دور السياسة الدولية في إثارة النعرات الطائفية والوعي الإسلامي تجاهها - 4

المبحث الرابع: فكر محلق فوق الطائفية
يقول أحد مؤسسي جمعية التمدن الإسلامي وعلمائها، عبد الفتاح الإمام: “يجب الانتباه إلى أننا أمة واحدة، إلهنا واحد … وأعمالنا للدين والدنيا ترجع إلى أصل واحد … فمن أين جاء التفرق والخصام؟ لاشك أن للسياسة الغاشمة يداً في هذا التفريق …”[1].
إن من لم يكن مسلماً بالدين فهو مسلم بالثقافة، وبالتالي فإن مكونات الأمة كلها بمسلميها ومسيحييها ينبغي أن تكون يداً واحدة لبناء وطن آمن ومستقر ، وفيما بلي بعض اللفتات التي وجدها الباحث عن علاقة جمعية التمدن الإسلامي بكافة الأطياف في سورية، مع الاعتذار عن عدم استيفاء الأمر حقه، بسبب اتساعه.

أولاً: العلاقة مع المسيحيين:
تحظى المسيحية في الوجدان الإسلامي باحترام مميز[2]، ويكفي ماذكرته سورتا الروم ومريم عليها السلام لبيان ذلك، ولكن هناك فتوراً ملاحظاً في العلاقات بين المسلمين والمسيحيين[3]، وقد حاول رجال التمدن ردم الهوة بين الطرفين، فكتب الأستاذ أبو عصام[4] مقالاً بعنوان: نشاط الإسلام عند نصارى العرب[5]، وحاول النفاذ فيه إلى الحقائق المجردة فقال: “إذا حصل ما يعكر الصفاء بين المسلمين ونصارى هذه البلاد في بعض الظروف فهذا ناجم : عن دسائس الدول الاستعمارية التي تعمل دوماً، بالخفاء على تفريق أبناء الوطن، وتعصبِ بعض رجال الدين الذين يسعون (جهلاً وحمقاً) لإلقاء العداوة والبغضاء بين البسطاء باسم الدين … والدين الإسلامي والمسيحي بريئان من جرائمهم[6] …وتعصب بعض الولاة من المسلمين الذين كانوا يجهلون أبسط مبادئ دينهم”[7].
مما يلفت النظر عندما أنشئت مدرسة التمدن الإسلامي عام 1945، أنها استعانت بثلاثة مدرسين مسيحيين[8]، [الوثيقة رقم 1] وهم: ريمون هبرا ، أنطون جناوي ، جوزيف السبع، ليس لقلة المدرسين المسلمين، بل بحثاً عن أرقى المستويات التعليمية من أجل المصلحة العامة، كما أن مستوصف الجمعية الذي أسس عام 1959، قد استعان بطبيب مسيحي هو جورج كساب[9]، وهذه سابقة ليس سببها الحاجة بل الانفتاح والتعاضد.
شكل فكر التمدن زاداً مميزاً للمهاجرين يربطهم ببلادهم ولغتهم، إن لم يكن بعقيدتهم ودينهم، حتى إن الأديب المهجري الكبير إلياس قنصل أرسل رسالة بتاريخ 29أيلول 1975م يطلب فيها إرسال نسخ من كتاب : (النبي محمد r، كلمات بأقلام نخبة من الباحثين والأدباء المسيحيين المنصفين) والذي نشرته الجمعية عام 1964م، مردفاً: “وأغتنم السانحة لأسجل عميق إعجابي بما قمتم به وتقومون من جهود موفقة جبارة لرفع شأن العروبة، وأسأل الله أن يديمكم سنداً لها وتفضلوا بقبول فائق احترامي .. [الوثيقة رقم 2][10]”، وقد قامت الجمعية بإرسال بعض الكتب هدية إليه، وهذا يدل على الأفق الواسع الذي يتجاوز الطائفية، ويعمل من خلال مصلحة عليا للجميع.
ويبلغ الوعي المشترك درجة أنه قد”عُرض أمر مساعٍ تبذل لاتحاد (إسلامي- نصراني) لمكافحة الرذائل التي ينكرها الدينان، فتقرر المساهمة في هذه الفكرة”[11]، وليت مؤسسات المجتمع المدني تجد فسحة كافية لتنطلق بمثل هذه الإطارات، في عمل إيجابي يعود خيره على الجميع.
من الأمور المميزة في وعي الإسلاميين عموماً ورجال التمدن خصوصاً، هو ذلك الإدراك للمصالح الوطنية التي تجمعهم، وسعيهم للتعاون مع كافة الأطراف الطائفية لتحقيقها، ومثال ذلك انتخابات عام 1947، حيث برزت هناك قائمة سميت: قائمة الأمة [الوثيقة رقم3]، وقد أيدتها رابطة العلماء ورجالات الوطنية والعلم والجهاد، وقد ضمت وطنيين كبار مثل زكي الخطيب وحسن الحكيم، ورجال التيارات الإسلامية مثل محمد المبارك وعبد الحميد الطباع وعارف الطرقجي، وعلي الطنطاوي، وأبرز شخصيات التمدن: أحمد مظهر العظمة[12]، ولكن المدهش أيضاً أنها ضمت: فارس الخوري، عن الطوائف المسيحية غير الممثلة، وقسطنطين منسي عن الروم الأرثوذوكس، وفريد أرسلانيان عن الأرمن.
يصعب على غير السوريين فهم الحادثة التالية: “عندما أصبح فارس الخوري رئيساً لوزراء سورية سكن في منزل يقابل جامع الأفرم [منطقة شورى-المهاجرين] ، وكان مؤذن المسجد هو أكرم خُلقي [رسام له محل في منطقة الطلياني] وفكر كما يلي: إن دولة رئيس الوزراء يقوم بمهمات عظيمة ولا شك أنه متعب وربما لم ينم إلا قبل قليل، وإذا رفعت صوتي بالأذان للصلاة [لم يكن وقتها هناك مكبرات للصوت] فربما أوقظه، ومصالح الناس تقتضي أن ينال الراحة الكافية ليتابع خدمتهم! واتجه أكرم خُلُقي من الباب الجنوبي ليؤذن عند الباب الشمالي! كي لا يصل الصوت إلى بيت رئيس الوزراء! وفي اليوم التالي استدعى فارس الخوري مؤذن المسجد وسأله عن سبب عدم رفع الأذان البارحة! فأخبره المؤذن بالقصة فانزعج الخوري قائلاً: هل تعلم أنني لا أنام قبل أن استمع إلى نداوة أذان الفجر واستلهم منه مايعينني على متابعة أعمالي! غداً يكون الأذان كالمعتاد! وهكذا كان”[13]
إن للمجتمع السوري خصوصيته التاريخية والاجتماعية المميزة، التي تتجلى دائماً في صور فائقة الوعي والأداء.

ثانياً: العلاقة مع الشيعة:
ربما لم يحصل شرخ في تاريخ الأمة كمثل الشرخ الذي حصل بين السنة والشيعة، ولا زال الباحث يعتقد رغم كل الإشكاليات الموجودة بين الطرفين، أن العقلاء يمكن أن يزيلوا العداء، ,حتى إذا لم يزل الجفاء، وكان للجمعية سبق في التواصل، فقد قررت “الكتابة إلى السيد محسن الأمين وإلى الشيخ عبد الفتاح الإمام، بشأن المركز التبشيري في دمشق”[14]. وذكرت المجلة مايلي: “اقترحنا على سماحته كتابة كلمة في هذا الموضوع فتفضل بهذا المقال”، ونشر بعنوان : الاتحاد سعادة والتفرق خسران ، لسماحة العلامة الأستاذ السيد محسن الأمين العاملي[15] ، وفي الهامش: وفي نفس العدد مقال[16] بعنوان : “عبرة الذكرى النبوية” للأستاذ أحمد صندوق [مدير المدرسة المحسنية].
ويقول أحمد مظهر العظمة، مخرجاً الشيعة مما ابتلي به أكثرهم نتيجة غلو بعضهم: “وعلى كل فإن هذا الطرف البعيد الذي نفخ فيه أصحاب الأغراض المسمومة ليس يعني أن التشيع كله كذلك، وإنما يعني الغلو الذي خرج بأهله عن حظيرة الحق والاعتدال.فالشيعة فرق عدة منهم المغالي المتطرف حتى بلوغ درجة الكفر فلا يعد من الفرق الإسلامية في شيء … ومنهم المقتصد الذي لم يغل هذه المغالاة بل بقي على أركان الإيمان والإسلام. ولا يلتفت إلى نقل القدح (في الشيخين أبي بكر وعمر) من غلاتهم فهو مردود عندنا وعندهم”[17].
يشير الباحث إلى مقال مهم كتبه يتعلق بالعلاقة مع الشيعة وإيران ومنعها من امتلاك الطاقة الذرية، فيرجى الاطلاع عليه [ملحق رقم 1].

[1] - عبد الفتاح الإمام، خلاصة الدواء، مجلة التمدن الإسلامي، مرجع سابق، السنة 12،1366هـ، 399.
[2]- أطلق الإسلام كلمة أهل الذمة على من يعيشون في رحاب مجتمع المسلمين من غير المسلمين (اليهود والنصارى)، والذمة في اللغة تعني: العهد والضمان والأمان، ولا يحمل الأمر أي معنى سلبي، ولكن صار هناك نفور منه عند بعض غير المسلمين معتبرين أنه يتضمن نوعاً من الوصاية غير المقبولة! في هذا الزمان، والشريعة تبحث أولاً عن المعاني ثم المباني، ولا مُشاحَّة في الاصطلاح، لذا كتب المفكر الإسلامي: فهمي هويدي كتاباً مميزاً سماه: مواطنون لا ذميون (موقع غير المسلمين في مجتمع المسلمين)، وقد نشرته دار الشروق، 1420هـ/1999م،ط3، وينصح الباحث بقراءته لمن تهمهم هذه المواضيع. كما ينصح بقراءة فصل مهم حول الموضوع في كتاب الجهاد للعلامة الدكتور يوسف القرضاوي، القاهرة، مكتبة وهبة، 1430هـ/2009م.
[3] - يشعر كثير أو قليل من المسيحيين بنوع من القلق بسبب زيادة الغرق في المحيط الإسلامي، وقد هاجر العديدون منهم بسبب ذلك، وهناك واجب أخلاقي على الجميع القيام به، وهو زيادة التراحم والتواصل بينهم، والقفز فوق الظروف القاهرة والتعكيرات الطائفية والتي تسوق الجميع إلى الهاوية.
[4] - نشر المقال باسم أبي عصام دون تفصيل، ويغلب على ظن الباحث أنه خير الله صبحي الجعفري.
[5] - استخدمت كلمة النصارى في القرآن الكريم لوصف أتباع روح الله وكلمته عيسى عليه السلام، فقال تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) (المائدة -82)، وقد لاحظ الباحث أن هناك عدم ارتياح من بعض المسيحيين لاستخدامها، وضمن حدود علمه فهو لا يعتقد أن هناك أي إشكال شرعي في استخدام كلمة المسيحيين إن كانت هي ما يحبه القوم لأنفسهم، مع العلم أن كلمة نصارى استخدمت من قبل المسيحيين أنفسهم تاريخياً في كثير من المواضع.
[6] - إن حوادث التصفيات الدموية في العراق طالت الجميع مسلمين (سنة وشيعة)، عرباً وأكراداً، مسيحيين ويزيديين، ولا يشك الباحث أن هناك قوى إقليمية وعالمية وراءها، ولكن الأكثر خطورة هو الاقتلاع والتصفية لبعض الطوائف الصغيرة، والتي هي أقدم سكان المنطقة، وعلى سبيل المثال فإن الطائفة السريانية هي إحدى الطوائف التي تتعرض لتصفية مخيفة في ظل صمت محلي ودولي مريب. وما من دين أنزله الله يرضى بذلك الإجرام كائناً ماكانت دوافعه، وانظر موقع: http://www.marefa.org للاطلاع على تاريخ الكنسية السريانية الأرثوذكسية.
[7] - مجلة التمدن الإسلامي، مرجع سابق، السنة 14، شعبان 1367هـ/ 1948م، 205.
[8] - انظر غلاف التمدن، مرجع سابق، السنة 11، شوال 1364هـ=1945.
[9] - انظر سجلات مستوصف جمعية التمدن في سنواته الأولى. وجدير بالذكر أن الجمعية ضمت كبار أطباء سورية، ومنهم الدكتور محمد جميل الخاني: رئيس الجمعية ونقيب الأطباء، والدكتور حمدي الخياط: نقيب الأطباء، وهما من مؤسسي كلية الطب، والدكتور شوكت الشطي والدكتورعبد الوهاب القنواتي شيخ الصيادلة ونقيبهم، وغيرهم، ومن أبرز أطبائها الحاليين الدكتور هيثم الخياط كبير مستشاري منظمة الصحة العالمية للشرق الأوسط وشمال أفريقية.
[10] - كتبت الوثيقة على الآلة الكاتبة ووقعها الأستاذ قنصل وكتب عنوانه بخطه، وتحته خط الأستاذ العظمة للكتب التي أرسلت إلى قنصل.
[11] - سجل القرارات، مرجع سابق، الجلسة 61 (24 شوال 1367هـ/ 29 آب 1948م)، 166.
[12] - نال أحمد مظهر العظمة 22254 صوتاً، ولطفي الحفار 21672 صوتاً، وصبري العسلي 20463 صوتاً، وحسن الحكيم 18166 صوتاً، وخالد بكداش 9886 صوتاً، بينما لم ينل ميشيل عفلق إلا 10630 صوتاً. وقد تدخلت الولايات المتحدة في تلك الانتخابات بشكل فج مما شرح سابقاً وغيرت من نتائجها، وانظر لتفاصيل الانتخابات: - جريدة بردى اليومية، لصاحبيها: جورج فارس ومنير الريس، السنة الثانية، العدد 301، 24 شعبان 1366هـ/13 تموز 1947م، الصفحة الرئيسية.
[13] - حدثني بالقصة أكثر من مرة: المؤرخ الدكتور شوقي أبو خليل نقلاً عن الأستاذ هاني المبارك، وكان حاضراً المؤرخ الدكتور نزار أباظة، في دار الفكر بدمشق وصاغها الباحث بأسلوبه.
[14] - سجل القرارات، مرجع سابق، الجلسة 39، (2 ذي الحجة 1357هـ/ 10ت الثاني 1938م)، الفقرة 1، 85.
[15] - السيد محسن العاملي، من كبار علماء الطائفية الشيعية، وآخر المراجع العظام في بلاد الشام، وله مؤلفات كثيرة، وكان ذا أفق واسع وحاول الخروج بالطائفة من بعض العادات السلبية، وإليه تنسب المدرسة المحسنية.
وقد نشرت المقالة في مجلة التمدن جمادى الآخرة 1367هـ/نيسان 1948م، السنة 14،6.
[16] - المرجع نفسه، مجلد السنة 14،10.
[17] - أحمد مظهر العظمة، حضارتنا، س 12، رجب 1365هـ، 223. والجملة الأخيرة منقولة عن مقدمة ابن خلدون، 164.

هذه التدوينة كُتبت في التصنيف المناهج. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

التعليقات مغلقة.