العلاقة السورية الأميركية حتى نهاية الحرب الباردة (القسم الثاني والأخير)

بتاريخ 14 تشرين الثاني 1956  وفي مواجهة ما ظنته الولايات المتحدة إستراتيجية سوفيتية في الشرق الأوسط برز مبدأ  أيزنهاور “الذي أعلن للعالم أجمع أن الولايات المتحدة قد أخذت على عاتقها القيام بمسؤوليات جديدة في الشرق الأوسط”[1]، وربما يكون أحد مؤشراته مرور عدة بوارج حربية أميركية[2] أمام مرفأ اللاذقية، وقد زاد توتر الولايات المتحدة بعد زيارة الرئيس شكري القوتلي في تشرين الثاني 1956 للاتحاد السوفييتي، إذ صرح فوقها: “أن آلاف المسلمين السوفييت قد أعلنوا عن استعدادهم للمجيء إلى الشرق الأوسط لكي يخلصوا الأراضي المقدسة من  المعتدين والمستعمرين”[3].

في ذكرى الجلاء عام 1957 ألقى الرئيس شكري القوتلي خطاباً شرح فيه سياسة سورية[4]، وبَيَّنَ أنها لا تتحرك في ركاب أحلاف أجنبية، وأن الشيوعية ليس لها سبيل للتحكم في اتجاهات ومناهج سورية، والعلاقة مع الاتحاد السوفييتي قامت بسبب وقفته الصامدة خلال العدوان على مصر، وليس له طلبات أو عروض خاصة.

وفي أوائل آب من نفس العام وقعت سورية عدة اتفاقيات مع السوفييت من أهمها إنشاء سد الفرات، وسبب ذلك مزيداً من تخوفات الأميركيين[5] و”مع مرور عام 1957 قادت الحملة ضد الشيوعية وزارة الخارجية الأميركية؛ إلى نضال لاهوادة فيه ضد السوريين أسهم بدفعه وإلى حد كبير نحو الوحدة مع مصر”[6].

أحد التطورات المثيرة في العلاقة مع الولايات المتحدة هو إعلان الحكومة السورية بتاريخ 12 آب 1957 “عن اكتشاف مؤامرة أميركية لقلب نظام الحكم[7]، وفي اليوم التالي أعلن أن الملحق العسكري الأميركي روبرت مالوي، والسكرتير الثاني هوارد ستون، ونائب القنصل فرنسيس جيتون غير مرغوب بهم، وردت الولايات المتحدة بطرد السفير السوري فريد زين الدين، وأحد موظفي السفارة”[8]. ويظهر أن الأصابع الأميركية كانت تتحرك في كل اتجاه[9]، وبعد تلك المؤامرة بشهر اتهم رئيس الوزراء السوفييتي بولغانين تركيا “بأنها وضعت قوات على الحدود السورية بهدف القيام بهجوم مخطط له من الولايات المتحدة”[10].

بدءاً من عام 1958وخلال فترة الوحدة مع مصر أمسكت الولايات المتحدة “عن اتباع سياسة معادية لناصر كلياً”[11]، ولكن أثارت سورية نقمة الولايات المتحدة برفض مشروع جونستون[12] للاجئين الفلسطينيين، والذي طرح أواخر عام 1962، والذي كان هدفه خدمة المصالح (الإسرائيلية) فازداد التنافر بين الدولتين، وبقيت الولايات المتحدة تحاول التدخل ما استطاعت إلى حد “أن القنصل الأميركي قام بتوزيع النشرات المصرية وصور عبد الناصر، يوم عصيان القطعات العسكرية بحلب”[13]، وعندما قام انقلاب الثامن من آذار 1963، و”ثاني يوم الانقلاب، جاء السفير الأميركي لزيارة قائد الانقلاب اللواء زياد الحريري، وعرض عليه كل مساعدة ممكنة، فقال له الحريري: إن احتجنا إلى شيء فسنخبركم”[14].

بقيت العلاقات فاترة حتى عدوان حزيران عام 1967، إذ قطعت سورية علاقتها مع الولايات المتحدة[15]بسبب الدعم اللامحدود (لإسرائيل)، وخلال أكثر من خمسة أعوام لم يطرأ أي جديد على العلاقات عدا حادثتين[16]: الأولى: اعتقال المقدم ريتشارد بارات في التاسع من أيلول 1972، وهو معاون الملحق العسكري الأميركي بين بيروت وعمان، وقد دخل سورية بجواز عادي فلما اعتقل أبرز جوازه الديبلوماسي، وتبين أنه مطلع على تسليح الجيش السوري، وعنده معلومات عن الصواريخ والأسلحة السورية، وقد تم الإفراج عنه بعد يومين التزاماً بمعاهدة فينَّا، وقد طلبت الولايات المتحدة اعتذاراً من الحكومة السورية، فلم تستجب لها.

والثانية: هي اعتقال الطالب الأميركي (جوناثان ييتس) بتهمة الاتصال بيهود دمشق وتأمين سفرهم إلى (إسرائيل) وقد تم ذلك في آذار 1972.

كان جوزيف سيسكو نائب وزير الخارجية الأميركية قد طلب من المندوب السوري سليم اليافي أثناء دورة الأمم المتحدة لعام 1969 التواصل مع الجانب السوري، فقوبل الأمر بالرفض من قبل رئيس الدولة وقتها الدكتور نور الدين الأتاسي[17]. وقد أثرت العلاقة السلبية مع الولايات المتحدة في ذلك الوقت على العلاقة مع دول أخرى و”كان من الأسباب التي حالت دون إقامة علاقة وثيقة سياسية واقتصادية مع اليابان، لارتباط اليابان بعجلة الولايات المتحدة سياسياً واقتصادياً، ومعارضتنا الأنظمة التي تسيطر عليها الامبريالية أو تسير سياستها”[18].

خلال دورة الأمم المتحدة 1972، أعاد جوزيف سيسكو محاولة التواصل، فطلب مقابلة وزير الخارجية السورية[19]، وقد وافق الرئيس حافظ الأسد على المقابلة، وتبين منها “رغبة أميركا بتحسين علاقاتها مع سورية، ورغبتها بإقامة سلام في منطقة الشرق الأوسط يستند إلى قرار مجلس الأمن (242) كما بين سيسكو أن أميركا والاتحاد السوفييتي متفقان على تجنب الصدام في منطقة الشرق الأوسط …  [وقد لُمِسَ من خلال المقابلة] أن الرئيس حافظ الأسد…. لامانع عنده من إقامة شعرة معاوية مع الولايات المتحدة، مستفيداً في ذلك من زيادة الدعم السياسي والعسكري من الاتحاد السوفييتي، ومقيماً نوعاً من التوازن في علاقاته الخارجية لمصلحة سورية”[20].

بعد أكثر من شهرين من حرب أكتوبر 1973 زار هنري كيسنجر المنطقة، واجتمع مع الرئيس الأسد بتاريخ 15 كانون الأول[21]، وتلا ذلك جولات عديدة مهدت لزيارة الرئيس الأميركي نيكسون بتاريخ 16 حزيران 1974، والتي ساهمت في تهدئة التوترات السياسية، ولكنها لم تستطع كسر الموقف السوري ونظرته إلى عملية السلام مع (إسرائيل) ،  وصحيح أنه لم يحصل تصادم خلال السنوات التالية إلا أنه لم يحصل التوافق المطلوب،  وبذلت الإدارة الأميركية جهداً آخر للتقرب من سورية؛ كانت ذروته اجتماع جنيف[22] بين الرئيسين حافظ الأسد وجيمي كارتر بتاريخ 9 آيار 1977.

لا يمكن اعتبار اللطف الأميركي صافياً بل يمكن القول أن الولايات المتحدة ربما كانت تحاول تهيئة سورية لعملية السلام وفق تصوراتها الضامنة للمصالح الإسرائيلية، ولكنها لم تفلح، وصحيح أنها أقنعت الرئيس السادات بتوقيع معاهدة السلام مع (إسرائيل) عام 1978 ، لكنها أخفقت في زج سورية في عملية مماثلة.

خلال الأعوام التالية حصلت مواقف لافتة فقد أصدرت الولايات المتحدة عام 1979 قائمة مادعته الدول الداعمة للإرهاب ووضعت سورية في مقدمتها، وخلال بداية الثمانينات تعكرت الأمور أكثر، وظهرت إيحاءات أميركية إلى دول المنطقة لفتح الأبواب وتدريب العناصر العسكرية المناوئة للنظام في سورية[23]، وفي عام 1986 سحبت الولايات المتحدة سفيرها من سورية بعد مزاعم عن تورط سوري في تفجير طائرة (إسرائيلية)، ولكن الأمور هدأت قليلاً عندما طردت سورية مجموعة أبو نضال الفلسطينية عام 1987 ورجع بعدها السفير الأميركي إلى دمشق[24].

أدت الظروف الدولية بعدها إلى وضع سورية في موقف حرج ،  فاجتياح العراق للكويت عقد الأمور في المنطقة بشكل غير مسبوق، وكان أهون الشرين انضمام سورية في آب 1990 إلى التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة، والذي كان مناسبة للمزيد من التهدئة التي مهدت لاحقاً لقمة جنيف بتاريخ 23 تشرين الثاني 1990بين الرئيسين السوري حافظ الأسد والأميركي جورج بوش الأب، والتي كانت جزءاً من مرحلة جديدة  في سياسات المنطقة ، المتجهة نحو معادلات غير مسبوقة  لابد من التعامل الحذر والدقيق معها، فالحرب الباردة قد انتهت، وتضعضعت قبضة الدب السوفيتي ليتشظى الاتحاد السوفيتي إلى عشرات الدول، مخلفاً وراءه فراغاً غير مسبوق ، ولتبدأ هيمنة النظام العالمي الجديد، والذي  حمل معه من المفاجآت مالم  يُتوقع من خلال حرب باردة ولاساخنة.

بحث كتبه أحمد معاذ الخطيب الحسني

ونشر بتاريخ 7 ذي القعدة 1431هـ/ 14 تشرين الأول 2010م.

الخـُلاصَــةُ

يُظهر البحثُ أنَّ العلاقة بينَ سُوريةَ والولاياتِ المتحدةِ الأميركيةِ  كانَت غالباً عَلاقاتٍ متوترةً أو حَذِرَةً أو فاتِرةً وفي أحسنِ الأحوالِ علاقَةُ مُجاملةٍ ماكرةٍ، ولَم تَكُن يَوماً علاقةَ صداقةٍ حقيقيةٍ ، وهي لم تدَّخِر أيَّ جُهدٍ من أجلِ التَّدَخُّلِ في الشؤونِ السُّوريَّةِ مُنذُ بِدايةِ وَعيها بِأهمِّيةِ الشَّرقِ الأوسطِ، وهَي المسؤولُ الأوَّلُ عنِ الخَرابِ السِّياسي ودَمارِ الحياةِ البَرلمانيةِ الحُرَّةِ والذي بَدأ بانقِلابِ حُسني الزَّعيمِ، وماتبعهُ مِن انقلاباتٍ عَسكريةٍ حَولت مَسيرةَ الحياةِ في سُوريةَ حَتى اليومِ، ويَكفي في وصفِها ماذكرهُ المرحومُ الرئيسُ خالدُ العَظم ِعَنها: “دِيمقراطيةُ الولاياتِ المتحدةِ ليسَ لها أنصارٌ في البلادِ الديمقراطيةِ  ولا نَرى لها حُلفاءَ وأُجَراءَ إلاَّ في البلادِ التي تحكُمُها طُغمَةٌ بوليسيةٌ تَنتَزِعُ الحـُكمَ وتَعتَمِدُ على الخارِجِ لِبَقائِها فِيهِ” 1.

 

انظر:  خالد العظم ، مذكرات خالد العظم ، مرجع سابق ، 3/400.


[1] - المرجع نفسه، 371 ، و يذكر سيل في الصفحة 374 نقلاً عن كتاب: سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط/ أيلول 1956–حزيران 1957 ص 31، والذي أصدرته الخارجية الأميركية أنه في الخامس من كانون الثاني 1957 سعى الرئيس أيزنهاور للحصول على سلطات من الكونغرس تتيح له استخدام القوات المسلحة للولايات المتحدة لحماية أية دولة شرق أوسطية تطلب المساعدة “للوقوف ضد العدوان المسلح من قبل أية دولة تسيطر عليها الشيوعية الدولية” ، ولعرض مساعدة تصل إلى 200 مليون دولار لتقوية الأمن الداخلي ودعم وتشجيع الحكومات المحافظة على النظام.

[2] - خالد العظم، مذكرات خالد العظم، مرجع سابق، 3 ، 97.

[3] - باتريك سيل، الصراع على سورية ، مرجع سابق، 376.

[4] - نصوح بابيل، صحافة وسياسة سورية في القرن العشرين، مرجع سابق، 587.

[5] - يذكر خالد العظم في مذكراته أن الرئيس جمال عبد الناصر كان يريد إنشاء سد الفرات لنقل ملايين البطون الجائعة من الفلاحين المصريين وتوطينهم في سورية، ولكن الولايات المتحدة لم تكن ترغب بأن يتم الأمر على يد السوفييت، وكانت هناك خطة للتمويل من ألمانية الغربية تبلغ 500 مليون مارك ، ولكن بعد الانفصال ماطلت الحكومة الألمانية في متابعة المشروع. وانظر : - خالد العظم، مذكرات خالد العظم، مرجع سابق، 3، 400-401.

[6] - باتريك سيل، الصراع على سورية، مرجع سابق، 377.   ويمكن مراجعة مذكرات خالد العظم، 3، 108-119.

[7] - ظهر أن العقيد أديب الشيشكلي ورئيس شرطته العقيد  إبراهيم الحسيني (الملحق العسكري السوري في روما) قاما بزيارة سرية إلى دمشق صيف عام 1957 بمعونة الأميركيين ، لدعم الإنقلاب ، وانظر: - باتريك سيل، الصراع على سورية، مرجع سابق، 384.

[8] - المرجع نفسه 383.

[9] - بلغ التغلغل الأميركي إلى حد أن إدارة جمعية التمدن الإسلامي طلبت “البحث في أوضاع النشابية ومحيطها لإمكان القيام مقام مؤسسة الشرق الأدنى [الأميركية] في مشاريعها الأجنبية، نظراً لما بلغ الجمعية من أخبارها ومفاسدها، من قبل مدير الناحية” وانظر: - سجل القرارات لجمعية التمدن الإسلامي ، الجلسة 21 لعام 1957 ، 4 ذو القعدة 1376هـ/2حزيران1957م.

[10] - باتريك سيل، الصراع على سورية، مرجع سابق، 392.

[11] - مايلز كوبلاند، لعبة الأمم، مرجع سابق، 279.

[12] - خالد العظم، مذكرات خالد العظم، مرجع سابق، 318-320.

[13] - المرجع نفسه، 312. وقد تم الأمر بتاريخ 28 آذار 1962 كمحاولة مصرية لاستعادة الوحدة بعد الانفصال.

[14] - عبد الله الخاني، الدبلوماسية السورية في عقدين (1959-1980)، بيروت، دار النفائس، 1425هـ-1980م، 45، وقد ذكر المؤلف أن السفير الروسي قام بنفس الأمر وحصل حديث عن أمور أكثر أهمية.

[15] - المرجع نفسه، 237. ويذكر الخاني ص 239 أن السفارة الإيطالية كانت ترعى المصالح الأميركية في دمشق ، بينما ترعى السفارة الباكستانية المصالح السورية في الولايات المتحدة.

[16] - نقلاً عن المرجع نفسه، 239- 240.

[17] - عبد الله الخاني، الديبلوماسية السورية في عقدين، مرجع سابق ، 240.

[18] - المرجع نفسه ، 262.

[19] - كان وزير الخارجية وقتها هو المحامي عبد الحليم خدام.

[20] - عبد الله الخاني، الديبلوماسية السورية في عقدين، مرجع سابق، 240-241.

[21]-     - Patrick seale, ASSAD, the struggle for the middle east, London, I.B.Tauris&Co Ltd publishers,  1988, 230.

[22]-295.                                                                                                                 - Patrick seale, ASSAD,

[23]- لعب النظام العراقي في بداية الثمانينات (وبموافقة أميركية) دوراً مركزياً في دعم حوداث تفجير واغتيالات وصدامات عسكرية. ولا تتسع هذه الدراسة الموجزة لبيان الدور الأميركي في محاولة  خلخلة النظام السوري، وهو الأمر الذي أخفقت فيه الولايات المتحدة الأميركية بشكل ذريع ، ويمكن للإطلاع على بعض جوانبه مراجعة :                  - Patrick seale, ASSAD, 316-338.

[24] - بتصرف نقلاً عن : www.alghad.jo/?news=26526.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف كلمة الشهر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.