علمني هؤلاء .. أ.عائشة الحكمي

مقال قيم فيه الحب والافتقار ومعرفة النعمة … وبعد أن تنتهي منه فكر : ماذا ستتعلم وتعلم بيتك من دروس أهل غزة (إدارة الموقع) .

قدّر الله لي العمل والتعامل مع أطفال من ذوي الحاجات الخاصة، صحيح أنهم من أبناء البشر.. إلا أنهم ملائكة من الأعماق!..وصحيح أنهم من طين وتراب..إلا أنهم نور على نور في القلوب والعقول والأحداق..
كل طفل منهم هو أستاذ عظيم في نفسه..علمني الكثير والكثير مما لم أستطع تعلمه في الجامعة من دروس وحصص، وما لم أعيه في الكتب من ثقافة وحكم، وما لم يخبرني به شيخ جليل من مواعظ وعبر..
لكل واحد منهم قصةُ فقدٍ!..قصةُ حرمانٍ من نعمة أو اثنتين من نعم الله التي أنعم بها على الإنسان السويّ العاقل!
وحده الله من يعلم الحكمة وراء ذلك، ووحده الله من سيجزيهم على ابتلاءاتهم هذه في الآخرة، لعلها أجور عظيمة مضاعفة يغبطهم عليها الأصحاء والمعافون في أبدانهم وعقولهم في الدنيا..ممن قصروا في شكر هذه النعم التي لم يحسنوا شكر ربهم عليها..
من أطفالي..الأطفال ذوي الحاجات الخاصة، تعلمتُ أسرار الحياة:
علمني الكفيف كيف أرى الحياة بأنوار البصيرة..بالإحساس العميق من الداخل..باللمس وجس النبض..
· علمني أن جمال الزهرة ليس بلونها الأحمر أو الأبيض..بل برائحتها العبقة وملمسها المخملي الناعم وهو يتلمسها بأنامله الصغيرة في محاولة منه لاستكشاف معنى الزهرة..لا شكلها الخارجي!
· وأن جمال الشمس ليس في ضوئها الباهر للعيون، ولا في منظر شروقها أو غروبها تحت البحار.. بل بدفء أشعتها وهي تتكسر بعذوبة فوق أجساد البشر..وأوراق والورد..وأمواج البحر..
· علمني أن الطيور جميلة..لا لأنها تبدو صغيرة وساحرة في السماء، ولا لأنها حرة وطليقة في الأجواء..ولكن لأن لها أصواتٍ موسيقية عذبة..تُطرب بها آذان الناس كل صباح..
· وأن التفاح فاكهة حلوة..لا لأن للتفاح لونا أحمر وأصفر وأخضر..ولا لأن شكل التفاح رائع ومغرٍ للنظر..ولكن لأن للتفاح طعم لذيذ..ورائحة زكية وجميلة..
علمني الأصم أنني حقا أستطيع العيش بلا لسان!، لأنني مهما تكلمت فلن يسمع صوتي!، ومهما غنيت فلن يطرب لغنائي!.. لن يبهره أبدا أن أتحدث بعدة لغات!..
· علمني..أن لغة الجسد هي اللغة الأجمل لإيصال الرسائل وبث المشاعر، علمني أن العيون قد تقول أكثر مما قد تقول..وأن اليدين قد تحكيان العديد من القصص..وأن ابتسامتي هي أفضل كلمة يمكن أن أنطقها بفمي!
· علمني أن الدموع وحدها هي حديث الشكوى وبث الأحزان..وأن شكل الضحكة لا صوتها هو حديث الفرح والسعادة..
· علمني كيف أصغي للناس بقلبي لا بأذني..وأن الحياة مستمرة بلا كلام..بلا ثرثرة..بلا جدال..أو فصاحة لسان!
علمني الأبكم كيف أعبر عن شعوري دون حاجة لنطق حرف!..كيف أهزم خصومي بنظرة مفحمة..لا بنبرة عالية!
· كيف أتحدث بالكتابة وأعبر بالقلم وأهمس بأصابع يدي.. دون حاجة للمواجهة عينا بعين!
· علمني أن أجمل الأصوات ليس صوتي بلا شك..وأنني قد أطرِب كل مَن حولي من دون أن أغني..ومن دون أن أهمس أو أبوح أو أتأوه!
· علمني أن اللسان ليس ملك الجوارح إطلاقا..لأننا حقا نستطيع أن نعيش بلا لسان!
علمني المعاق عقليا..أن وجودي وغيابي لا يعنيان شيئا!..فهو يعيش في عالمه..وبأحاسيسه التي لم أستطع بعلمي المحدود أن أدركها ولا أدري كيف لي أن أدركها بعقلي رغم أنه في رأسي!
· علمني أن الملائكة ترافقنا دائما..لأنني كلما كنت معه شعرت بجو الملائكة يملأ المكان! نور على نور يمنح هؤلاء الأطفال سعادة وبهجة لم يستطع علم النفس تفسير معناها..كيف لطفل أن يضحك بسعادة بدون سبب؟ وبدون وجود أحد؟
· علمني أن البشر ليسوا بحاجة إلى بشر.. مادامت الملائكة تصحبهم صباح مساء!!
علمني الطفل المنغولي (المصاب بمتلازمة داون) مفهوما آخر للسعادة!
· علمني كيف أنتصر على الحزن والألم برؤية الحياة بمنتهى السعادة!
· علمني كيف أكون سعيدة رغم كل عيوبي ورغم اختلافي..ورغم أن الدنيا لا تحتمل من هم أمثالي!
· أجل هؤلاء هم معلمو السعادة..لا تملك إلا أن تضحك من كل شيء، لا لأنه مضحك بل لأنه شيء يبعث حقا على السعادة!..إنها الحياة..فلم َ لا نسعد بها؟؟
علمني الطفل التوحدي كيف أستطيع العيش بلا أحضان!..أو قبلات!..أو عاطفة!
· علمني كيف أبقى وحيدة من دون أن يؤلمني هذا في شيء!..منه تعلمت أن الوحدة هي أجمل رفيق!..وأن سكون الليل هو الدواء الأجمل للأحزان العميقة!
علمني المُقعَد كيف أستمتع بالجلوس أرضا!..منه تعلمت أن المشي قد يقودنا إلى طريق غير صائب!..و أن جاذبية الأرض نعمة رائعة، لولاها ما كنا مستقرين وثابتين!
· علمني أن الحياة مستمرة وإن توقفنا عن المضي! وأن العمر يمضي مهما بقينا في أماكننا ومهما كبرنا وضاق علينا ذلك الكرسي الصغير..
· تمضي الحياة بنا..سواء وقفنا أم جلسنا!!..سواء ركضنا أم زحفنا!!
· المهم أن نتقبل الحياة بكل تغيراتها التي تنطبع على ملامحنا، وأن نصمد على ابتلاءاتها لنصل إلى مبتغانا، وأن هناك بدائل كثيرة يمكننا الاستناد عليها لنستمر..كل شيء قد يساعدنا على المضي في الحياة كالجدار..والعكاز..واليد المحبة..والأرض..والمقاعد المجاورة..كلها أشياء إن أمسكنا بها يمكن لها أن تسند ضعفنا وتساعدنا على المضي في الدنيا!
فالحمد لله يا رب على نعمائك..كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك..
الحمد لله على نعمة البصر.. التي فقدها المكفوفون
الحمد لله على نعمة السمع.. التي فقدها الصُّم!
الحمد لله على نعمة النطق..التي فقدها البُكم!
الحمد لله على نعمة العقل..التي فقدها المعاقون ذهنيا!
الحمد لله على نعمة العاطفة والأحاسيس الداخلية..التي فقدها أطفال التوحد!
الحمد لله على نعمة الشكل السوي التي فقدها المنغوليون!
والحمد لله على نعمة المشي والجري والركض..التي فقدها المقعدون!
ما كنت يا رب لأشعر بكل هذه النعم إلا حين رأيت غيري فاقداً لها!..وما كنت لأدرك أن الحياة مستمرة بدون هذه الأشياء لولا رؤيتي لهؤلاء الأطفال وهم يعيشون بسعادة ورضا من دونها!
فيا رب..يا رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين..

منقول عن :
http://www.hayran.info/articles.php?catid=77&id=431

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف تذكرة, منائر. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.