح المناط فهو تعيين العلة من بين الأوصاف التي ربطها الشارع بالحكم ، ينظر : المرجع السابق ، و تحديد المداهنة يعتمد على تحديد علة النهي عنها ، وهو بلا شك من طريق تنقيح المناط ، وهذا يعتمد على ملكة الاجتهاد .

ملاحظة من إدارة الموقع: نبارك لأخينا الفاضل حصوله على شهادة الدكتوراة في الشريعة الإسلامية (وهو أكبر منها بحمد الله) ونسأل الله أن يجعله مفتاحاً لكل خير وينفع به.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف ركن الدعوة. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.