الداعية والمفكر الإسلامي محمد بن كمال الخطيب

دعاة أخفياء :

ولد الداعية والمفكر الإسلامي محمد بن كمال الخطيب عام 1913م في الخريزاتية – حي القيمرية أحد أعرق أحياء دمشق ؛ منحدراً من أسرة علمية ينتهي نسبها إلى الإمام الحسن بن علي رضي الله عنهما (ويعتقد أن عمره الحقيقي أكبر عدة سنوات مما تذكره الأوراق الرسمية). تجرع اليتم باستشهاد والده : الشيخ كمال في معركة ميسلون ، والذي كان فرضياً ومدرساً في جامع بني أمية الكبير ، فأثر الأمر في نفس الابن فاتخذ من رجولة أبيه لقباً يذكره به ، فكان يكتب تحت اسم : ابنُ شهيد ميسلون : محمد بن كمال الخطيب. نشأ محمد بن كمال عصامياً وشق طريقه الصعب في الحياة حتى تخرج من كلية الحقوق بجامعة دمشق ، وكان من زملائه منير العجلاني ومن أساتذته مفتي الشام الطبيب أبو اليسر عابدين ، وكان بينهما محبة شديدة وملازمة من التلميذ لأستاذه مدة طويلة ، كما تردد على شافعي دمشق الشيخ صالح العقاد رحمه الله

انخرط الأستاذ في نشاطات كثيرة وطنية وإسلامية ، ومنها الجبهة الوطنية المتحدة (الحرة) التي أسسها الأستاذان زكي الخطيب وعبد الرحمن الشهبندر وكان أحد المنظمين للشباب فيها باسم شباب العروبة السوريين.

أما أهم خط أثَّر في حياة الأستاذ رحمه الله فهو بلا ريب خط جمعية التمدن الإسلامي ، وهو أحد أقدم رجالها ، وقد ضمت الجمعية صفوة علماء الشام في وقتها مثل الأساتذة السادة : حمدي السفرجلاني ، عبد الفتاح الإمام ، أحمد مظهر العظمة ، عبد الحميد كريم ، عبد الحكيم المنير ، محمد بهجت البيطار ، محمد علي ظبيان ، محمد سعيد الباني ، جميل الشطي ، محمد أحمد دهمان ، عبد الرحمن الخاني ، سعيد الأفغاني ….. وغيرهم من العلماء السابقين …. ثم صار الأستاذ أحد أنشط رجال الجمعية وأميناً لسرها ثم مديراً لمجلتها ، وأفنى شبابه فيها وكانت الجمعية همه وحياته وسعادته رغم الطريق الطويل المليء بالمصاعب والمحن . ظهرت نجابة الأستاذ خطيباً وكاتباً ومفكراً منذ بواكير شبابه ، وقد نشرت أول مقالة له في العدد الثالث من السنة الأولى من مجلة التمدن الإسلامي (1932م) بعنوان : التشريع الإسلامي ، وتتابع عطاؤه فنشرت له مجلة التمدن الإسلامي خلال مايقارب الخمسين عاماً من حياتها حوالي أربعمائة وخمس عشرة مقالة باسمه الصريح وحوالي أربعاً وأربعين مقالة تقريباً تحت اسم ( م.خ ) ، وستاً باسم أبي كنانة (وقد صار أبا كنانة بعد أعوام طويلة من اختياره ذلك اللقب)

ويذكر الشيخ علي الطنطاوي في ذكرياته عن بغداد مايلي: ( ولما رجعت في الصيف إلى دمشق، دعوت إلى داري وكانت في (الخضيرية)، وكانت فيها غرفة كبيرة فيها مجلس عربي، دعوت العاملين في مجال الدعوة إلى الإسلام، من أصحاب الصوفية إلى أرباب السلفية، لم أغادر منهم أحداً، ومن فقهاء المذاهب الأربعة، إلى الوعاظ والخطباء، فحدثتهم عما رأيته في العراق، وحذرتهم مثل ذلك المآل.. وقلت لهم بعد كلام طويل: أنا لا أريد أن يبدل أحد منكم طريقته ولا أن يغير مشربه، ولكن أريد شيئاً واحداً، هو أن هذا الباب المغلق إن دفعته يد واحدة لم ينفتح، فإن اجتمعت عليه الأيدي الكثيرة فتحته. والذي أريده هو أن نتعاون، لا أن يعمل كل وحده. واقتراحي هو أن تنتخب لجنة فيها ثلاثة منكم، يراقبون الأحداث، فإن رأوا ما يمس الإسلام كان عملهم أن يبلغوكم به فقط. هذا هو وحده عملهم، فمن اقتنع منكم بوجوب العمل عمل على طريقته وأسلوبه: الخطيب يذكر ذلك في خطبته يوم الجمعة، والمدرس يعرض له في حلقته، والمعلم يذكره لتلاميذه في مدرسته، وكل واحد ينبه إليه أصحابه، ومن كان ذا قلم أو كانت له صلة بأرباب الأقلام وأصحاب الصحف؛ عمل على الكتابة فيها أو دفع إلى ذلك أصحابها. ومن استطاع أن يراجع الوزير الذي يقدر على إزالة هذا المنكر ذهب إليه وحده، أو مع وفد يختاره، فشرح له الأمر وطلب منه إنكار المنكر. وانتخبت اللجنة وكان فيها ثلاثة، وكلهم ـ بحمد الله ـ أحياء، أحسن الله ختامهم، وهم الأستاذ محمد كمال الخطيب، والأستاذ الشيخ ياسين عرفة، وعلي الطنطاوي). وهذه شهادة عالية بالأستاذ من رجل قليل من يعرف الرجال مثله. كما يذكر الطنطاوي في مذكراته أن الأستاذ عبد الغني الباجقني رجل عالم بالعربية، فقيه مالكي، واسع المعرفة من أفصح من عرف الطنطاوي لهجةً ، يكاد يكون كلامه كله فصيحاً ، ثم يقول: ( لاأعرف مثله في ذلك إلا قليلاً منهم الشيخ بهجة البيطار ، والأستاذ محمد البزم ، ومن إخواننا الأحياء المحامي محمد كمال الخطيب ) وهذه شهادة أخرى من العلامة اتلطنطاوي للأستاذ رحم الله الجميع.

كان للأستاذ مكتب للمحاماة يعيش منه افتتحه في منزله المعروف في شارع خالد بن الوليد ، بعدما تدرب على المحاماة في مكتب قريبه الأستاذ زكي الخطيب وعمل معه في الأمور السياسية والوطنية ، وكان محمد كمال معجباً به لأستاذيته ووطنيته وثقافته العالية وبقائه ثابتاً على دينه وولائه لأمته خلاف الكثيرين ممن فتنوا بالغرب .

بقي الأستاذ محمد بن كمال يحاضر ويدرس ويخطب وينشر أكثر من خمسين عاماً ، ..وقد مكث حوالي خمسة عشر عاماً خطيباً في جامع نور الدين الشهيد (سوق الخياطين) ومايقارب عشر سنوات في جامع المولوية (شارع النصر) . عمل الأستاذ في الحقل الإسلامي والوطني السياسي والاجتماعي والخيري وكان صلة الوصل بين جمعية التمدن الإسلامي ، والشبان المسلمين ، والجماعات الإسلامية الأخرى ، وقد اعتقل مرتين في حياته وحكم عليه في إحداها بالإعدام (أحداث الأموي) في منتصف الستينات.

لم يترك الأستاذ نوعاً من العمل الخيري والاجتماعي لم يقتحمه فكان من مؤسسي ميتم سيد قريش، ومن مؤسسي جمعية رعاية المكفوفين، كما شارك في الإدارة والتأسيس والتدريس في العديد من المدارس وخصوصاً مايهتم منها بمكافحة الأمية، واختير مديراً للتعليم الخاص في الخمسينات (خلال عهد الرئيس شكري القوتلي) ، وقد سافر في أواخر عام 1981م إلى بريدة وأنشأ جمعية بريدة الخيرية لأنه رأى فيها مايخالف نهجه في الحياة! وعمل مستشاراً لرابطة العالم الإسلامي والتي طبعت له بعض مؤلفاته، كما امتحن بالعمل مستشاراً قانونياً في السعودية لأحد كبار رجال الأعمال أكثر من خمس سنوات ثم أُكلت حقوقه . كان عنده تصريح من الملك عبد العزيز بأنه من رعايا المملكة ، لكنه كان ينظر إلى عطايا الملوك بحذر بالغ ويخشى أن يكون الثمن على حساب دينه؛ فلم يستخدم ذلك التصريح يوماً رغم ظروف شديدة أحاطت به.

ينتسب الأستاذ عملياً إلى مدرسة علماء الشام الفحول كجمال الدين القاسمي وطاهر الجزائري، وسعيد الباني، ومحمد بهجة البيطار، ومحمد أحمد دهمان، وعلي الطنطاوي، وأحمد مظهر العظمة … وغيرهم رحمهم الله جميعاً،. كما يعتبر الأستاذ أحد أنشط رجال جمعية التمدن الإسلامي، وربما لايسبقه في ذلك إلا الأستاذ أحمد مظهر العظمة، وقد كان منهج الجمعية ولا يزال منهج اتباع الدليل من الكتاب والسنة مع إدراك عميق لمقاصد الشريعة، وانفتاح وتعاون مع كافة التيارات الإسلامية، دون انغلاق ولا تعصب ولا تكفير، مع اهتمام بالغ بأحوال الأمة و سد ثغراتها على كل صعيد. كان الأستاذ محباً لابن تيمية رحمه الله مع نفس صافية وتواضع جم، ومن طرائف تجرده وبحثه عن الصواب أنه كان ضد الفكر الصوفي ويراه سبب تخلف المسلمين، وبعد محاورة مع الأستاذ محمود غراب ناشر كتب الشيخ محي الدين بن عربي ومدرسها؛ حضر كثيراً من تلك الدروس مابين عامي 1970- 1980م وانغمس في تلك الفترة في دراسة الفتوحات المكية ولخصها كلها، وتوجه إلى البحث عن ناشر لملخصه ثم بدا له أمر ما؛ فأمر بإحراق ذلك الملخص!

-حضر الأستاذ مؤتمرات تربوية ودعوية وقانونية عديدة، في الإمارات والسعودية ومصر وغيرها باسمه أو باسم جمعية التمدن الإسلامي، وكان متأثراً بشكل كبير بقريبه الأستاذ محب الدين الخطيب وطريقته في الحركة والتفكير.

-شكل الأستاذ في عائلته آل الخطيب الحسني محور استقطاب فعال، سواء في مجالسها العائلية أو نسيجها الاجتماعي ،وهو أحد وجوهها الأساسية ، ويمكن اعتباره المرشد الروحي لبقية كشاف آل الخطيب الحسني والناظم التربوي لهم ، متعاوناً مع ابن عمه الطبيب أبي الخير (وهو أحد أبرز رجال عائلة الخطيب وكبير أساتذة الجراحة في جامعة دمشق).

-زاره أحد الدعاة وسأله: أين موقعنا؟ فقال الأستاذ: لو أُعطيت وزارات الدولة فأيها تختار؟ فقال: وزارة التربية؛ فقال الأستاذ: إذاً اجعل همك وعملك في التربية!

- من آثر كتبه عنده كتاباه : الحج على المذاهب الأربعة و نظرة العجلان في أغراض القرآن (وهو موجز لتفسيره المخطوط) كما له من المؤلفات ، والكل من مطبوعات جمعية التمدن الإسلامي:

-زهرات وثمرات 1976

-تذكرة الحج والعمرة 1955م

-الحج بعبادته ومنافعه 1977م

-دراسات قرآنية 1973م

-مناهج المعارف في البلاد العربية

- طرابلس برقة 1965م

-التعريب لأهل العربية 1977م

-حكم قروض الجمعيات السكنية 1977م ك

ما له من الآثار المخطوطة تفسير موضوعي للقرآن الكريم كتب منه عشرين جزءاً في دمشق، وأتبعها بعشر في الحجاز؛ إضافة إلى مخطوط كتبه في السبعينات حول تعليم اللغة العربية لغير العرب. وله مئات المقالات المبثوثة في بطون مجلدات مجلة جمعية التمدن الإسلامي.

-رزق الأستاذ ولدين أكبرهما محمد كنانة (مهندس ميكانيك) ومحمد معد (مهندس ديكور) وبنت (السيدة لبانة) تزوجت من آل الرقوقي ، كما رزق بطفل توفي غرقاً وهو في الرابعة من عمره أثناء رحلة مع كشاف آل الخطيب!

- كان للحياة الصعبة والمجهدة التي عاشها والسجون التي فتحت له أثر شديد على جسده النحيل ، ففقد بصره نهائياً قبل وفاته بثمانية أعوام وهو صابر محتسب.

- غمط الأستاذ حقه حياً وميتاً ولم يعلم كثيرون بموته، وصلي عليه في الجامع المحمدي غرب المِزة، ودفن في مقبلرة الدحداح يوم الخميس الثامن عشر من ربيع الثاني عام 1421هـ الموافق 20 تموز 2000م.

- حياة أبي كنانة رحلة طويلة من المحن والجهاد والبذل الذي لايعرف الحدود لهذا الدين العظيم، وقد خاف البعض حتى من حضور جنازته أو العزاء به، وإن الجبناء لا يطيقون السير مع الشجعان ويخافون أن تجتمع ولو أسماؤهم مع بعضها حتى لو جُندل الشجعان بين الصفائح وضمتهم القبور!

- اللهم أنزل عليه واسع رحمتك وطهره من ذنوبه كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، واجعله مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً ….. اللهم آمين..آمين.

كتبه : أحمد معاذ الخطيب الحسني

- المراجع : من مقابلة مع السيد محمد كنانة الخطيب

- من أوراق جمعية التمدن الإسلامي

- مذكرات الشيخ علي الطنطاوي

- ذكريات خاصة

انظر صورته في قسم الصور

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف الأعلام, الراحلون, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.