قبس من علم الخطابة -1

المنبر أمانة

إن الحمد لله نحمده ونستعين به ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، ونشهد أن سيدنا ونبينا وقائدنا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً ورحمة للعالمين أرسله ، وبعد :

فكما أن دراسة الأخلاق من كتاب لا تُورث صاحبها الخلق الرفيع ما لم يُروض الإنسان نفسه على الأخذ به ، فكذلك دراسة الخطابة وأصولها ، فالإحاطة بأصول علم ما وقواعده شيء غير الخبرة العملية به ، ولقد كان حافظ إبراهيم لا يلحن في كلامه نثراً ونظماً ، وهو لا يعرف النحو ولا الصرف ، ولم ينطق ببيت من شعره مكسوراً قط ، وإنما صار كلامه من الطراز الأول بالممارسة وتراكم الخبرة.

ودراسة أصول الخطابة إنما تأتي ثمارها عند وجود ملكة أو استعداد كامن ، أو فيض في النفس ، ولقد كان مولانا محمد إلياس \”ليس بمفوه ولا خطيب ، بل يتلعثم في بعض الأحيان ، ويضيق صدره ولا ينطلق لسانه ، ولكنه كله روح ونشاط وحماس ويقين… \” فلقد حقق القانون الذي أجلاه الإمام الجيلاني : \”كن صحيحاً تكن فصيحاً … كن صحيحاً في السر تكن فصيحاً في العلانية\” وليست الفصاحة هنا بكثرة المستمعين من الناس ، ولا علو صوت يدوي ، بل سريان فيض هداية ، ونقل الناس من القيل والقال إلى تزكية الأعمال ثم التحقق بالأحوال ، وإذا صلح قلب العبد للحق عز وجل انتقل النور من قلبه إلى قلوب العباد كسراج يقتبس من سراج ، كما يذكر الشعراني في الأنوار.

لقد قال المربون : المحبة لا تجيء بالتعليم ، بل بالمجاهدة ، فالذوق يحصل منها ، (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) ، وما كان لمتكلم لم يتذوق لذة خلوات الليل ، ولم يفض دمعه في محاريب المناجاة ؛ أن يتكلم عن التوبة والافتقار إلى الله والبكاء من خشيته ، فينتقل حاله إلى المستمعين ، فالحال يسري لا عبر المكان بل الزمان أيضاً ، ووصف ذلك الحسن البصري رحمه الله فقال : بحسبك أن أقواماً ماتوا تحيا القلوب بذكرهم ، وبحسبك أن أقواماً أحياء تقسو القلوب برؤيتهم! ومتصنع الحال لايخفى ، وما كانت النائحة يوماً كالثكلى . للصدق علامات ، وللمجاهدة أنوار و\”ما أروع كلمات الخطيب ، وما أجمل تعبيره ، ولكنني لا أجد في عينيه بريق الحب ، ولا أقرأ في وجهه نور الإيمان ، وسيماء الحب والحنان\” . بعض الخطباء وكثير من الناس يعتقدون أن خطبة الجمعة مجرد فريضة تؤدى ، ولا يعلمون أنها مفتاح تغيير شامل يمكن أن يكون من أقوى عوامل نهضة الأمة! وبسبب الكسل وقلة المعرفة وربما الغرور! صارت خطبة الجمعة تستدعي النوم بدل أن تبعث في المجتمع الحياة. (إن إقبال الناس لايطلب بل يُوهب ، وإذا حصل الإقبال لايُسرُّ به العالم الحق ، وإن سُرَّ به ضاع الإخلاص ، ويقع في الرياء) .

المتكلمون كثيرون ، ولكن من الذي يدوم تأثيره ، وكيف؟ وهل خطبة الجمعة هي مجرد فريضة تؤدَّى ، أم مفتاح لتغيير شامل في واقع الناس ؛ ينتقلون به من الفساد إلى الصلاح ، ومن الصلاح إلى الأصلح ؟ وهل لذلك التغيير قوانين؟ أم الأمر محض صدفة؟ وهل الخطابة علم متكامل ومنهج أم نتف يجمعها الخطيب ، هذه الأمور سنتحدث عنها بالتدريج ، وقد كانت بعض المناهج السابقة اللبنة الأولى في تعلم الخطابة ، وهذه لبنة ثانية ، وهي مجرد خطوة في الطريق وليست بحال آخر المطاف ، و(لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة) ، وكلنا أمل بأن تكون رفقتكم لنا لاكتشاف فن الخطابة وزيادة المعرفة فيه ، محفوفة بالتوفيق والفائدة والعمل المثمر ، الذي نرجو الله من وراءه أن يجعلنا جميعاً مفاتيح للخير ، لنكون بناة للأمان والإيمان، وعوامل استقرار ووعي في بلد البركة والإيمان والخير.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف المناهج. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.