ثمار (النهضة).. كيف تنمو والبذور نائمة في جيوبنا!!

بقلم الفاضلة : ريما الحكيم

حين نسمع بتجارب بعض الناجحين، فإن – سلبيتنا في التعامل مع الأمور – للأسف؛ تجعلنا ننظر إلى نجاحاتهم بانبهارٍ يعمينا عن رؤية الحقائق التي بإمكاننا عن طريقها أن نسير على طريق النجاح مثلهم.. تلك الحقائق التي جعلها الله سنناًً كونية لا يمكن الوصول إلى النجاح دونها..
ولكي أُقَرِّب الفكرة التي أريد طرحها إلى الأذهان، سأطرح فكرة نجاح (رجب طيب أردوغان) رئيس الوزراء التركي، في تحقيق نهضة محتملة للإسلام في بلاده مع أنها كانت طوال حوالي 100 عام بلاداً علمانية، الإسلام فيها مُحاربٌ ومنبوذٌ من قِبل النظام والحكومة، مع كونه موجوداً وبقوة في الساحات الشعبية والفردية بين الناس..
يقول البعض: نجح (رجب طيب أردوغان) في إعادة المحجبات إلى الجامعات بعد أن كُنَّ يُمنعن من دخول الحرم الجامعي لمجرد كونهن محجبات.. أو يقول: نجح (أردوغان) في إعادة اللغة العربية لغةً تُدرس في الجامعات بعد أن منع (مصطفى كمال أتاتورك) الناس من التعامل بها مطلقاً بشكل رسمي.. أو نجح (أردوغان) في إعادة أماكن تحفيظ وتدريس القرآن إلى العمل بعد أن كانت لا تمارس دورها إلا في الخفاء منذ أعوام طويلة جداً، أي منذ أن أغلقتها الحكومة الأتاتوركية عام 1930م، حيث لم يتم فتحها بعد ذلك إلا عام 1947م ولكن دورها كان خجولاً وبسيطاً…
كلامهم كله صحيح، وانبهارهم بنجاح هذا الرجل الطيب انبهارٌ متوقَّعٌ في ظل الأزمات التي نمر بها، والتي تحاول الإطاحة بهويتنا الإسلامية..
لكن المشكلة تكمن في حالة الانبهار المزمن التي نعاني منها.. حالة الانبهار الذي يشلنا عن تحليل المقدمات وتفكيك الأساليب للوصول إلى النتائج.. هنا تكمن مشكلتنا..

لقد نجح (أردوغان) في تحقيق صورة الرجل المسلم الطموح الفعال الإيجابي، الذي يعمل من أجل دينه ووطنه معاً، والذي استطاع أن يصل إلى منصبٍ حكوميٍ تمكن من خلاله من تحقيق العديد من الأمور التي كان يطمح لفعلها المسلمون الأتراك.. نجح أردوغان في كل ذلك.. ونجح في جعل العيون ترنو إليه وتنظر إليه بإعجاب كونه تمكن من تحقيق حلم طالما حلمنا به..
ولكن.. لماذا ننظر إليه على أنه رجلٌ فرد تمكن من كل ذلك؟؟
لماذا نسمع البعض يقول: إنه أول من تمكن من ذلك بعد عقود من السيطرة العلمانية التركية المحاربة للدين في البلاد؟؟!!
هل هو الأول فعلاً؟؟ هل كان الوحيد فعلاً؟؟
إن قراءتنا لقصة صعود أردوغان إلى منصبه الحالي تخبرنا عن الأسس التي قامت عليها النهضة الإسلامية الحالية في تركيا..
فالنجاح الحالي ليس وليد الأعوام القليلة السابقة فقط، إنما هو وليد عمل وجهد استمر منذ أكثر من 90 عاماً..
فبعد السقوط المروع للخلافة العثمانية عام 1924م، وبعد استلام (أتاتورك) للحكم وسيطرته على البلاد ومحاربته للإسلام، بدأت تظهر بذور النجاح التي نراها في وقتنا حين ظهر المجدِّد العظيم بديع الزمان سعيد النورسي، الذي أعلن بوضوح رفضه لمبادئ العلمانية التي أتى بها أتاتورك، فنُفِي وظل في المنفى طيلة حياته حتى مماته، وذلك من سنة 1925م إلى سنة 1960م (35 سنة متصلة)، ومع ذلك فرسائله إلى أتباعه في داخل تركيا لم تنقطع، والتي عرفت بعد ذلك باسم (رسائل النور)، ومؤلفاته لم تتوقف، وهو أحد أهم أسباب انتشار الإسلام في تركيا، وهو من العلامات الفارقة في تاريخ الأمة الإسلامية؛ فقد كانت كلماته تنفذُ إلى القلب والعقل، فتثبِّتُ المسلمين في تركيا على الرغم من القهر الشديد لأتاتورك وأتباعه.. وآثاره الحميدة على الشعب التركي ما زالت موجودة إلى الآن….
ثم في سنة 1950م حدث تغيرٌ مُهِمٌّ في الحكومة التركية صعد على إثره عدنان مندريس إلى رئاسة الوزراء في تركيا، وظل في منصبه إلى سنة 1960م، ولم يكن عدنان مندريس إسلاميًّا [؟] ولكنه كان وطنيًّا يُظهِر إمكانية التعامل مع كافة القوى من أجل مصلحة تركيا. وفي هذه الظروف نشط الاتجاه الإسلامي نسبيّاً، وبدأت هناك بعض المطالبات بحريات أكثر وأكثر للتيار الديني، وزادت أعداد مدارس الأئمة والوعاظ، وبرز دور علماء الدين بشكل أوضح. فقام الجيش بانقلاب دموي رهيب في سنة 1960م، ونفذوا حكم الإعدام في عدنان مندريس، وكذلك في جلال بايار (مؤسس الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه عدنان مندريس) وفي عدد من أتباعه، مع التصدي بمنتهى العنف للتيارات الإسلامية المتنامية، وكانت هذه صدمة كبيرة للحركة الإسلامية في تركيا، خاصةً أنها جاءت في وقت متزامن مع وفاة العلاّمة بديع الزمان النورسي رحمه الله تعالى..
إن صدمةً من هذا النوع عادة توقف العمل وتجمد الأفراد كما رأينا وشاهدنا من أمثلة في تاريخنا الإسلامي، لكنها لم تفعل ذلك في تركيا، وظل الوضع على صورته القاتمة هذه إلى أن برزت شخصية محورية في تاريخ تركيا، وهو القائد الإسلامي نجم الدين أربكان، الذي قام بتأسيس حزب السلامة سنة 1972م، وكان ينادي بإقامة “النظام العادل”، ويبرز آفات العلمانية التركية المتشددة..
وبعد تأسيس هذا الحزب الجديد التقى نجم الدين أربكان مع رجب طيب أردوغان، وأعجب به إعجاباً شديداً وضمَّه إلى حزبه السلامة؛ ليبدأ أردوغان خطواته السياسية مع أربكان. وقد قام النظام التركي العلماني بحلِّ حزب السلامة في سنة 1980م، وظنُّوا أن الأمر انتهى بهذا القرار، فعاد أربكان وأنشأ حزباً آخر سنة 1983م أسماه حزب الرفاه، والتي كانت توجهاته إسلامية بشكل واضح.. في هذا الحزب الجديد لمع نجم أردوغان بسرعة، وصار أردوغان رئيساً لفرع الحزب في إسطنبول سنة 1985م (وكان عمر أردوغان آنذاك 31 سنة فقط)… وبعد ذلك تأسَّس حزب الفضيلة عام 2000م، ومن ثم حزب العدالة والتنمية عام 2001م..

وبعدها توالت الأحداث حتى وصل أردوغان إلى أن يصبح (رئيس وزراء تركيا) صاحب المنصب التنفيذي والتشريعي والسلطوي الأعلى في البلاد…
إننا بقراءتنا السريعة لتلك الأحداث نعلم أن حزب العدالة والتنمية لم يكن وليد عام 2001 فقط، بل كان ثمرة لبذرةٍ زُرِعت منذ كان سعيد النورسي في سجنه يكتب رسائل النور لطلابه ويبث روح الأمل للمسلمين المقهورين في تركيا جراء النظام العلماني التركي الظالم لهم، بدأ النورسي بزرع البذور وسقيها.. لم يهمه أن يرى النتيجة حالاً، لم ينتظر أن تنمو البذور بعد عام أو عامين، لم يكن يكتب لطلابه وهو موقن أنه سيخرج ليجدهم قد حققوا حلمهم بالانتصار على من يعادي الدين.. لا.. كل ذلك لم يكن من همومه..
إنما كان همه الأول هو البذرة الأولى.. البذرة التي أوصلت تركيا، إلى تركيا 2010 التي نراها في يومنا الحالي.. تركيا المسلمة التي استطاع رئيس وزرائها أن يعيد الإسلام للظهور على ساحتها الفاعلة من جديد، وبشكل حضاري متسامح بعيد عن التعصب والانغلاق..
تركيا أردوغان اليوم.. هي ثمرة تركيا النورسي عام 1925.. مروراً بمندريس رحمه الله، وأربكان.. وصدماتٍ عديدة، وجولاتٍ خاسرة متعددة، وأحزابٍ حُلَّت، وأحزابٍ نشأت.. وأفراد قتلوا، ومشاريع فشلت..
والنتيجة: تركيا المسلمة التي نعيش اللحظة انبهارنا بها دون أن نأخذ منها الدروس والنتائج والعبر كي نسير على طريقها الناجح…

لنكن منطقيين…
ولنترك التفاؤل (الغبي) لأهله…
إننا ما دمنا ننظر بهذا الانبهار فستعمى عيوننا مع الأيام ولن نستطيع مواصلة الطريق..
وما دمنا أولاد اللحظة فقط، وما دمنا ننتظر النتائج الصغيرة، وما دمنا لا نفعل أي أمر حتى نضمن حدوث النتيجة في حياتنا.. فلن ننجح.. نعم لن ننجح..
أنا لا أتكلم بتشاؤم.. لكنني أرفض التفاؤل (الساذج) الذي يجعلنا نعيش أحلامنا بالنجاح دون أي فعل عملي وتطبيقي كي ننجح..
أتكلم من الواقع الذي يحيط بنا، بمقارنته مع ماضينا، لنستنتج النتائج الموصلة..
إن الله سبحانه قد وضع سنناً كونية للحياة، ولن يخرق هذه السنن لأجل (عيون) أحد، حتى لو كنا نحن (المسلمين) الذين ننظِّر بأننا نريد تحقيق النهضة المنشودة ونسعى وراء ولادتها.. و(الطفرات) ليس موجودة بشكل دائم، ولا يجوز لنا انتظار واحدة منها ترفعنا إلى القمة من العدم.. و(الخوارق والمعجزات) انتهت بوفاة آخر الرسل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم…
وإن لم نعمل.. فنحن ها هنا قاعدون..
الإسلام محفوظ.. نعم..
والله سيحمي أهل دينه.. نعم..
لكن المشكلة أننا بتنا نتكل على هذه الأقوال دون الإيمان بها حقيقة (وحقيقة الإيمان هي التطبيق العملي لا مجرد وجود الفكرة في الذهن).. نتكل على وجودها ونترك تحقيق النهضة للأيام… دون أي عمل..
وإن بقينا هكذا.. يؤسفني أن أقول.. بصدق.. أننا: لن ننهض…
لا.. لن ننهض.. لن ننهض!!!!
وسنبقى على حالنا هذه أجيالاً بعد أجيال..
الأجيال السابقة لم تزرع لنا.. فبقينا كما كانوا..
ولأننا لا نرى بشائر لثمارنا، فإننا لا نزرع للأجيال القادمة.. فسيبقون كما نحن الآن..
وسنبقى على هذه الحالة.. جيلاً بعد جيــل….
لا نحن نزرع.. ولا هم زرعوا..
والبذور تموت في العقول..
والحساب يوم القيامة…
نسأل الله العافيـــة!!!!
………………….
ومضـــة:
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)) [العنكبوت:69].
لقد ربط الله هداية الإنسان إلى السبيل الصحيح بالجهاد، والجهاد المقصود هو الفعل، لا مجرَّد القول والاقتناع بفكرة ما، فلكل منا طريقته في العمل كي يُهدى إلى السبيل المستقيم، ولكل منا دوره في صناعة النهضة..
وحركة التاريخ [كما يقول مالك بن نبي رحمه الله]
إنما تصنعها آلاف الجهود الصغيرة التي لا نلقي لها بالاً…
ريما الحكيم

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف المناهج. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.